الذاكرة الجماعية التونسية بين الأدب والموروث الشعبي

التاريخ الخطّي linear history الذي يدوّن ما مرّ بالأمم والشعوب من أحداث، ما هو إلَّا تأريخ ورافد من التاريخ الحقيقي للأم. فالتاريخ لا يقتصر على ما هو موجود في المخطوطات والمراجع، بل يتشعَّب في ما يسطره الأدباء والنقَّاد في مؤلفاتهم، بل يكمن التاريخ الحقيقي في الموروثات الشعبية من فلكلور وأساطير، ما يخلق الذاكرة الجماعية للأمم. وفي ذلك، تقول الكاتبة والفنانة الأمريكية Marianna Meyer: «في اعتقادي أن الحكايات الشعبية والأساطير، ما هي إلا القصص الأولى للبشرية؛ فهي ضرب من ضروب الأحلام الجماعية المفعمة بالصور والرموز الخالدة التي يشعر الجميع بالانتماء إليها، بغضّ النظر عن المرحلة العمرية والثقافة». ومن هذا المنطلق، يمكن تحليل تاريخ الأمم وأفكار شعوبها.
وبالنظر لدولة تونس، يلاحظ أن تلك الدولة ضئيلة المساحة، ما هي إلا بوتقة انصهرت فيها حضارات شديدة التباين، وأقيمت على أرضها آثار خالدة، ومنها بالتأكيد مدينة قرطاج الفينيقية، التي لا يزال رجال الأدب والفكر يتغنُّون بها منذ القدم، والتي لم تهدمها إلا الجولات الثلاث للحروب البونية. وقد سكن تونس، التي يقال إن اسمها مشتق من اسم الإلهة الفينيقية «تينيث» الأمازيغ والفينيقيون والرومان والبيزنطيون وشعوب الواندال والعرب والعثمانيون والفرنسيون. أضف إلى ذلك، أنه بسبب موقعها الجغرافي، هاجر إليها العديد من شعوب العالم؛ فنجم عن ذلك تأثير وتأثُّر فريدان.
وقد ظهر هذا التنوُّع جليَّا في الحركة الأدبية في تونس، خاصة في أعمال الشاعر البارز أبو القاسم الشابي (1909-1934) الذي لا تزال أشعاره يقرأها ويحتفي بها جميع أبناء الدول العربية، وتتلقَّف أعماله الساحة الأدبية، على الرغم من أنه فارق الحياة في ريعان شبابه، وهو في الخامس والعشرين من عمره بسبب اعتلال قلبه، وهو ذاك المرض المصاب به منذ الطفولة وسبب له معاناة جمَّة، كان تأثيره واسعا ومتشعّبا، خاصة في حقبة السبعينيات، بعد استقلال الدول العربية من الاستعمار الغربي، والتوسُّع في التمعُّن في إبداع الدول الأخرى. وتدرَّس قصائد أبو القاسم الشابي في مراحل التعليم لرقي معانيها، التي جعلت كل قصيدة منها تحفيزية النهج، راقية المعنى. ومن أشهر قصائده، قصيدة «إرادة الحياة» التي يردد أبناء الوطن العربي أبياتها لشحذ الهمم، وأشهر أبياتها على الإطلاق:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
تأثَّر أبو القاسم الشابي في أشعاره بالمدرسة الرومانسية في الشعر، التي هيمنت آنذاك على إنتاج الشعر في ربوع الوطن العربي. وتجلَّت مظاهر التجديد والعبقرية في شعره عندما نأى عن الانخراط في العاطفة، لدرجة تطغى على العقل والخيال، خاصة عند تحليلاته النقدية للحدث في قصائده. أضف إلى ذلك، لم ينصع لاتجاهات الفكر الغربي وصاغ منظورا خاصا به، يمتاز بالعبقرية وسرعة البديهة، ما جعل النقَّاد يشبّهونه بالشاعر الفرنسي آرثر رامبو، الذي نظم أيضا الشعر في سنّ مبكّرة مثله، وعُرِف بتأثيره في الأدب والفنون الحداثية، ووضعه للخطوط العريضة لملامح الفنون السيريالية، ولذلك، أطلق عليه النقَّاد «أرثر رامبو شمال افريقيا».

وإرث أبو القاسم الشابي الأدبي قوامه 132 قصيدة ومقالا نُشِرت في عدَّة مجلات أدبية. ومن المفارقات أنه لم يحظ بالشهرة إلَّا بعد أن فارق الحياة، فقد وجد صعوبة بالغة في نشر ديوان شعره، الذي رتَّب قصائده بنفسه، على الرغم من ثلاث محاولات قام بها وجميعها فشلت.

وعلى الرغم من أن تحليل قصائد أبو القاسم الشابي، يجب أن يكون من خلال ربطه أوَّلا بالتيارات الفكرية السائدة في عصره، مع أنه استطاع أن يخرج من عباءة منهاج الشعراء العرب؛ مع العلم بأنه تأثَّر مثلهم بالمدرسة الرومانسية الغربية، ومدرسة المهجر للشعر. ومن أهم مظاهر ثورته هي ربط التراث بالقالب الشعري الحديث. فقد تجلَّت في قصائده ظاهرة الجمل المتوازية، التي تعد ظاهرة قديمة استمدَّها من التراث العربي وضخ إليها دماء فكره الحديث. أضف إلى ذلك، إضفاء النكهة والأوزان الأندلسية إلى أشعاره، التي استمدها أيضا من ذاكرة التراث. ومن أهم إسهامته محاولة تمرير أفكاره ومبادئه إلى المجتمع، ففي ظل الاستعمار والشعور باليأس بعد توابع الحرب العالمية الأولى على دول العالم، كتب الشابي عن جمال الحياة لأهمية الموضوع، باعتباره وسيلة لتخطّي عقبات الزمن، بالإضافة إلى كتابته عن الحب والأمل واليأس. واعتمد في أفكاره على سهولة الألفاظ وعمق المعنى حتى يستطيع القارئ أن يربط القصيدة بوجدانه، ويستوعب تنوُّع المعاني التي تحملها أشعاره. وعلى هذا، أضحى من السهل تقريب العبارة الشعرية إلى ألوان من الرمزية التي قد يشوبها في بعض الأحيان الخيال والغموض، مع جعلها مقبولة لدى القارئ. وساعده في هذا استخدام إيقاع خفيف لموسيقى شعره اعتمدت في كثير من الأحيان على أوازن شعرية تتناسب مع إيقاعاته؛ مثل: البحر الخفيف، والمنسرح، والمجزوء والكامل والمتقارب.
ومن أهم مظاهر التجديد الأخرى لدى الشابي كتابة قصيدة النثر، التي كانت تسمى حينئذٍ بـ«القصيدة المنثورة». وجمع قصائده النثرية في ديوان كان يعتزم إصداره تحت اسم: «صفحات دامية من حياة شاعر،» وهو عنوان إحدى قصائده المنشورة في مجلة «العالم الأدبي» عام 1930. لكن لم يمهله القدر لنشر ذاك الديوان، الذي يغطي قصة حياته بأكملها منذ بدايتها حتى زمن إنشاء النصوص. وقد قسَّم الديوان إلى قسمين: الأول ما مضى منها، وقد عبر عن ذلك في ستة مواضع متفرقة بقوله «تلك كانت حياتي بالأمس» والآخر ما هو جار منها، وجاءت نصوصه في زمن التلفُّظ.
وإرث أبو القاسم الشابي الأدبي قوامه 132 قصيدة ومقالا نُشِرت في عدَّة مجلات أدبية. ومن المفارقات أنه لم يحظ بالشهرة إلَّا بعد أن فارق الحياة، فقد وجد صعوبة بالغة في نشر ديوان شعره، الذي رتَّب قصائده بنفسه، على الرغم من ثلاث محاولات قام بها وجميعها فشلت. لكن شقيقه الأمين أخذ على عاتقه مهمة نشر القصائد بعد وفاته، وساعده في ذلك الشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي فنان الرسوم المتحركة لمجلة «أبولو». وأخيرا، ظهر الديوان عام 1955، أي بعد 21 عاما من وفاته.
لقد أضحى أبو القاسم الشابي، إرثا أدبيا شعبيا رسم ملامحه في الذاكرة التونسية وتغلغل أيضا في الذاكرة الجماعية لدول الوطن العربي. كانت حياته القصيره وإرثه الشعري بمثابة دليل دامغ على «إرادة الحياة» كما ورد في سطور قصيدته التي تحمل هذا الاسم. ويحاول الأدباء التونسيون، خاصة المقيمين في المهجر إحياء الموروث الشعبي في مؤلفاتهم، لكن تظل قصائد وقصة حياة أبو القاسم الشابي كيانا فلكلوريا يشكّل الذاكرة الجماعية لشعبه.

أكاديمية مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية