أحمد عواد الخزاعي٭
تداخل في المشاهد والأحداث (المسرودات)، قصص جانبية، سير ذاتية، مقتطفات حياتية واقعية من الحياة البغدادية بعد الاحتلال الأمريكي 2003، يجري كل هذا بالاستعانة بتقنيات مبتكرة، تعتمد في إطارها العام على أسلوب الحكواتي السارد العليم، الذي يحدث عن الأخبار والأحداث بوجهها العام ويطرح آراءه السياسية والاجتماعية، ويترك الكثير من التفاصيل للسارد الضمني البطل يوسف النجار، وسارد آخر مجهول يطل على النص بشروحات وتعليقات بين طيات السطور، بانوراما سردية لم تخل من الانزياحات والاستعارات، سارد خارجي يخاطب الجمهور (القراء) تارة، وتارة أخرى يخاطب بطل النص بطريقة استفهامية، ثم يوجه الحديث له بدلا من القارئ، تقنية سردية حداثية تضع القارئ أمام رؤية جديدة للفن الروائي، مع انتقالات سريعة في المشاهد، وتبادل أدوار السرد.. هذا ما يلمسه القارئ عند مطالعته لرواية «الذئاب على الأبواب» للروائي أحمد خلف الصادرة سنة 2018 عند دار النخبة.
نص يخاطب الضمير الإنساني ويسلط الضوء على حقبة مهمة من تاريخ العراق الحديث، أراد من خلاله أن يبين أحمد خلف حجم المأساة التي عاشها بطله والذي يمثل أيقونة لشريحة مهمة من الشعب العراقي، عاشت محنة الفوضى بعد الاحتلال الأمريكي، مستعينا بأكثر من راو ليغطي تلك المساحة الكبيرة المفتوحة على الفوضى والقتل والخوف والفساد بكل أنواعه وأشكاله.
البطل يوسف النجار مواطن عراقي يعيش حالة من التعالق مع الماضي، بطريقة مشيمية، يستحضره عبر تسلسل زمني خاضع للظرف النفسي الذي يمر به، والوعي الآني الذي يعيشه بدءا بطفولته المضطربة وانتهاء بمقتل زوجته وابنته على يد إحدى الجماعات المسلحة المجهولة، مرورا بحياته الجامعية وخدمته العسكرية وساحات الحروب، كل هذا الكم من الذكريات ترتد عليه بطريقة تجعل من حياته القائمة محض لغز وتساؤلات ومشاعر إنسانية محطمة ومحبطة، يسودها (الخوف والترقب والإثارة والشك).
إن إحاطة الكاتب لهذا البطل بهالة من الغموض وعدم الوضوح وغياب عدة تفاصيل مهمة قد تساعد القارئ في معرفة أسباب ملاحقة المجموعة المسلحة له وقتلها لعائلته، لم يكن اعتباطيا أو خارجا عن إرادته، ولا يحمل نزعة بوليسية، بقدر ما هو غموض مفتعل تعمده الروائي لأسباب أشار إليها السارد الثالث المجهول بقوله (ويرجح إن الراوي العليم هو الذي تدخل في إعطاء يوسف النجار حالة من الغموض، لكي يدفع عنه أي تهمة طائفية أو حزبية أو فئوية يلفقها مغرضون أطلق عليهم المرضى أو الشاذين).
هذه الخلطة من المشاعر الإنسانية جعلت من يوسف النجار بطلا إشكاليا، حسب تصنيف لوكاش، يعيش الماضي والحاضر برؤية هي أقرب إلى الهذيان في بعض محطات حياته، لكنها اتسمت بالغالب بوعي قائم رافض لكل ما هو حوله، استطاع من خلاله البطل تشخيص كل مواطن الخلل التي أدت إلى هذا التداعي، والسوء في الوضع العراقي، فقد جعل أحمد خلف من بطله شماعة علق عليها آراءه وتصوراته عن الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي العراقي الحالي، وانتقد الوضع الذي نشأ بعد الاحتلال الأمريكي بجرأة ومصداقية عاليتين، وهذا هو دور الأدب الحقيقي في الحياة، كما عرفه المفكر الفرنسي فرنسيس أيغلتون، بوصفه أيديولوجية واعية تعمل من أجل إعادة بناء النظام الاجتماعي في سنوات التمزق الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والاضطراب السياسي الذي يلي الحروب.
أسماء أبطال الرواية تمثل متلازمة لفظية رافقت بعضا من روايات أحمد خلف السابقة، كما في رواية «نداء قديم» حيث حملت هذه الأسماء نزعة إيحائية فلسفية مستمدة من الدين والتراث (يوسف النجار) البطل الرئيسي، وأبطال الظل (يونس الغطاس وأيوب).
