الذاكرة تستيقظ رغم الآلام

«عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو، وأحرسهم من هواة الرثاء
أقول لهم: تصبحون على وطن، من سحاب ومن شجر، من سراب وماء
أهنئهم بالسلامة من حادث المستحيل، ومن قيمة المذبح الفائضة
وأسرق وقتا لكي يسرقوني من الوقت، هل كلنا شهداء؟
وأهمس: يا أصدقائي أتركوا حائطا واحدا، لحبال الغسيل، أتركوا ليلة للغناء
وكونوا نشيد الذي لا نشيد له عندما تذهبون إلى النوم هذا المساء»
كثير جدا من شعر محمود درويش أستطيع أن أتذكره هنا، وبالمثل لو مشيت مع الكثيرين من شعراء فلسطين، فأنا الآن وسط الدمار الحادث في غزة تستيقظ ذاكرتي، وأنا لا أعرف كيف تمر بي الأيام والساعات والدقائق وأنا أرى ما يحدث في غزة. هو الزمن لا يتوقف وهذه حكمة السنين حقا، لكنها الذاكرة أيضا تستيقظ.
أعرف، وعلى يقين، أن كل شيء سينتهي، ومهما جرى من دمار سيعاد إصلاحه، ومهما ذهب من شهداء فنحن نعرف أنهم في مكان أفضل. نؤمن بذلك وبه لا تتوقف آمالنا. الحزن تطويه الأيام كما تطوي الفرح، لكنها الذاكرة ستستيقظ أكثر من ذي قبل، وبقدر الدمار تقف الذكريات ببناياتها حقيقة أم خيالا.
لم تكن أبدا فلسطين لي مجرد معرفة بالسياسة، ولا فهما لعروبة، ولا معرفة بتاريخ الحركة الصهيونية، لكنها كانت في منزلنا تطل علينا من الأركان، كنت في الثامنة من عمري تقريبا حين كان أبي يستخدم ماكينة حلاقة صغيرة يحلق بها ذقنه. حين رآني أنظر إليها وضعها أمام عينيّ لأري ما هو مكتوب عليها «صنعت في فلسطين» كان يعمل في السكة الحديد قبل يوليو/تموز 1952 وكان خط القطار من القاهرة إلى غزة، ومنها إلى الشمال ليصل إلى سوريا من ناحية، ومن الجنوب يتجه إلى المملكة السعودية. قال لي انتهى الخط الحديدي إلى غزة فقط بعد قيام إسرائيل.
في حرب 1956 أثناء العدوان الثلاثي، ونحن أطفال، قسمنا أنفسنا إلى فريقين. فريق الإنكليز وفريق المصريين، ووافق أعضاء فريق الإنكليز على أن يتغير انتماؤهم كل يوم. كنا ندخل في مشاجرات تنتهي بالضحك والفرجة على الطائرة البريطانية التي قامت مع غيرها بغارة على الإسكندرية. رأيناها فوقنا وكيف أصابها المدفع المنصوب أعلى بيوتنا، وكيف رقصنا ونحن نراها تحترق في الفضاء، حدث ذلك مرة واحدة هي المرة التي كانت فيها الغارة في النهار، يمكن أن نراها، لكن بالليل كنا نكتفي بصوت المدافع. كان قريبا منا في منطقة كوم الشقافة، حيث كنا نعيش في حي كرموز، مدفعان على جبل عتيق يصوبان نيرانهما إلى الطائرات. عرفت من أبي أنهما منذ أيام الحرب العالمية الثانية، يعرفهما الإنكليز ولذلك يأتون لتدميرهما ولم ينجحا. حين كبرت وقرأت وبدأت أكتب رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية» تأكد لي قول أبي مما قرأت في الصحف، وكيف كان المدفعان هدفا لغارات الألمان والطليان، التي لم تنجح في إسكاتهما، وإن خلفت الغارات شهداء كثيرين في الشوارع.

ارتكبوا كل هذه الجرائم ويقولون إن لليهود الحق في إقامة المحارق للفلسطينيين، كما حدث لهم، ويتغافلون أن فلسطين كانت ملاذا لليهود تآمروا عليها بعده. يكفّرون عن خطاياهم بقتل الشعب الذي فتح لهم بلاده.

ظل المدفعان حتى عاد الإنكليز ليضربوهما ولم ينجحوا. كان حي كرموز وكوم الشقافة هدفا لكل غارة من الألمان والطليان بسبب المدفعين، حين انتهت حرب 1956 وغاب أخي الأكبر – رحمه الله – وكان مجندا في الجيش، شمل البيت الحزن والقلق، لكنه عاد بعد أكثر من شهر من انتهاء الحرب، وحكى لنا كيف كان الانسحاب من سيناء، وكيف حماه بدو سيناء وآووه عندهم، وهو يعود مشيا على الأقدام إلى القناة. مشت معي فلسطين في قلب الحياة، ولن أمشي مع بقية الحروب فهي تحتاج إلى كتاب. أخذتني القراءة إليها أكثر من غيرها، خاصة قصائد شعرائها وروائييها ورسوم فنانيها ناجي العلي وفدوى وإبراهيم طوقان وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وأحمد دحبور وزكريا محمد وسامر أبو هواش وزهير أبو شايب وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإبراهيم نصرالله ومحمد علي طه ومحمود شقير وإميل حبيبي وليانة بدر ويحيى يخلف وليلى الأطرش وسحر خليفة وزياد خداش ومريد البرغوثي ورشاد أبو شاور ووليد أبو بكر وغيرهم الكثير.

