الذاكرة الوطنية وخيبة الهامش

حجم الخط
0

عاد تاريخ الحركة الوطنية ليسجل حضوره في النص الروائي المعاصر ولكن هذه العودة تبدو مختلفة عن كتابة هذا التاريخ في فترات سابقة. فإذا كانت روايات جيل الاستقلال التي تزامنت مع تأسيس الرواية التونسية الحديثة قد عمدت إلى الاحتفاء بهذه الحركة وتمجيدها مقتصرة على كتابة التضحيات والبطولات والمواقف الوطنية الخالدة، فالرواية الجديدة تتجاوز الاحتفاء إلى الانتقاد وإعادة القراءة. لعلها تستأنف كتابة تاريخ البلاد من نقطة زمنية أخرى، وهي ما بعد الاستقلال بعقود. فمن هذه العقود المعاصرة تستعيد الرواية عقود الماضي لا لتذكر بالأمجاد والبطولات فقط، بل لتحاكم الراهن وخيانته للتاريخ ولمن صنعوه. ذلك «إن التخييل الروائي يشتغل بإعادة قراءة ذاكرة الماضي البعيد القريب، من أجل فهم ما يحدث في زمن الحاضر». فلقد جعلت الرواية العربية «من الإبداع خزانا لمرحلة محاكمة الماضي، كما نلاحظ في تجارب روائية عديدة أخرى باتت تعقد تواصلا تخييليا مع التاريخ الحديث، بمظاهر تشخيصية متعددة، من أجل الوعي بما حدث ويحدث». فالروائي العربي يستعيد التاريخ ليعبر به عن أوجاع الراهن وليرسم بواسطته خيبة الواقع. ولعل رواية «حيا أو ميتا» لمحمد الصالح العمراني تجسد نموذجا لهذه الكتابة، فالتاريخي يصطدم بخيبة الراهن وانحرافاته.

ذاكرة وطن

يعتبر التاريخي مكونا مهما من مكونات رواية «حيا أو ميتا» للتونسي محمد الصالح البوعمراني، فالشخصية الرئيسية تنحت من التاريخ. ويحدد اسمه انتماءه التاريخي فهو ابن مناضل وليس من قبيل الصدفة أن يحمل هذا المناضل اسم العربي الهمامي، فلفظة العربي تحيل إلى الانتماء العربي لهذه الشخصية، وربما توسع انتماءها لتصبح لا نموذجا تونسيا، وإنما نموذج عربي. في حين تحيل لفظة همامي إلى قبيلة وسط البلاد أسهمت في النضال الوطني وعرفت بتهميشها من قبل النظام التونسي، وتحديدا نظام دولة الاستقلال، لأنها جهة ينحدر منها بعض من تصادموا مع بورقيبة خلال سنوات حكمه. وتنهل الرواية من ذاكرة الوطن وتستعيد صفحات من تاريخ المقاومة الوطنية للاستعمار، وتحتفي بوجوهها فنلمح ذاكرة معركة الجلاء الشهيرة (15 أكتوبر/تشرين الأول 1963) فيحضر الشهيد الرائد البجاوي أحد أعلام حرب الجلاء: «في اليوم الثالث من معركة الجلاء عن بنزرت الموافق ليوم الجمعة 21 يوليو/تموز 1961. في الساعة الخامسة بعد الزوال، استشهد في هذا المكان، وهو مستبسل في مواجهة العدو: الرائد محمد بن حميدة البجاوي آمر كتيبة المدفعية المولود في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1929. في دوار الشط. تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه خلد الجنان».
ونشاهد المقاومين الوطنيين يندفعون عزلا لخوض المعركة والدفاع عن الوطن :
«السراويل الزرق كعمال المناجم، والشاشية الحمراء تغطي رأس كل واحد منهم، وأحذية «غزالة» الزرقاء. رأيت سواعدهم ترتفع إلى السماء حاملة العصي والنبابيت، واهتزت الحناجر، وتحركت مياه الميناء، وتراقصت السواري على المراكب:
بالروح بالدم نفديك يا تونس
بالروح والدم نفديك يا بورقيبة
لا قواعد فرنسية على الأراضي التونسية

تحضر لغة الخيبة من سياسة البلاد التي لم تحقق طموحات شهدائها ومن بذلوا لأجلها، بل مارست ضدهم التغييب.

