تحت هذا العنوان يمكننا الحديث عن ضرورة العودة إلى الذات، أو البحث عن سبل وإمكانات ازدهار الذات الإنسانية. فلم تعد الحياة الاجتماعية والحياة الدولية بشكل عام تساعد الإنسان على تفتح عوالمه الداخلية ومكامنه الذاتية، التي تحتاج إلى ما يفجر إمكاناتها وما تختزنه من قيم وذخائر وثراء.
فقد سادت حالة الإنسان المشتت والمفتت، الذي تتوزعه أعباء وفرص ومناسبات لا يريدها أصلا، فضلا عن أن الدعاية والإشهار، وحالة الاستعجال دعته إلى التخلي عن رغباته، وعن هويته وتفكيره، لكي يجاري مطالب أخرى غير تلك التي يعبر فيها عن نفسه، ما يعني في التحليل الأخير، أن الإنسان يفقد أكثر مما يكتسب ولو بدون وعي كامل، أي أنه يتعرض للاستلاب والاغتراب عن نفسه، فضلا عن المجتمع الذي يعيش فيه والمجتمع الدولي الذي ينتمي إليه بشكل من الأشكال.
وهكذا، واليوم وقبل الغد، يجب البحث عن سبل إعادة الوئام والانسجام إلى الذات في أرقى أشكال وعيها، قبل أن تغوص في دياجير الأصولية والغلو، وأشكال العقائد المتكلسة والمتطرفة، التي تجلب الدمار والخراب واليباب. ففي الوقت الذي تتفتت فيه علاقات وأواصر تربط الإنسان بالمجتمع، بسبب الأزمة الشاملة والعارمة، نجد أن الدول المتخلفة والفقيرة صارت تَتَأَبَّى عن الإصلاح والتطور وتضيق بالديمقراطية، والشواهد كثيرة على انهيار حكومات ودول بسبب مجازفتها، ومحاولة انفتاحها على الديمقراطية، كأفضل سبيل للانخراط في التاريخ الخاص بالدولة والمجتمع. ومن هنا تصبح العودة إلى الذات كمعيار ما تتوفر عليه من رصيد وجداني وركام حضاري، يسمح بالمغامرة في السعي إلى الديمقراطية. لأن الديمقراطية كقيمة معيارية تحتاج من بين ما تحتاج إلى ذات عالمة بأنها تعيش في عالم ثقافي، تعي رموزه ومعانيه الحقيقية. ويرى في هذا الصدد المفكر الفرنسي آلان توران أن أهم مصادر الذات اكتشاف أن الإنسان كائن ثقافي: «لا يمكننا أن نكون حقيقة ذواتا، إلا بعد أن نعترف ونعَرِّف بأنفسنا كأفراد يدافعون ويشيّدون ذواتهم الفردية، ونستطيع أن نعطي من خلال أعمالنا معنى لوجودنا».
جائحة كورونا» وضعت الكل أمام المحك وحيال الامتحان الصعب الذي يفقد فيه الطرف القوي القدرة على التصرف لوحده
إن وعي الإنسان المعاصر، في سياق العولمة الفائقة يعني امتلاك الذات لإمكاناتها، حقوقها الاجتماعية، الاقتصادية وخاصة الثقافية، لأن هذه الأخيرة هي التي تجعل الإنسان ينفرد بخصوصيته وهويته الخاصة، واستقلاله ومعنى وجوده الحقيقي، وليس الوهمي أو الافتراضي، أو كما تحاول أن تضعه فيه المؤسسات القائمة على الفساد والتعميم والتجريد، التي لا تقيم وزنا للحالة الفردية في ظل ما يعرف بالقطيعة بين الدولة والمجتمع، خاصة في البلدان العربية: الدولة ضد الأمة، الدولة ضد المجتمع، الدولة ضد رعاياها.