يوسف النجار المواطن العراقي صاحب التاريخ المليء بالمفارقات الاجتماعية، ورب أسرة صغيرة تتكون من زوجة وابنة، وجد هذا الشخص نفسه وحيدا بعد أن فقد أسرته بتفجير منزلهم، من قبل مجموعة مسلحة مجهولة، ثم ما لبث أن أصبح مطاردا من قبل تلك المجموعة المسلحة لأسباب غامضة ومجهولة، يجبره هذا الوضع الشائك على العيش بطريقة متخفية، متوجسا من كل ما حوله حتى (عبير) المرأة الأربعينية التي ظهرت في حياته فجأة، والتي كانت تمثل ذكرى من حياة جامعية جميلة مرت به قبل عقود. هذه المتوالية الحياتية الصعبة في حياة هذا المواطن العراقي استثمرها أحمد خلف ليفتح فوهة قلمه على كل ما هو سلبي في المشهد العراقي القائم، حتى استطال نصه إلى أكثر من ثلاثمئة صفحة، كان معظمها يمثل نظرة أحادية بنيوية ناضجة، فككت الوضع العراقي وشخصت مواطن الخلل فيه بوضوح.. ليُنهي روايته الماراثونية بأن يختار لبطله المواجهة مع أعدائه المفترضين، بديلا عن التخفي والهروب، في مشهد دراماتيكي تُرك مفتوحا عائما على عدة احتمالات وتوقعات، غير إن هذه النهاية تشير إلى أن «الذئاب على الأبواب» قد استنزفت من الروائي الكثير على الصعيد النفسي والعاطفي، وأجهدت مشاعره وأحاسيسه ككاتب يحمل مسؤولية تاريخية اتجاه قلمه وبلده (تيقن من وضع سلاحه تحت طيات ثيابه، قام بفحص السلاح الناري قبل الهبوط نحو الأسفل، تأكد من وجود إطلاقات داخل السبطانة، أعاد مسدسه ورتب هندامه، أغلق الباب وراءه وهبط لملاقاة الرجلين استجابة لتحديهما العنيد).
أهم مرتكزات النص
1- العنوان: تمثل العنونة العتبة الأولى للنص، وقد تمثل رؤية استشرافية استباقية له، أو اختزالا لغويا يحمل رمزية دلالية تشير إلى قصديته وفلسفته، «الذئاب على الأبواب» هذه العبارة نجدها حاضرة ببعدها الدلالي والرمزي، الذي يمثله الذئب في الميثولوجيا الاجتماعية والتاريخية (الخطر الداهم، الغدر، التوحش) والذي مثلها في هذا النص ليس الجماعة المسلحة المجهولة وحسب، بل كل الوضع السيئ الراهن الذي جعل من المواطن العراقي (الضحية) رهينة لكل إرهاصاته وتحدياته.. رمزية الذئب تكررت في أعمال أحمد خلف الروائية، وكان أبرزها في روايته الخالدة «موت الأب» وتلك العبارة الفلسفية المؤثرة العميقة التي أطلقها بطل تلك الرواية، والتي لا تبتعد في دلالتها عن عنوان هذه الرواية حين رأى تمثال برونزي لذئب يقف عند باب أحد البيوت (متى كانت الذئاب حامية للديار).
2- الأسماء: كانت أسماء أبطال الرواية تمثل متلازمة لفظية رافقت بعضا من روايات أحمد خلف السابقة، كما في رواية «نداء قديم» حيث حملت هذه الأسماء نزعة إيحائية فلسفية مستمدة من الدين والتراث (يوسف النجار) البطل الرئيسي، وأبطال الظل (يونس الغطاس وأيوب).
3- اللغة: اتسمت لغة النص بكونها سلسة مطواعة، وامتازت بالتنوع بين التقليد والحداثة، ومقاربات لغوية لألف ليلة وليلة، وانتقالات لغوية رافقت الانتقالات السردية، تناغمت بحسب طبيعة السارد وموقعه من النص، أما الحوارات فتداخلت بين الماضي والحاضر، وبنسق لفظي واحد، اعتمد النضج في الطرح ورؤية متزنة للواقع، شملت جميع المتحاورين تقريبا، كذلك شهد النص انتقالات مفاجئة وسريعة بين ضمائر المخاطب الحاضر والغائب.
4- تعدد الرواة: تميز النص بتعدد الرواة بين سارد خارجي عليم يمثل الروائي نفسه، أحاط بالجزء الأكبر لأحداث وتفاصيل الرواية، عَبر سرد مُسهب وتعليقات على الأحداث والوضع العراقي بشكل عام، وسارد مجهول لا نعلم موقعه من النص، ينقل عن السارد العليم في بعض الأحيان، وسارد داخلي ضمني يمثل البطل يوسف النجار. وقد أشار إلى هذا الأسلوب بتقنية الاستباق في مقدمة الرواية، منعا لحدوث أي التباس أو ضبابية لدى القارئ.. هؤلاء الرواة أدار بهم أحمد خلف نصه بنجاح وحرفية، مستعينا بخبرته الأدبية الطويلة، ليشكل هذا التناوب السردي للأحداث رؤية ثلاثية الأبعاد للواقع العراقي الحالي، فكانت الرواية هي أقرب إلى ما اصطلح عليه (الفن النقدي) الذي يمنحنا القدرة على رؤية آلاف الخيوط التي تربطنا كأفراد ظاهريا مع بيئتنا وواقعنا المعاش.
٭ كاتب عراقي