الحديث عن عالم خاضع لما أصبح يسمى «الذكاء الاصطناعي» ما يزال في بداياته لأن التطورات في هذا المجال حدثت بهدوء على مدى عقود، بدون أن يشعر بها أغلب البشر، وظهرت فجأة الى العلن واصبحت تشغل بال الكثيرين.
وما أن ظهر نظام «تشات جي بي تي «وغيره من تطبيقات هذا «الذكاء» حتى أصيب من اطّلع عليه بالدهشة والحيرة والشعور بالضعف وعدم القدرة على توجيه التفكير او اتخاذ الموقف. فقد كانت التطورات التكنولوجية في كل عهودها صادمة للإنسان، لأنها كانت تتحدى قدراته المادية والجسدية، فالسيارة كانت تحديا لهذا الإنسان ولكنه استطاع استيعابها وكذلك فهم النظريات العلمية التي تقوم على أساسها. وربما كان استيعاب الطائرة أصعب لأنها خارج حدود القدرات البشرية. كما كان اختراع الكومبيوتر وانتشاره على نطاق واسع في السوق قبل ثلاثة عقود طفرة أخرى أشعر الإنسان بضعفه أمام الآلة، والأمر نفسه ينطبق على الهواتف الذكية التي انتشرت في العقدين الأخيرين، فجميعها محكوم بقوانين علمية وقواعد تصنيع يستطيع العقل البشري العادي استيعابها وإن لم يفهمها. ولكن ظاهرة الذكاء الاصطناعي تطور من نوع آخر. هنا يتجاوز التحدي ما كان مألوفا من تصنيع ينتج أجهزةً تفوق القدرات الجسدية للجسد، أو يأتي بمنتجات خاضعة لقوانين معروفة لدى قطاعات واسعة من الطبقات المتعلمة. أما الذكاء الاصطناعي فهو خارج عالم الجسد والأبعاد المادية للإنسان، ويتصل بفضاءات العقل التي ما تزال خارج الاستيعاب البشري. فحين تستطيع الآلة إنتاج أية مادة مكتوبة مهما كان موضوعها، فإن ذلك يتجاوز قدرات العقل البشري العادية. فالتحدي هنا ليس محصورا بظواهر القوة التي تتجاوز قوة الإنسان، ولا بالاستغناء عن خدمات الناس في الفضاءات العامة، بل أصبح الخطر يداهم العقل البشري ويوحي بإمكان الاستغناء عنه واستبداله بالآلة، وأن ما بدأ بإنتاج الكومبيوتر والهاتف الذكي تجاوز الآن كافة الحدود المألوفة للإنسان. هنا أصبح عالم التكنولوجيا قادرا، حسب ما يبدو، على الاستغناء عن دور العقل البشري واستبدال عمله بما يسمى «الذكاء الاصطناعي».
عندما كان كاتب هذا المقال يواصل دراسته الجامعية في منتصف السبعينيات في مجال «هندسة السيطرة والتحكم» التي تتضمن تطبيق انظمة تحكّم حديثة تجعل الوحدات الصناعية قادرة على العمل بشكل أوتوماتيكي، كان يواجه تساؤلات حول البعد الأخلاقي لمثل هذه العلوم. فإذا أصبحت المصانع ذاتية التحريك والتحكم تقلصت الحاجة لتوظيف البشر لتشغيل المصانع. يومها كان ضمن منهج الدراسة الجامعية مادة حديثة تسمى «الذكاء الاصطناعي» التي كانت في بداياتها ولم تكن تشغل بال الكثيرين. قبلها بعشرة أعوام حدثت انتفاضة عمالية في البحرين استمرت ثلاثة شهور، سببها استغناء شركة النفط عن 500 من عمالها نتيجة تحديث أنظمة التشغيل وإدخال أجهزة التحكم الذاتي على نطاق واسع بمصنع التكرير. فتحرك العمال والطلاب في انتفاضة استمرت ثلاثة شهور مطالبين بإعادة المفصولين إلى أعمالهم. واليوم هناك أسئلة يواجهها العالم على نطاق أوسع بسبب تطور ما يسمى «الذكاء الاصطناعي». هذه المرة لم يعد هذا التطور محصورا بأنظمة التشغيل الأوتوماتيكي، بل تجاوزت ذلك ليصبح الذكاء تحديا حقيقيا ليس لفرص العمل والوظائف فحسب، بل لعقل الإنسان نفسه. وفي الآونة الأخيرة انتشر نظام يسمى «تشات جي بي تي» الذي أصبح، في نظر الكثيرين، متفوقا في بعض جوانبه على أداء العقل البشري. هذا النظام مدهش جدا ويمثل منافسة حقيقية للعقل البشري نظرا لقدراته المتعددة وسرعة استجابته لطلبات مستخدميه. فبإمكانه مثلا كتابة هذا المقال بسرعة فائقة وبجودة قد لا تصل لما يقدمه العقل البشري ولكنها تقترب منها. وبهذا دخل التطور العلمي والتكنولوجي حيّزا جديدا من تحدي الوجود الإنساني. هذا الوجود قوامه العقل والذهن والقدرة على التفكير.
وقد بدأ السجال حول هذا النظام العلمي ضمن سياقات محدودة حتى الآن. ولعل أول ضحايا ما يسمى «الذكاء الاصطناعي» هو العقل الذي طالما تسابق الفلاسفة حوله وحول دوره في تشكيل حياة الإنسان، وهو الذي جعله الله العامل الأول للتوجه نحو الخير او الشر. وجاء في الحديث المأثور: «لما خلق الله العقل قال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك، إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب وإياك أعاقب». ومن الانتقادات الجوهرية لتوسع دائرة الذكاء الاصطناعي أنه سوف يلغي تدريجيا دور هذا العقل برغم الانتقادات الفلسفية التي وجهت للفيلسوف الألماني إيمانويل كانت. هذا الفيلسوف الذي عاش في القرن الثامن عشر ووضع قواعد «العقل المشترك» من خلال التفكر والنقد، سيكون أول المتشددين ضد تطوير البديل الصناعي للعقل البشري، الذي يتوقع انتشاره على نطاق واسع في المستقبل المنظور.
هل الذكاء الاصطناعي بداية نهاية الجنس البشري الذي لا مكان له إذا فقد العقل دوره؟ تساؤلات مطروحة ومشروعة ما تزال في بداياتها، وقد تتأخر الإجابات عليها إلى ما بعد تحول الإنسان إلى كائن بلا عقل
فحتى منتقدو المنظور العقلي للحياة سيثورون ضد ذلك ويتمنون العودة إلى الأيام الخوالي التي انتقدوا فيها دور العقل. بل أن ما يُوجّه للعقل ودوره من انتقادات منها أن هذا العقل «ينحاز» أحيانا و «يخطئ» أحيانا أخرى، فإن استمرار النشاط العقلي يوفر مجالا للكثيرين للتفاعل معه، والبحث عن نواقصه وربما تحدّيه أحيانا والبحث عن أسباب الخطأ وقواعد الصواب. واستخدام العقل يدفع لتغيير المواقف عندما تتضح البراهين والأدلة. بينما لا يتحقق ذلك مع ظاهرة «الصندوق الأسود» الذي يتضمن «الذكاء الاصطناعي». هذا الصندوق يصدر توجيهاته وإنتاجاته بناء على ما يختزنه من معلومات وأوامر تصدر بشكل أوتوماتيكي طبقا لقواعد المنطق التكنولوجي والعلمي وليس العقلي، فلا يمكن مناقشة ما يقدمه. وهذا ما يميز التعامل مع الآلة بدلا من العقل المؤسس على المنطق والحكمة والدليل. ولذلك ثمة خشية من أن يؤدي الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي إلى قرارات خطيرة تؤدي لنشوب الحروب وتقليص فرص التفاهم والوئام بين الدول.
المدافعون عن تطوير الذكاء الاصطناعي يردون على مقولة أن الحالة الهلامية التي يتميز بها سمة ثابتة مرتبطة بالتصميم والصناعة ولا يمكن التأثير فيها. ونظرا لأهمية القضايا التي يتعاطى الذكاء الاصطناعي معها، وأنه يتخذ قراراته طبقا لما يختزنه من معلومات ومنطق تشغيلي، وأن قراراته خاصة به ولا يمكن مناقشتها من قبل المستخدمين، فقد بذلت جهود كبيرة لإنتاج ما يسمى «الذكاء الاصطناعي المشروح» أي الذي يقدم تفسيرا للنتائج والقرارات التي تتخذها الآلة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي. ولكن حتى هذه التطويرات إنما هي إضافة للبرنامج وليست جزءا منه. فهي تحاول تفسير إنتاجات الذكاء الاصطناعي وليست جزءا من العملية في الأساس. وهذا يشبه عمل مدقق الحسابات الذي يحاول شرحها وليس له يد في حدوثها ابتداء.