يزخر المجال الثقافي بموارد هائلة من التنوع والتعدد والثراء الإنساني، في مجال الأدب والعلم والفنون وطرق العيش وأنماط السلوك والتصرف والتدبير، ويكفي تعميم هذا الوعي بقيمة ما تزخر به أرصدة المجتمعات والثقافات، لكي يصبح هذا التنوع قيمة إنسانية، تضاف إلى القيم الأخلاقية والمعنوية الأخرى، التي تدعم الحد الأدنى الثقافي في العالم، ويغدو كل ذلك مصدرا من مصادر التنمية البشرية/ الإنسانية. فالثقافة بما تنطوي عليه من أخلاق ودين وعلم وفن، تكشف عن حقيقة هذا التنوع والاختلاف والتعدد، وتحاول أن ترتقي به إلى الوعي الكوني، بفضل وسائل الاتصال والمواصلات وشبكة الميديا والعالم الافتراضي والتكنولوجيا الناعمة. ويكفي توزيع هذه الوسائل حتى يقتنع الجميع بها كحقيقة في ذاتها، أي الاعتراف الإيجابي بحقيقة التنوع، كحالة ملازمة لتطور الإنسانية وصياغة مصيرها، الذي يمكنها من تلافي التعصب والتطرف والغلو، التي عادة ما تفضي إلى القتل، العنف والإرهاب. إن فكرة الآخر، يجب أن تنسحب على دول العالم، كما هي متداولة بين البشر، أي الإنسان وصنوه في المجتمع الوطني. فقد شهد العالم طوال القرن العشرين حالة من تزايد الدول والمؤسسات الدولية والقارية والجهوية رسمية وغير رسمية، حكومية وغير حكومية، وقد تسببت في حروب وويلات، بسبب سوء تقدير الآخر، وعدم احترامه. فقد كان الجميع يقيس مصالحه وامتيازاته وحقوقه، حيث تمتد وتنتهي أنَّاه، وهي الفكرة التي كانت امتدادا وتكريسا لمفهوم المركزية الأوروبية، سيطرت بسببها الدول الأوروبية على مقدرات وثروات شعوب العالم الآخر، الذي أعدمته النظرة الأنوية (نسبة إلى الأنا). لكن كل شيء تغير بعد الحرب العالمية الثانية، لأن نزعة إعدام الآخر جاءت هذه المرة قوية جدا، ومن صلب الثقافة الأوروبية، متمثلة في الفاشية والنازية اللتين مزقتا النادي الأوروبي، وبالتالي العقل الأوروبي الذي لم يعد يحتكر حقيقة الحداثة لوحده، عندما استطاعت الحركات الوطنية أن تدحر الاستعمار، وتؤشر إلى فساد العقل الأوروبي، الذي لم يكن تنويرا فحسب، بل كان يثوي جوانب معتمة من رفض الآخر، وعالما لا معقولا من التفكير والممارسة، كما كان لحادثة محرقة اليهود، الشاهد القوي على هرطقة العقل الأوروبي، ومنها راح الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس (يهودي من أوصول ليتوانية) يستخلص فكرة الآخر، ورأى أن الاستعمار أدى إلى تغريب العقل الأوروبي عن ذاته وأصوله الإنسانية وأفقه العالمي، وأنه من الخطأ الفادح اختزال القيمة الإنسانية في المسار الأوروبي والثقافة الغربية. فقوام الآخر كما يرى ليفيناس هو «الأنا» أو «النحن» الذي لا يعرف ولا يدرك كنهه إلا بتقدير الآخر، كطرف في معادلة الهوية أو الماهية. فالأنا أو الذات هي أيضا منظور الآخر إليّ، وليس فقط ما أنظر أنا به إلى الآخر أو الغير. ولعل هذا ما يضعنا على بداية الطريق الذي لا يخطئ في حق الآخرين عندما يرومون العيش معا.
عندما نبحث عن معادل لهذا الكلام في ما يجري اليوم في عالمنا المعاصر جدّا، لأن العالم كله، وفي لحظة واحدة يشعر بحالة اجتياح عارم «لجائحة كورونا»، فإننا ندرك أن الخوف من هذا الوباء اللعين هو القاسم المشترك بين الجميع، أفرادا وجماعات، أي دولا وحضارات، حيث كل الكائنات صارت هشة، خاصة منها الديمقراطيات العتيدة والعتيقة. نعم «جائحة كورونا» وضعت الكل أمام المحك وحيال الامتحان الصعب الذي يفقد فيه الطرف القوي القدرة على التصرف لوحده في هذا العالم الذي ضاق، وصار يلح على فعل الجميع كأفضل سبيل إلى التواصي بالصبر والتواصي بالخير والحق.
كاتب وأكاديمي جزائري