تمنح الذاكرة الفعل السردي موسوعية، تؤهله لأن يكون شاملاً التاريخ والتأريخ، فيتمكن السارد من تأرخة وجوده الإنساني كائناً يسافر في فضاءات الحياة زمانياً ومكانياً، مكتسباً خبرات ومعارف وحكايات. والتوقف عند محطة من محطات الذاكرة، يعني تدوينها وأرشفتها وتخزينها في سجلات لتكون تأريخاً، لكن ليست كل محطات الذاكرة يمكن للمرء أن يتوقف عندها؛ فخزانة ذاكرتنا ملأى أكثر من صفحات التاريخ الموثوق بآلاف المرات. ومن غير الممكن طبعا اعتبار التاريخ الذي وصلنا محفوظا ومؤرشفا هو وحده الذي يملك شرعية كتابة سرد تاريخي، وإنما بالإمكان الاعتماد على الذاكرة بوصفها الصندوق الصانع لتاريخ غير مادي وغير مؤرشف. وما أن يتشكل في السرد قصصا حتى يغدو تأريخا موصوفا بأنه سرد روزنامي، فيه يُرزم تاريخ الاشياء مادية كانت أو معنوية.
والروزنامة تاريخ مصدره أو إصداره يأتي نابعا من داخل مستودع جمعي هو الذاكرة، التي هي حصيلة تمازج مشاهدة الأحداث بسماع الأخبار شفاهيا كفعل استعادة بشري يحاكي الزمان الذي هو فعل إنتاج كوني، يضع لحياة الإنسان نظاما وتكون ذاكرته هي المركز في إدراك نظام الكون الزماني الذي لا يتلاشى بتلاشي الأمكنة. وإذا كان للأمكنة أن تدخل في اللامكانية فليس للزمان أن يدخل في اللازمانية لأن ذلك يعني اللانظام الذي ليس معه أي تحديد للكون. وما الكون سوى نظام وما النظام سوى زمان.
ولفعل (الرزم) مداليل عدة، وما يعنينا منها هنا هو التقويم أي جمع الكثير في شيء واحد وشده ضمن أمد زمني حسابه سنة شمسية أو قمرية. فتكون لكل مظهر بشري وظاهرة كونية روزناميتها السنوية، وكثيرة هي الروزنامات التي منها صنع غاليانو تواريخه، فروزنامة لأيام السنة، وروزنامة لمعرفة الطقس والمناخ، وروزنامة لبذر البذار، وروزنامة للمد والجزر، وروزنامة للصلاة، وروزنامة للفصول، وروزنامة لعلم من العلوم أو ظاهرة من الظواهر أو فن من الفنون وغير ذلك من المسائل التي يمكن تسجيل أحوالها وتثبيت صروف تقلباتها وجمع طوابعها وحصر طباعها في دفتر. والسرد الروزنامي يحوِّل ما هو مخزون في الذاكرة إلى قصص قصيرة، وكل واحدة هي لوحدها تأريخ يمكن للسرد أن يبني عليه فيكون سردا تاريخيا. بمعنى أن الفرد نفسه روزنامة لمشوار يقطعه، وله أن يصف هذا المشوار بأي وصف لكنه يظل روزناميا في تلخيص زمانيته. واتخاذ الذاكرة مستودعا للتأرخة يصنع روزنامة سردية ستكون جاهزة بدورها لأن تكون مستودعا لقصص أخرى لاسيما حين تكون بعض أحداثها مدونة في التاريخ الرسمي أو لها وجود في الذاكرة الجمعية.
وإذا كان صنع سرديات تاريخية يكون بالواسطة عن أصل هو التاريخ ووسيلة هي الكلمات، وبها يكون الانتقال حرا عبر تاريخ الأمم أو الحضارات، فإن صنع السرديات الروزنامية لا يكون بالواسطة لأن الكلمات ستكون هي الأصل، إذ لا أساس تدويني يرتكن إليه السارد ومن ثم يكون ملزما باختراع التسميات والأمكنة والأزمنة حسب ما يستخرجه من صندوق الذاكرة البشرية غير المرئية، معطيا إياه رؤية ثلاثية الأبعاد فيها الحاضر الآني لا يختلف عن القديم الماضي وبهما يمكن استشراف المستقبل الآتي. وتعد ملحمة جلجامش أول مظهر من مظاهر التأريخ المدون في شكل سرد روزنامي، وقد تفنن شاعر هذه الملحمة في تجريب أدواته في الاختراع السردي والاستخراج الزماني وبنظرة تجسيمية تجعل الزمان مرئيا في أبعاد مكانية ومجموعة تشظياته في سردية روزنامية بمرحلتين: الأولى تضفي الكثافة على الحاضر المعيش من خلايا تمييزه عن آنيته عبر ربطه بماض شبيه به والثانية أن الماضي غير مستعاد عن آخر لا يشابهه فقط، بل هو نفسه ـ كي يكون الناتج سردا ـ لا يعيد كتابة المكتوب تاريخيا، بل يسفر عن سرد مؤرخن فيه الماضي مجسد في الحاضر ومرتقب أو وشيك الحصول في المستقبل الذي يتوقع منه أن يكون هو نفسه منطقة استدعاء مطابقة لمنطقة الاستبقاء في الحاضر.
بهذا يكون الفعل التاريخي في السرد الروزنامي فعلا غير تكراري أو استعادي، بل هو فعل اختراعي استخراجي فيه يكون دور السارد كدور المؤرخ أي التطابق مع الزمان بمفهوم هيدغر. وبما يجعل السرد الروزنامي سردا ظاهراتيا فيه (السرد وحدة لأنه يبقى مجرد سرد وقصص حتى يقيم مشروع التجربة ويصورها).
السرد الروزنامي وإن كان أقل مساحة من التخييل التاريخي، فإن ما يصنعه الكاتب في السرد الروزنامي وما يستنهضه وما يعتريه يكون ذاتيا محضا وخالصا قلبا وقالبا حتى كأنه سيرة ذاتية يتم اختصارها في كلمات محددة.
وبالتجريب التاريخي على مستوى السرد والتجريب الظاهراتي على مستوى الزمان تكون الروزنامية تأريخا يتمسرح في شكل قصة، نراها على خشبة مسرح جماعي وبكواليس لا يراها السارد الروزنامي لان مهمته ليست كشف المسكوت فيما هو علاني وظاهر، بل كشف ظاهر لم يكن من قبل مرئيا، لا علنا ولا سرا. وكاتب السرد الروزنامي مؤرخ يبني ما لم يبنه غيره مستمدا مادة بنائه من ذاكرته التي هي مجموعة تواريخ غير مرئية لأنها غير مكتوبة وما أن يحولها إلى سطور على الورق حتى تغدو صفحات مرزومة كتأريخ فيه القاص هو المؤرخ الذي جمع ونظم وبنى منبرا، يكون إتمامه متمظهرا في أشكال يرزم لحظاتها وثوانيها ودقائقها وساعاتها وأيامها وشهورها وسنينها، وهو غير قادر على أكثر من عملية الرزم حسب.
ومن مجموع ما يرزمه من تآريخ يمكن لكاتب السرد القصصي أن يستشف ما تحت سطور تأريخ واحد منها، مسترجعا ما فيه ليبني عليه سردا تاريخيا يمكن كتابة مراحله جامعا ومفرقا بين عقوده وقرونه وعصوره، متحررا من الزمانية لكنه غير متحرر من الاستعادية فمصدره التأريخ المدون وليس الذاكرة الحية. وبالذاكرة يكون للأسماء والأشخاص والأشياء واقع معيش، بينما هي بالتأريخ تكون آثارا دالة على واقع بشري كان حيا والان هو بقايا أبنية وعظام لما تم رزمه كائنا ومكينا. وبتحويل الذاكرة إلى التأريخ تغدو الآثار تاريخية وتكون بالتدوين جاهزة للتمثيل السردي والقراءة. ولو افترضنا أن القراءة السردية تشكك بالتاريخ من خلال التأريخ، فلن نفترض أن التأريخ يشكك في الذاكرة والسبب ببساطة يعود إلى أن الفعل التأريخي فعل روزنامي استجماعي لا يترتب على ما قبله أي تبعة أو بادرة بعكس الفعل التاريخي الذي هو سردي يستعيد ويبني على الاستعادة بناءات تتحدد تبعاتها على ما كان قد بُني عليها أصلا.
والمفارقة هنا أن السرد الروزنامي وإن كان أقل مساحة من التخييل التاريخي، فإن ما يصنعه الكاتب في السرد الروزنامي وما يستنهضه وما يعتريه يكون ذاتيا محضا وخالصا قلبا وقالبا حتى كأنه سيرة ذاتية يتم اختصارها في كلمات محددة. ولا يطال الذاكرة شك هنا، لأنها هي المصدر الأصلي لما هو حقيقي، كما أن الشك لا يطال التأريخ لأنه أصل سابق له يقارن به فضلا عن أن مصدره الذاكرة، لكن الشك يطال التاريخ بوصفه تسريدا تخييليا لما هو روزنامي. وصحيح أن تخييلية الأخير أكثر، بيد أنها باستمداد مادتها من الذاكرة تكون صادقة بوصفها الروزنامي المحض.
وإذا كانت القصة القصيرة والرواية جنسين من أجناس سردية عُرفت منذ نهايات القرن الثامن ومطلع القرن التاسع عشر، فإن السرد الروزنامي نوع سردي عرفه جنس القصة القصيرة مع أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين وتميز في كتابته القاص إدواردو غاليانو. وكما أنّ السرد غير الطبيعي صورة لاستعادة طفولة السرد التي كانت محملة بكل ما هو غير معقول واستحالي فكذلك السرد الروزنامي صورة جديدة لاستعادة السرد طفولته (تأريخيته) التي فيها نجد كل ما هو غير تاريخي بلا توثيق زماني ولا أرشفة إخبارية ولا تدوين وقائعي. وهو ما يجعل التاريخ مادة هي أوسع من أن تكون منهجا أو نظرية أو علما، وإنما هي أفعال البشر التي تحكمها مقاصد وتطلعات ومحفزات تحيل على أناس في الماضي وتبعا لهذه الحجة ليس التاريخ سوى امتداد لفهم الغير. ولقد عبّر إدواردو غاليانو في سردياته القصصية القصيرة عن هذا الفهم الروزنامي للتاريخ، صانعا تاريخا ينطبق عليه الوصف بالجديد متمثلا أفكار المدرسة الفرنسية التي عدت التاريخ عالما متخيلا كبنية خفية ملازمة للإنسان وكوسيلة جديدة للهروب من الواقع ولقطع كل صلة تربط التاريخ بالواقع بكل ما يحويه من بنى تحتية وفوقية.
كاتبة من العراق