البعض ينظر لظاهرة الذكاء الاصطناعي أنها بمثابة «الأصنام» التي كانت تحظى بعبادة الكثيرين في القرون التي سبقت رسالات السماء. الفرق أن هذه الأصنام تتكلم وتقدم وجهات نظر قد تفوق في قوتها ما يطرحه الكثيرون، الأمر الذي يجعلها أخطر كثيرا من عبادة الأصنام في العصور البائدة. بل أنها تظهر أحاسيس أيضا كالدهشة والاستغرب والانزعاج. حتى أن بعض المحامين الأمريكيين أصيبوا بالذعر الشهر الماضي عندما استُخدم نظام جديد اسمه «جي بي تي 4» بإحدى قاعات الامتحان للمحامين، وبدأوا يشعرون أن مهنتهم مهددة بسبب الدور الذي أنيط بالذكاء الاصطناعي للقيام به في عالم القضاء والقانون. كما أن الأطباء قلقون من قدرة الذكاء الاصطناعي على فبركة البحوث العلمية. بل أن نظام «تشات جي بي تي» اتُّهم قضائيا في قضايا تشويه سمعة. بل أن المؤسسة العسكرية الأمريكية ومؤسسات البحث العلمي تنفق أموالا هائلة لتطوير آلات متطورة لممارسة الرقابة والتوجيه في مجال الإعلام الحكومي. أي أن الذكاء الاصطناعي أنيطت به أدوار سياسية وإعلامية كانت محصورة بالحكومات ومؤسساتها.
وهنا تتسابق الضوابط والأولويات. فنظام الذكاء الاصطناعي الأكثر تعقيدا لا يمكن استنساخه بسهولة، فيكون أكثر ربحًا لصانعيه. وقد يكون تصميم الأنظمة المعقدة أسهل من الأنظمة الأبسط والأسهل تفسيرا. ويرى الكثيرون أن الأنظمة الأكثر تعقيدا التي لا يمكن فهمها بسهولة تكون أوسع قبولا لدى المستهلكين، وبالتالي أكثر ربحًا للمصنّعين. هنا يصبح النظام أكثر جذبا لأنه يستبطن قدرات تضفي عليه سمة تقترب من القداسة المرتبطة بعالم الغيب لأنها تتوفر على ذكاء يفوق ما لدى الإنسان. وقد يؤدي ذلك إلى مصاعب جمة للجهات الحكومية التي تسعى للتقنين الذي يضبط مجال الذكاء الاصطناعي. هذه الجهات الرسمية تجد نفسها مدفوعة لمخاطبة منتجي أنظمة الذكاء الاصطناعي ومطالبتهم بتصنيع أجهزة قابلة للفهم والاستيعاب من جهة ويكون منطق عملياتها قابلا لفهم البشر بقدراتهم العقلية الطبيعية. أما البديل لذلك فهو العيش في عالم اجتماعي بدون إيقاع منطقي أو عقلي تتوفر فيه الإجابات التي لا يمكن مناقشتها أو الاستفسار عن طرق الوصول إليها.
بعد هذا العرض تطرح التساؤلات المشروعة: هل بدأت نهاية العقل البشري؟ هل أن ذلك استكمال لمشوار التمرد على الدين في الثقافة الغربية المعاصرة، ذلك المشوار الذي بدأ باستبعاد الإله والخالق من الحياة العامة؟ هل أن «موت العقل» نسخة مصححة من كتاب «مات الله» للفيلسوف فريدريك نيتشه قبل 140 عاما؟ هل الذكاء الاصطناعي بداية نهاية الجنس البشري الذي لا مكان له إذا فقد العقل دوره؟ تساؤلات مطروحة ومشروعة ما تزال في بداياتها، وقد تتأخر الإجابات عليها إلى ما بعد تحول الإنسان إلى كائن بلا عقل. أهذه هي النهاية الطبيعية للبشرية؟
كاتب بحريني