يعتبر فرناند بروديل في كتابه «ديناميكية الرأسمالية»٭٭ أن الاقتصاد ليس مجرد نشاط اقتصادي، بل إنه «يفسر الوقائع المهمة، وما يتخللها من هفوات وصدف». وهذا لا يساعد على اختيار أسلوب حياتنا، ولذلك نواجه مجموعة من التحديات منها، الأوبئة والحروب وتراجع الموارد، ويترتب على ذلك انقطاعات تبدل السياق.
ومن المنطقي أن يكون الهدف دائما هو الصراع على السعرات الحرارية، وهو ما يفسر انقراض حضارات ونشوء أنظمة، ويترافق ذلك مع مقاومة بطيئة ومضنية للعالم الخارجي. وبهذا الشكل تنشأ التجمعات الاقتصادية التي تشجع على تنمية الأساليب والتقنيات وتنويع أشكال المبادلة. وبالتالي تؤسس، لما يسميه بروديل، اقتصاد السوق، المكون من سلسلة متدنية تضم الأسواق والحوانيت والبائعين، وسلسلة أعلى تضم المعارض (المهرجانات) والبورصات. وقد ازدهرت هذه الصيغة بين القرنين 15 و18 وبشكل سوق خاصة تخضع لرقابة السلطة الحضرية، وسوق عامة متحررة من هذه الرقابة، لصعوبة فرض أي قانون محدد عليها.
وهكذا انتعشت الأسواق الحضرية والمتاجر، وشملت الأرياف أيضا، حتى أن الإسلام جرد القرى من أسواقها وابتلعتها الحواضر كما في أوروبا، مع الاحتفاظ بمعارض محدودة منها مهرجانات الحج في مكة، أو زيارة المدينة. وكانت حدود المزارعين تقف عند أبواب المدن، ويمكن هناك أن يجد الطرفان مساحة محايدة لتبادل المصلحة. هذه المساحات المفتوحة والمختلطة، التي تصبح فيها للنقود قيمة مستقلة بذاتها، تشبه الخدمات الفندقية (بتعبير بروديل). فالفنادق لا تزدهر إلا بوجود أغراب من خارج البنية.. ومن هنا ينشأ أول اختلاف أساسي بين السوق والرأسمالية.
ويحدد بروديل للرأسمالية عدة شروط لتتحول إلى نظام أو صيغة نشاط نفعي:
1- أن تتم الصفقات عن بعد وبين ثغور.
2- أن يقطع التاجر مع المنتج ومع المستهلك.
3- أن يكون التعامل فوريا.
4- التاجر هو الوحيد المطلع على شروط اللعبة.
5- أن يتهرب التجار من الرقابة الشديدة، ولا توجد رأسمالية في أي جو تبادل تنافسي شفاف.
وبهذا الشكل يطفو السياق الرأسمالي، وأحيانا يدمج معه اقتصاد السوق. وبطريقة غير مباشرة يربط بروديل السياسة بالنشاط التجاري، ويشير ضمنا إلى أن السباق السياسي بين المحافظين والمناوئين لهم يرتبط بشدة بطريقة فهمهم لإدارة اقتصاد الدولة: بواسطة نشاط السوق، أو بطريقة تعويم المبادلات الطويلة. بتعبير آخر «السياسة هي شكل من أشكال التعبير عن موقف الدولة من العالم المالي». وإذا نظرنا للكنيسة على أنها دولة لإدارة ورعاية الدين ومصالحه، فموقفها من السوق والمضاربات هو الذي يقرر حدود تصوراتها الميتافيزيقية، وبلغة بروديل «دولة الدين تقبل متطلبات الحياة مع عدم الاعتقاد بها، وهو أول مبدأ من مبادئ الحداثة عند توما الإكويني وأوغسطين». وربما لهذا السبب اعتقد فيبر أن الرأسمالية هي اختراع بروتستانتي. ويقابل ذلك ظهور الهوية البورجوازية، فهي ليست طبقة منفصلة لكنها حامل للسياق الرأسمالي، فالرأسمالية تأكل نفسها لهدف واحد: وهو استبدال القيم الميتة والضامرة بقيم حية ونشيطة، ولهذا السبب لم تتراجع الرأسمالية مثل الإقطاع. وترتب على ما سلف نشوء ما يسميه بروديل «عالم الاقتصاد». ويرى بروديل أنه يعبر عن ثلاث حقائق.
1- احتلال حيز جغرافي محدد.
2- وجود مدينة مركزية بمثابة عاصمة اقتصادية.. وهي الآن نيويورك.
3- التوزع على دوائر لها مجال حيوي وتنافسي، وتتبعها دوائر وسيطة ثم أطراف تابعة وغير مشاركة.
لا تقل أطروحة بروديل بالأهمية عن ثورة فوكو في المعرفة، أو هنري لوفيفر في تأويل الحداثة، فهي تنظر للعالم على أنه مجموعة أنظمة تخترقها عدة لحظات من النشاط الرأسمالي، بمعنى أن الجميع متورط بالديناميكية الرأسمالية. لكن هذا لا يعفينا من التوقف عند بعض نقاط الارتكاز.
أولا علاقة المسائل اليومية والروتين باقتصاد السوق، وهي ظاهرة عامة مهما كان شكل النشاط الاقتصادي، وتستفحل بوجود نظام عسكري أو أوليغارشي، كما في معظم بلدان العالم الثالث.
ثانيا أهمية المأكل والملبس والمشرب، فهي ليست ظاهرة متعلقة بطبيعة النظام كما يرى بروديل، لكنها ظاهرة معرفية تحددها الثقافة والدين، إن لم يكن الطقس والمناخ. مثلا يوجد تنافس شديد في الحمية الغذائية بين الأرز والقمح والبطاطا، والعامل المحدد هو طول الفصول ودرجة الحرارة بالإضافة للثروة المائية. وكذلك وجبة الأرز والسمك في وسط افريقيا. لا يعقل أنها واجب فرضته الأنظمة على شعوبها، لكن تقف وراء ذلك حقائق الجغرافيا، بمعنى أن التاريخ والسياسة ليس لهما أي علاقة بالموضوع.
ثالثا المعنى الاجتماعي للأمراض الرومانسية (كما يسميها بروديل) كالسفلس، فهي لا تنطوي على أي تعبير عن درجة الحرية الجنسية بقدر ما تعكس الحالة التاريخية. وانتشار هذه الأمراض في فترة ما بين الحربين نتيجة مباشرة للخلل الذي لحق بالمجتمع المدني، ولتقليص حجم نفوذه وصلاحياته، وتشير الإحصاءات إلى أن انتشارها ترافق مع موجات نزوح، وليس مع تبدلات في الاقتصاد، فقد انتقل من فرنسا إلى إيطاليا بعد غزو شارل الثامن لنابولي، وأي ربط للمشكلة بالحرية الجنسية يدل على موقف مسبق، وعلى تسييس الثقافة الصحية، فالإسلاميون اتهموا به أوروبا من باب التباهي، ومثلهم الشيوعيون اغتنموا الفرصة لمضاعفة تقييد حركة الأفراد ولزيادة الرقابة على الحياة الخاصة وأساليب التفكير، واستغل الحرس القديم في روسيا المشكلة نفسها للهجوم على غورباتشوف وسياسته وتبرير انقلابهم الفاشل. ومن بين المآخذ المنسوبة للبيروسترويكا أنها سمحت للإيروتيكا بالدخول لمجال التعبير الأدبي والسينمائي، كما لو أن الانفتاح ليس جزءا من سياسة تنافسية على الموارد وصناعة السلاح وغزو الفضاء، وإنما هو نتيجة عقدة جنسية. وبالعودة للسجلات تلاحظ في تقرير المركز الأوروبي للأوبئة في استوكهولم التكتم الشديد على الصين، وكل منظومة الشرق الأوسط، بينما تؤشر الأرقام الواردة من بلد معروف بحريته الجنسية مثل السويد لانتشار منخفض يصل معدله إلى 3% مقابل معدل انتشار مرتفع وصل إلى 7.5% في بلد محافظ، لكن يمر بمرحلة اضطراب سياسي مثل لاتفيا.
رابعا وأخيرا لا يمكن للبورجوازي (القدم المعفرة) أن يكون جزءا من الماكينة الرأسمالية، وحتى إذا صعد على السلم فهو يحمل حزمة برامجه الجاهزة معه. وإن حصل أي انقطاع أو تحول بنيوي يكون على مستوى الأخلاق أو الثقافة، بمعنى أن التحول يطرأ على الوسائل والأدوات وليس البرنامج. وكما ورد في الخاتمة: إذا كان بروديل يعتقد أن الرأسمالية تبدل مركزها، لكن لا تغير وجهها، وبالحرف الواحد إنها «تتغير بطريقة مذهلة في تبادل الأصول والوسائل، دون أي تغير ولو بمقدار بوصة واحدة في طبيعتها الحقيقية» أعتقد أن البورجوازية أيضا لديها الحرية الكافية لاختيار قناع من مخزن أدواتها، دون أي نية بتبديل الوجه المختفي تحت هذه الأقنعة. فالرأسمالية تتحول في مرحلة ما إلى إمبريالية، لكن البورجوازية تكتفي بالسيطرة على جزء من الكل، إنها تتمدد لتكون إمبريالية وطنية أو تعقد شراكات تبلغ أحيانا درجة الوصاية على الغير لكن لا تفرض استبدالا قسريا على بنية الآخر.
٭٭»ديناميكية الرأسمالية» ترجمة شفيق محسن. صدر عام 2008 عن دار الكتاب الجديد المتحدة في بيروت/ 98 صفحة.
كاتب سوري
لقد ورد التالي (حتى أن الإسلام جرد القرى من أسواقها وابتلعتها الحواضر) تحت عنوان (الرأسمالية واقتصاد السوق) من الكاتب السوري (صالح الرزوق)، وهذا كذب وافتراء من وجهة نظري، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!
لغة القرآن وإسلام الشهادتين، ليست ضد الواقع أو (الحكمة)، بل هي ضد (الفلسفة)، أو خيال التشكيك لأجل التشكيك، بلا سبب أو منطق أو موضوع،
لأن، حكمة العرب تقول، الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، ألا يدل هذا الكون، على خالق جبار عظيم،
وفي لغة القرآن وإسلام الشهادتين، 99 من معنى المعاني لمعنى كلمة (الله) كخالق لهذا الكون،
نحن أهل ثقافة الحب العُذري، أو الحب بلا عوائد مالية أو إيرادات أو منفعة شخصية،
عكس أهل كيبوتسات الشيوعية (الجنسية)، التي تتعامل حتى مع الدعارة كمهنة ذات إيرادات، تدخل من ضمن (إقتصاد السوق)،
أي يجب فرض عليها (ضرائب ورسوم وجمارك)، وليس فيها أي جريمة ضد أي (أسرة) أو (أخلاق/دين)، وهنا مربط الفرس،