في محاضرة لعالم الذكاء الاصطناعي البريطاني (توبي والش)، توجّهت أسئلة الجمهور حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعيّ سيحلّ محلّ الإنسان قريباً، وإذا ما كان الناس بسببه سيفقدون وظائفهم، ومن ثمّ سيفقدون أمانهم الاقتصاديّ، وأجاب والش، الذي بدا طوباويّاً، بأنّه لا يمكن لشيء أن يحلّ محلّ الإنسان، وليس ثمّة آلة أذكى من البشر، وطبعاً قدّم هنا رؤية عامّة بعيداً عن دراسات شركة الاستشارات الأميركيّة الشهيرة ماكنزي، التي وصلت إلى أنّ ثمانمئة مليون عامل سيفقدون وظائفهم بحلول العام 2030، لكنّ الحقل الذي شغل بال والش وغيره من المهتمّين حالياً بموضوع الذكاء الاصطناعيّ والروبوتيّات هو الأخلاقيّات التي تقود هذه البرامج والتطبيقات، وتسيّر الروبوتات، وقد كتب والش نفسه كتابه (الآلات تتصرّف بشكل سيّئ) حول إدارة الذكاء الاصطناعيّ.
يبحث الكتاب في كيفية بناء الذكاء الاصطناعيّ وتطويره من قبل نخبة من البشر لديهم رؤية محدّدة تجاه العالم وقضاياه، قد نراها، بحسب موقعنا الإديولوجيّ، شريرة، فيكون لديهم عيوبهم وتحيزاتهم التي يورّثونها لبرامجهم، ويلقّنونها لروبوتاتهم، وتسيطر على تلك النخبة شركات بمليارات الدولارات، مع القليل من التنظيم أو الرقابة، لكن إذا ما عالجنا بعض الانحرافات، كما يشير والش، فإنّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحرّرنا من العناصر الأربعة: القذارة، والملل، والصعوبة، والخطر.
بهذه البساطة، إذن، يجد والش أنّه يمكن لهذه التطبيقات أو لمخترعيها ومزوّديها أن ينحازوا بها عن الخبث والأذى، ليمنحوها الحكمة، فيصبح لدينا ربوتات طيّبة وموضوعيّة تعلي من شأن الحقيقة بلا انحيازات. لكن إذا كان البشر يستطيعون فعل ذلك حقّاً، فلماذا لا يمارسون هذه الفضائل على النسخة الأصليّة، حيث ما زال تصوّري للروبوتات أنّها أشبه بأبطال الإلياذة الذين يحاكون صراع آلهتهم ورغباتها!
كان الروبوتي الفرنسي روبرت جولن، الذي تأثّر كثيراً بروايات جول فيرن، قد كرّس حياته لصناعة روبوت يساعد الناس في حياتهم اليوميّة، وذلك في أن يخوض الروبوت غمار تأثيرات النشاط الإشعاعيّ بدلاً من الإنسان، وأن تساعد الروبوتات الأشخاص الأشدّ احتياجاً على الاستمرار في الحياة دونما حاجة إلى أحد، وفي كنف الكرامة مع الأصحّاء، وبذلك يمكن للذين يفقدون أطرافهم في الحروب كلّ يوم، على مرأى من أعيننا وعلى الهواء مباشرة، أن يشغّلوا روبوتاً لخدمتهم! لا شكّ في أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، فهم بالكاد يحصلون على طرف صناعيّ، والأصل في عالم مهتمّ بالأخلاق هو ألّا يتعرّضوا للقصف والتفجير بالألغام والقذائف، إلّا أنّ البشر الذين يعيشون في عالم (النخبة العلميّة) ينتظرون من الذكاء الاصطناعيّ أن يحسّن الحياة والتعاملات، في حين أنّه ليس سوى وعاء سينضح بما فيه، ويمكن أن يلقّنه البشريّ الشتائم مثلما يلقّنه الإطراء، مثلما شاع عن السؤال الموجّه لتطبيق شات جي بي تي عن الحالة الفلسطينيّة- الإسرائيليّة. سيكون بذلك لدينا روبوت شرقي ضحية، وروبوت غربي كاذب وملفّق، ولن يتمكّن الذكاء الاصطناعيّ من أن يبيّض صفحة العالم السوداء، بل سيزيدها سواداً.
لعلّ السؤال الأولى بالطرح هو ما الذي ستفعله الروبوتات في جغرافيا ليس فيها كهرباء، وإنترنت، وماء، بل ممنوع على سكّانها الأصليين الاقتراب من حدودها، أو أنّهم سيزجون بالمعتقلات لحظة الوصول، ويقنصون بلا حسيب، يمكنها فقط أن تشكّل مشهديّة فانتازيّة فتقوم بطقوس الجنائز وتدفن الموتى؟ لا يمكن للنوايا الطيّبة أن تحسّن حياة عالم مصاب بمتلازمة تعدد القطبيّة، يصنّع الأسلحة المتطوّرة ليقتل البشر، ثمّ يصنع الروبوتات لرتق الخراب الذي تسبّبت به الأولى، ولنتذكّر أنّه في القرن الخامس عشر أخفى ليوناردو دافنشي مخطّطات الغوّاصة التي اخترعها مشيراً إلى أنّه لا يريد أن يقتل البشر بعضهم بعضاً في أعماق البحار.
كان في مدينتي، حين كانت بلدة صغيرة، رجل خسيس يلقّب بمديسيس، وكان يحلل الحرام ويحرّم الحلال، ويتلاعب بالضمائر، ويشي بالأبرياء، ويأكل مال اليتيم، وفي يوم بنى داراً جديدة، وأقام فيها حمّاماً عجبة من الأعاجيب بمقاييس ذلك الزمان، ليس مثله حتّى في قصر القائمقام، يحتوي وسائل النظافة وأدواتها على أحسن ما يكون، لكنّ الناس ظلّوا يعيّرونه بممارساته القذرة، وسار بينهم المثل: (مثل حمّام مديسيس) ليشير إلى تلك المفارقة العميقة التي يصعب شرحها.