كان اللقاء بكل منهم في القاهرة أو غيرها، أو القراءة له دون لقاء، كأنه عودة إلى الوطن رغم أنهم الزوار، لم أكن وحدي، بل كان المصريون جميعا كأنهم ولدوا في القدس أو في الجليل أو في غزة. كأنهم ولدوا بالفطرة من أهل فلسطين.. أجمل دليل بعيدا عن الفكر والتحليل السياسي، هو حين غنت فيروز أغنية شادي بعد هزيمة 1967 عن حبيب الطفولة شادي الذي ضاع حين راح يتفرج على ما يجري في الوادي من قتال، وكيف صار اسم شادي من أكثر الأسماء للمواليد الجديدة في مصر وحتى الآن. لم يتشاءم أحد من ضياعه. ليس جديدا أن أقول إن ما يحدث في غزة جريمة إنسانية لن ينساها الزمن والناس، مهما بدا من قوة للصهاينة ومن والاهم. وليس جديدا أن أقول إن موقف بعض الدول الأوروبية وأمريكا موقف خسيس كاذب فهم من قتلوا اليهود عبر السنين، ولم يكن لليهود ملجأ غير العالم العربي والإسلامي. ارتكبوا جرائم عبر التاريخ تفوق الخيال في حق اليهود، ويكفي أن تعرف أن هتلر الذي أقام لهم المحارق، كان يستخدم عظامهم في صناعة الأمشاط التي يستخدمها الناس لتسريح شعرهم وأشياء أخرى.

ارتكبوا كل هذه الجرائم ويقولون إن لليهود الحق في إقامة المحارق للفلسطينيين، كما حدث لهم، ويتغافلون أن فلسطين كانت ملاذا لليهود تآمروا عليها بعده. يكفّرون عن خطاياهم بقتل الشعب الذي فتح لهم بلاده. تصل الخطايا إلى اتهام كتائب القسام بذبح الأطفال الإسرائيليين من الرئيس الأمريكي بايدن، ثم يعتذر البيت الأبيض أو الأسود فلا فرق عن الخطأ، فلم يحدث أن رأوا صورا حقيقية لذلك. إنه الاندفاع في اغتيال شعب كامل بروح لم يعرفها هتلر نفسه ولا نيرون. يرون البيوت تتهدم بالغارات التي ألقت آلاف الأطنان من القنابل المستشفيات والمساجد، وآلاف الأطفال الفلسطينيين تقتلهم الغارات، ويعتبرونه حقا لليهود تخلصا من ذنبهم هم! يرون إسرائيل تستخدم الفوسفور الأبيض في الغارات بما يسببه من حرائق للأجساد، ولا يهتمون إلا بحق إسرائيل التي زرعوها في الوجود، لا حق أصحاب الأرض في حياة كالحياة. يتهمون حماس والقسّام بالمرجعية العنصرية الدينية، وينسون أن فكرة إسرائيل نفسها فكرة دينية خرافية. يعتبرون مثل وزير دفاع إسرائيل الشعب الفلسطيني حيوانات لا يستحقون الحياة ويرددونها. يتحدثون عن قتل حماس للمدنيين الإسرائيليين، والكل يعرف أن سكان المستعمرات كلهم جنود، سواء كانوا في الخدمة أم خارجها، ثم يكون الرد الإنساني في نظرهم هو قتل الآلاف من المدنيين العزل في غزة. كثير جدا يمكن قوله لن يغفله التاريخ. لقد وضعت هذه الدول المساندة للكيان الغاصب نفسها في أحط مكان في التاريخ، سعيدة بضعف حكوماتنا العربية، ومتصورة أن ما تفعله هو الصحيح. كثير جدا يمكن قوله لكني أعود إلى الذاكرة التي ستتسع رغم الهلاك وأقول في ختام المقال: منتصرون أم منهزمون سنكتب رواياتنا وشعرنا. سنرسم لوحاتنا وننحت تماثيل أبطالنا. سنبدع أفلامنا. الذاكرة لن تنتهي ويكفي مئة سنة من العدوان علينا ولم تنته الذاكرة ولم تتغير. الصهيونية حركة ضد التاريخ والإنسانية، وستذهب إلى أسوأ مرحاض في التاريخ مهما طال الزمن، هي وكل من ساندها من الأوغاد.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية