انتهى تصويت الناخبين الأمريكيين أمس، في مناخ مضطرب أمنيا وسياسيا وقانونيا، بعد حملة انتخابية سوف تقود الولايات المتحدة إلى واحد من اتجاهين، الأول هو استمرار مشروع ترامب للإبحار بعيدا عن القيم الأمريكية التقليدية في الديمقراطية والسلام، التي تجسدت في مبادئ ويلسون المعلنة قبل أكثر من 100 عام، والثاني هو إعادة الثقة في هذه القيم وتثبيتها من جديد في ظروف عالمية قاسية بالنسبة للولايات المتحدة، المحاصرة داخليا بفشلها في مواجهة وباء كورونا، وخارجيا بالتحدي الصيني الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري.
ترامب هو الرئيس الأمريكي المفضل لدى الحكومات القائمة في روسيا والصين ومعظم دول الشرق الأوسط، باستثناء إيران والسلطة الوطنية الفلسطينية. كما يلقى تأييدا قويا في دول الاتحاد الأوروبي شرق برلين، ومن حكومات بريطانيا والبرازيل والهند، وكل الحكومات الأوتوقراطية في العالم، وهي جميعا تترقب فوزه، وتستعد للاحتفال به.
بينما يحظى المرشح الديمقراطي جو بايدن بتأييد التيار الديمقراطي التقليدي في العالم، الذي يواجه مشكلات صعود التيار القومي الشعبوي، وأزمات الرأسمالية، وتآكل الطبقة الوسطى، والعجز حتى الآن عن تطوير رد راديكالي، عملي ومقبول، للخروج من مأزقه التاريخي، وهو ما دعا بايدن إلى القول بأنه في فترة رئاسته الأولى، (إذا فاز) سيدعو إلى عقد (مؤتمر ديمقراطي عالمي) لإعادة التأكيد على القيم الأمريكية، وعلى قيادة الولايات المتحدة للديمقراطيات الغربية.
ترامب خاض حملته الانتخابية باستراتيجية هجومية، لإرباك خصمه وتعطيل رسالته السياسية، والتشكيك في نظام التصويت، والدعوة إلى تغيير نظام الفرز، والتمهيد لحدوث تجاوزات خلال العملية التصويتية ذاتها. في المقابل عجز بايدن عن تطوير استراتيجية لضرب سياسة خصمه، وصرف انتباه الناخبين عن استراتيجية ترامب الإرباكية، بتأكيد المحتوى السياسي لحملته، والتركيز على القضايا التي تعيد الثقة في منظومة القيم الأمريكية. النتائج النهائية للانتخابات قد يقبلها ترامب، وقد ينتهي بها الحال إلى نزاع قانوني تفصل فيه المحكمة العليا. ولم تكشف الحملة الانتخابية عن مواقف تفصيلية واضحة للمرشح الديمقراطي، في ما يخص قضايا السياسة الخارجية، ولم يكن ترامب في حاجة لإعلان مواقفه، لأن سياساته تتحدث عنها. ولذلك فإن كثيرين من مؤيدي بايدن الذين كانوا يودون الاحتفال بالقيم الملونة ومبادئ الديمقراطية الليبرالية في خطابه الانتخابي، لم يحصلوا على ما يريدون، بينما أنصار ترامب من أنصاف المتعلمين والمحافظين والمسيحيين المتشددين، وأعداء المهاجرين وغيرهم، كثيرا ما صفقوا للخطاب السياسي الاستفزازي والإرباكي لمرشحهم.
على صعيد الشرق الأوسط، يترك الرئيس الأمريكي عموما بصمة واضحة على سياسات وتوجهات حكومات المنطقة. وقد ترك الرئيس السابق باراك أوباما ميراثا ما تزال معالمه واضحة، خصوصا فيما يتعلق بتأييده لحل الدولتين كطريق لتسوية المشكلة الفلسطينية، وما يتعلق بدعمه لسياسة الوفاق العربي – الإيراني، ودمج إيران في النظام العالمي، وتأكيد حقها في الحصول على التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية، مع تقييد برنامجها العسكري من خلال الضوابط الواردة في الاتفاق النووي الذي تم توقيعه قبل عام من انتهاء رئاسته. رؤية الديمقراطيين للمنطقة لم تتغير كثيرا حتى الآن، على الرغم من التطورات الدرامية التي طرأت على الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط، التي ارتكز الكثير منها على الرؤية التي قدمها ترامب في القمة الأمريكية – الإسلامية في الرياض بعد أشهر قليلة من توليه منصبه. نتائج الانتخابات ستشير إلى واحد من الاتجاهين، إما تثبيت رؤية ترامب، أو إزالة لافتته من الطريق ورفع لافتة بايدن.
السلام الإسرائيلي في السياسة الخارجية الأمريكية يعني زيادة العسكرة، والمزيد من تحويل الموارد من قطاعات التنمية إلى القطاع العسكري
حكام الشرق الأوسط، ومنهم حكام البلدان العربية، هم الأكثر قلقا بشأن نتائج الانتخابات الأمريكية، فكراسي حكمهم ومدى استقرار بلدانهم يرتبط إلى حد كبير بهذه النتائج. وتعاني شعبية بايدن عربيا من التدهور بسبب ميراث العلاقات بين المرشحة الديمقراطية السابقة للرئاسة هيلاري كلينتون والإخوان المسلمين عندما كانت وزيرة للخارجية. وسيظل هذا الميراث يطارد بايدن في المنطقة في حال فوزه. ويشعر الكثير من الحكام العرب بقدرة أكبر على التفاهم والعمل مع ترامب، ويتمنونه رئيسا للولايات المتحدة مدى الحياة! أما القوى المناوئة لسياسة ترامب الخارجية في الشرق الأوسط، فما تزال ضعيفة وهشة ومنقسمة على نفسها. ولا تدل الشواهد في الدول العربية على أن (الديمقراطية) قضية عاجلة، وإنما هي قضية مؤجلة، بسبب ضعف القوى السياسة والاجتماعية التي تتبناها في الوقت الحاضر. وتصطدم دوائر الحكم في الدول العربية بنزعة الديمقراطيين إلى تأييد سياسة خارجية تقوم على مبادئ الديمقراطية الليبرالية، واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة، وهي المبادئ الغائبة إلى حد كبير في الشرق الأوسط ككل. وقد مارس الديمقراطيون في الكونغرس ضغوطا كبيرة من أجل ربط المساعدات إلى دول المنطقة، بما فيها صفقات السلاح، بسجل كل دولة في احترام حقوق الإنسان والحريات العامة، لكن الرئيس الأمريكي الجالس في البيت الأبيض، قاوم هذه الضغوط بكل قوته، وهو ما ظهر جليا في تداعيات واقعة ذبح الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول؛ فانتهت الضغوط إلى لا شيء تقريبا. ويعلن ترامب، بلا مواربة، إعجابه بالحكام الديكتاتوريين، ويحسدهم على سلطاتهم المطلقة، ويتمنى لو أنه يستطيع أن يصبح مثلهم!
في إيران سيكون فوز ترامب استمرارا لسياسة الضغوط القصوى الأمريكية، بينما سيفتح فوز بايدن الباب لتخفيف بعض العقوبات، واستئناف الحوار بشأن مصير الاتفاق النووي. أما في إسرائيل فيعتبر ترامب أكثر الرؤساء الأمريكيين خدمة لحلمها في التوسع الإقليمي وتصفية القضية الفلسطينية، وإقامة (السلام الإسرائيلي) في المنطقة. وتعتقد الأغلبية العظمى من الإسرائيليين أن ترامب يجب أن يفوز لكي يكمل صفقته في الترويج لـ(السلام) مع الدول العربية، وتصفية القضية الفلسطينية تماما، والوقوف بقوة ضد إيران، ومساندة إسرائيل في إرساء صيغة لتوازن إقليمي يحد من الوزن الاستراتيجي لروسيا، ويساعد على ترويض الموقف الأوروبي المؤيد للفلسطينيين. مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتمثل أساسا في إسرائيل والنفط والسلاح والقمح والإرهاب، وتأمين الممرات البحرية الدولية. وأهدافها هي منع امتلاك إيران لسلاح نووي وقوة صاروخية استراتيجية، والحد من النفوذ الروسي والصيني، والحصول على أكبر عائد مالي ممكن من دول المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية. وأهم أدواتها هي إقامة شراكة عربية إسرائيلية، وحلف عسكري سُنّي – إسرائيلي، وحماية حلفائها في الخليج وشرق المتوسط، وتعزيز علاقاتها بالأنظمة الأوتوقراطية في المنطقة. وتستفيد من المصالح الأمريكية في المنطقة شركات النفط، والسلاح، والمزارعين، والجماعات المحافظة دينيا.
أما القيم الديمقراطية التي ارتبطت بها السياسة الخارجية الأمريكية لعقود من الزمن، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الدينية وغيرها؛ فإن النظرة إليها في السنوات الأخيرة أصبحت تخضع لمعدل التكلفة/ العائد. فليس صحيحا أن سياسة ترامب الخارجية تخلت تماما عن هذه القيم؛ فهي موجودة بقوة في الخطاب السياسي الأمريكي المعادي لدول مثل الصين وإيران وفنزويلا، وعلى أساس هذه القيم يتم تبرير العقوبات المفروضة عليها. وليس من المتوقع أن يأتي جو بايدن ببديل راديكالي في السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، نظرا لعاملين أساسيين، الأول هو النفوذ اليهودي داخل الحزب، والثاني هو أن نسبة قليلة من كوادر الحزبين الديمقراطي والجمهوري (20% للديمقراطيين مقابل 10% للجمهوريين) تعتقد أن القيم الديمقراطية ينبغي أن تتقدم على المصالح عند رسم السياسة الخارجية. وعلى الرغم من أن تلك السياسة انقلبت من النقيض إلى النقيض في عهد ترامب، فليس من المتوقع أن يتكرر ذلك في حال سقوطه. ولم يقدم بايدن خلال حملته الانتخابية ما يشير إلى عكس ذلك.
وتقف وراء الدعوة لتغليب القيم على المصالح، فئات من الطبقة الوسطى التي تضررت في العقود الأخيرة، وجماعات من المفكرين التقليديين والإعلاميين والشباب، وقلة من القيادات التقليدية في أجهزة وزارتي الخارجية والدفاع، وهي أجهزة يفترض فيها دستوريا ألا تمارس السياسة، إلا بوصفها جزءا من السلطة التنفيذية التي يقودها الرئيس. وليس من المتوقع أن تغامر الإدارة الأمريكية تحت حكم رئيس ديمقراطي بمصالحها مع السعودية أو الإمارات أو مصر أو السودان لمجرد الدفاع عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي كل الأحوال فإن حساب التكلفة/ العائد سيكون هو المحرك للقرار الأمريكي في الشرق الأوسط.
من المفارقات الواضحة أن (عصر السلام الإسرائيلي) الذي ترعاه الولايات المتحدة، يرتبط بالمزيد من مبيعات الأسلحة إلى الشرق الأوسط. وقد برزت هذه المفارقة في صفقة إسرائيل – الإمارات التي تضمنت بوابة خلفية لتصدير عدة أسراب من طائرات إف – 35 بقيمة أولية تتجاوز 12 مليار دولار. وفي السياق نفسه من المرجح أن تحصل السعودية وقطر والبحرين والكويت على أسلحة أمريكية إضافية تتضمن طائرات إف- 35 وأجهزة رادار وصواريخ وطائرات مسيرة ونظما متطورة للدفاع الجوي وغيرها. كما تبحث إسرائيل مع الولايات المتحدة الحصول على المقاتلة الأمريكية الأحدث إف – 22 لضمان استمرار تفوقها النوعي العسكري على جيرانها، وسوف تحصل عليها. هذا التناقض الصارخ بين الحديث عن السلام وصفقات الأسلحة، وزيادة الإنفاق العسكري للدول العربية، يكشف جانبا مهما من جوانب فلسفة (عصر السلام الإسرائيلي) يتمثل في الحرمان من الثمار التي يمكن أن تنتج عن السلام الحقيقي بتحويل نسبة متزايدة من الإنفاق العسكري إلى التنمية وتحقيق الرخاء. السلام الإسرائيلي في السياسة الخارجية الأمريكية يعني زيادة العسكرة، والمزيد من تحويل الموارد من قطاعات التنمية إلى القطاع العسكري، وفي هذا خير للعسكريين، ولشركات السلاح الأمريكية.
كاتب مصري