الجلاء، الجلاء

كان هؤلاء الهامشيون المنحدرون من الهامش التونسي مزودين بإرادة وطنية ومعبئين بحب الوطن، ولعل الذاكرة تحفظ لهذا الجيل قناعاته الوطنية وتضحياته التلقائية في سبيل الوطن، بدون انتظار مكافآت أو مزايا. ولعلنا نجد ذلك في موقف العربي الهمامي الرافض بمقايضة نضاله الوطني بالأموال: «جاءه شيخ البلدة يعلمه أن المجاهد الأكبر قرر صرف مرتبات لعوائل الشهداء، كان جالسا على حجر يلعب الخربقة مع سالم الشامي، ويحيط بهما عبد السلام ولد المولدي وعلي بوراس. لم يحرك ساكنا، ظل يحدق في كلاب الخربقة المنصوبة أمامه. ولما طال صمته قال الشيخ: يا بني أعد أوراقك وأوراق إخوتك وأمك لتحصلوا على ما يعينكم على هذه الحياة». قال العربي وعيناه تحدقان في الخربقة: «دماء الشهداء لا تقدر بثمن». ولكن كتابة التاريخ والنضال تتواصل مع الحاضر وتخوض في ملامحه لتصبح كتابة احتجاج على الراهن، فيحضر صوت الخيبة.

صوت الخيبة

تحضر لغة الخيبة من سياسة البلاد التي لم تحقق طموحات شهدائها ومن بذلوا لأجلها، بل مارست ضدهم التغييب: «استحييت أن أقول له إن الأرض بيعت للأوباش، الذين ما لبسوا هذه البُدل الزرقاء، ولا رفعوا حناجرهم بهذه الكلمات، وعائشة رفعت ساقيها للقوادين، والأبناء تفرقوا كفراخ الحجلة. أردت أن أقول له لا شيء يستحق أن تموت من أجله، أتموت ليعيش أبناء العاهرات؟ أتموت ليدنس شرفك الكلاب؟ أتموت لتصبح ذكرى يحتسي هؤلاء التيوس الشمبانيا والويسكي على نخب دمك؟ ويوزعون النياشين بينهم، ويُمنحون أوسمة المجاهدين والأبطال ولم تلامس أياديهم بندقية قط. أقول له إن أبناءك لم يجدوا شبرا يقفون عليه في هذا الوطن؟».
لعل هذه المقولة تعبر عن صوت الهامش الذي يشعر بالخذلان، رغم ما بذله في سبيل الوطن من تضحيات، الذي استولى الآخرون على خيرات بلاده واستغلوه.
ولعل شخصية عمار تبدو رمزا للخيبة والانكسار والضياع، ولصدمة جيل عاش المتناقضات وصدمته تجاربه الإنسانية والعاطفية. وما صديقته «أحلام» حسناء الشمال التي زارته في واقعه البدوي المزري إلا «ميارى» أخرى تظهر حاملة الأمنيات ومخترقة الوضع البائس، ولكنها تنسحب في النهاية وتطلب إنهاء الحكاية وتتستر عليها. فهي تتجاوز دلالتها الاجتماعية، أنثى وحبيبة تخلت واختارت طريقها، لتصبح رمز الأحلام المنكسرة والضائعة. ولعل الرواية تبدو كتابة لجيل الضياع الممزق بين تاريخ مجيد لجدوده وواقع هامشي له. وهي تعبير عن خيبة من الراهن وإحساس بالظلم التاريخي. فكتابة التاريخ تدخل ضمن استراتيجية احتجاج الهامش على الغبن السياسي والاجتماعي والتنموي الذي يمارسه عليه المركز..

٭ كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية