تعتبر الذاكرة التي يحملها الكاتب، من أساسيات أدب المهجر أو أدب الحنين، فلا تأتي المعطيات المكونة للنص، أو تتجمل أو تتوهج في القلب أولا ثم في ورق الكتابة ثانيا، إن لم تكن الذاكرة حاضرة للمها وعرضها على شغف الكتابة.
الذاكرة هنا لا تحتاج لتدريب متعمد، بمعنى أننا لن ننحتها من أجل العثور على موقف ما أو حكاية ما، سيتكفل الحنين بذلك، وسيأتي بالمعطيات كلها إليها، وفي مغتربي الطويل، تأتي إلى ذاكرتي باستمرار أسماء ووجوه ومواقف لا أصدق أبدا أنها موجودة في الذاكرة. أحيانا تأتي بلا سبب معين وفي أوقات لا أكون أكتب فيها نصا معينا، وقد يدفعني ذلك لكتابة النصوص، وكنت ذكرت في رواية لي اسمها “العطر الفرنسي” أن علي جرجار بطل القصة يمكنه أن يتذكر حتى ذبابة حطت في طبق حسائه منذ أربعين عاما، أو تقطيبة وجه شاهدها لعم أو خال منذ خمسين عاما، أو حتى في أي يوم لسع لسانه بسبب شاي حار. وحقيقة كنت أصف ما يحدث لي كثيرا، سأظل أتذكر أببا تسفاي الجميلة، اللاجئة من إريتريا أثناء الحرب مع إثيوبيا، في ثمانينيات القرن الماضي، من دون أن أقصد ذلك، ستظل ذكراها تأتي مفصلة أكثر كل يوم، وجهها، ثيابها، عطرها، طعنة الخنجر في قلبها، دمها، لونها الباهت، وموتها في غرفة العمليات، ونحن نحاول إنقاذها، وأخيرا تكتبها الذاكرة المهاجرة في رواية. وحقيقة أن تلك الرواية كانت صادمة، وأرى كثيرين تعاطفوا مع اللاجئة الجميلة، وبعضهم امتلك تلك الخاصية التي ذكرتها مرة، وهي التمرغ في لحم النصوص وجر المتخيل إلى الواقع، نعم كثيرون يبكون شخصيات الكتابة بحرقة إذا أصيبوا بأذى، أو يتوقعون رؤية الأبطال والظافرين منهم يمشون في الشوارع.
في مغتربي أيضا، أتذكر معطيات رواية “366”، رواية الحب والموت والجنون، وقد كتبتها بالذاكرة المهاجرة أيضا، الذاكرة التي استعادت وقائع ثلاثين عاما إلى الوراء. وقد ذكرت القصة مقتضبة في مقدمة الرواية وأفصلها الآن لأن قراء أعرفهم وآخرين لا أعرفهم، يبحثون دائما عن التفاصيل في النصوص المزعجة أو فلنقل، تلك المطعمة بالليالي المؤرقة، والنهارات التي كلها شقاء إضافي، ولأن العثور على الكتاب أصبح سهلا في هذا الزمن، فهناك دائما من يسأل ويصر على الحصول على إجابات لأسئلته.
هذه في الواقع قد تكون قصة عادية تحدث في كل زمان ومكان، فقط كان الألم فيها طاغيا لذلك صيرها الحنين أدبا. كنا طلابا في مدرسة البحر الأحمر الثانوية، تلك المدرسة المهمة التي تقع في وسط مدينة بورتسودان، قريبا من موقف الباصات، والسوق الكبير، وبعض الأندية الرياضية، وتقع خلفها مساحة كبيرة من الأرض، كانت في الماضي خورا ضحلا، وجف لكن تأتي السيول لتغمره بين حين وآخر، ماضية إلى البحر. واستغلت بعد ذلك لأغراض كثيرة، أيضا سينما الشعب كانت هناك، وهي سينما قديمة تعتبر مع السينما الأخرى المسماة سينما الخواجة، أداتي الترفيه الرئيستين في المدينة في زمن ما، قبل أن تلغيهما السلطة من ضمن ما ألغت من ذاكرة المدينة الساحلية.
في بقعة ما من ذلك المحيط عثرنا على رسائل عاطفية، مكتوبة بالحبر الأخضر وموضوعة داخل ظرف كبير، ومعنونة برسائل المرحوم إلى حبيبته أسماء. هي في الحقيقة رسائل كتبها عاشق لامرأة شاهدها مرة واحدة، وضع فيها عذابات عام كامل ظل يبحث فيه عنها ولم يعثر عليها كما يبدو، وانتحر كما كان موضحا في الرسالة الأخيرة التي لم تزد على سطرين. الرسائل ضاعت وكبرنا وتركنا بورتسودان، وكانت القصة هذه ستضيع أيضا لو بقيت في عقل كاتب محلي تتصارع أمام عينيه الأحداث والمتغيرات ولا يجد وقتا ليعود بذاكرة إلى الوراء، لكن الحنين لذلك الزمن، والذاكرة المهاجرة جعلا من تلك الوقائع البعيدة المنسية أدبا سيكتب، ويقرأه الناس.
كنت جالسا في مغتربي في الدوحة حين تذكرت فجأة ليس فقط الرسائل والخط المنمق المتعرج، الذي كتبت به، بل حتى الوقت الذي عثرنا فيه على الرسائل، والزملاء الذين كانوا معي وتقاسموا معي تلك الغنيمة العاطفية.
كنا حقيقة في فسحة الإفطار، وهي ساعة نغادر فيها المدرسة لنفطر بوجبة الفول المعتادة، في واحد من المطاعم المنتشرة في السوق القريب، وكنا في الواقع زبائن لمطعم مكي هلال الذي كان من درة بين المطاعم الشعبية في ذلك الحين، ولا أدري إن كان ما يزال موجودا ونشطا، أو قضت عليه المتغيرات، وتركه وارثوه إلى نشاط آخر، مثل أن يصبح إنترنت كافيه، أو مركز اتصالات، أو متجرا لبيع الكومبيوتر والهاتف الجوال. أنا أتذكره مطعما، وسأتذكره وأتذكر غيره من محطات ذلك الزمن، بالرغم من أنني أعود إلى وطني باستمرار، لأرى ما يحدث من متغيرات.
بالنسبة لرواية مثل “إيبولا 76″، أو رواية الأسى الأفريقي كما أسميها، هي أيضا من نتاج الذاكرة المهاجرة، واستعدت قصتها بعد أكثر من ثلاثين عاما، ذلك حين التقيت بالطبيب الذي عاصر وباء إيبولا الفيروسي الذي يسبب الحمى النزيفية، مصادفة في عيادة طرفية في مدينة بورتسودان. الرجل كان قد نجا من وباء إيبولا في هبته الأولى في جنوب السودان، وعاش ليحكي هذه القصة التي لن تكتب أثناء وجودي في مدينة بورتسودان، وإنما في المغترب، وبواسطة ذاكرة وحنين.
شيء مهم من خصائص أدب الذاكرة والحنين، وهو مطاردة الطفولة البعيدة للكاتب في قريته الصغيرة، أو مدينته التي ولد وعاش فيها، وهنا يقترن بأدب السيرة الذاتية الذي أقول دائما إنه الأدب الذي يعتني بمكان الصرخة الأولى، ويستمر متابعا لتلك الصرخة، حتى تتحول إلى كائن يملك ماضيا وحاضرا ومستقبل، ولو رجعنا لروايات كتبها أدباء تركوا أوطانهم، لوجدنا فيها تلك البذور الصغيرة.
* كاتب سوداني
لم نسمع موقفا للدكتور امير من احداث السودان ؟