اسماعيل القاسمي الحسنيحين يعبر حكامنا عن آرائهم، أشعر خلاف غيري بكبرياء وشموخ، وقبل أن يأخذكم العجب حيث لا أريد، أشرح السبب باختصار وهو التيقن بأنهم لا يمثلون الأمة في شيء، وهذا بحد ذاته مكرمة، ومدعاة للشعور بالارتياح والانعتاق مما قد يعاهدون عليه باسمنا، خاصة أن أعداءنا يعلمون ذات الحقيقة علم اليقين، وإن كانوا يجمعون منهم المواثيق والعهود ليحاججوا بها الشعوب في حال انقلبت الأوضاع، واختارت الأمة من يمثلها بحق، ولكن هيهات فحينها لن تزيد قيمة تلكم المواثيق عن ثمن الحبر الذي خطت به؛ ولعل ما حدث في تركيا 12/10 بعد ثمانية عقود من الدكتاتورية والحكم العسكري، خير دليل واقعي على استحالة دوام حال الأنظمة مهما استقوت وتغولت.أقول هذا بعد أن قرأت مقالا للرئيس حسني مبارك (ترجمت نصه الجمهورية 02/10)، نشرته’ نيويورك تايمز’، قدمه بين يدي رحلته إلى واشنطن، في إطار ما سمي بمفاوضات السلام المباشرة مع العدو المحتل الإسرائيلي، وبغض النظر عن توصيف هذه الخطوة بالعبثية أو الاستسلام وغيرهما، وتجاوزا كذلك لموضوع مقايضة الحضور أو شهادة الزور بمسألة التوريث أولا والمساعدات المالية، لم يخل الأمر من مؤشرات، منها حضور ولي العهد الرئاسي، ولقاؤه بوزير دفاع العدو؛ يمكن التوقف عند بعض العبارات التي وردت في نص المقال.1- يبدو من خلال مقدمة المقال أن كاتبه عاش انقلابا مهدت له سياسة سلفه، لكنه تجذر بحادثة اغتيال أنور السادات التي عاينها، فبات العدو الأول والأخطر هو التطرف الإسلامي في معتقده، وثبت لديه أن (العدو) الإسرائيلي لا يشكل مطلقا ذات الخطر، بل يمكن أن يكون صديقا، ما غاب عن الكاتب في هذه العقدة التي يعانيها – الرجل يستند في بعض تحاليله للحالة الفلسطينية إلى علم النفس- أن ما تعرض له سلفه ليس نتيجة معاهدة السلام فقط، وإنما تراكم المظالم على الشعب المصري، التي وثقها كبار علماء مصر، من محمد الغزالي وزينب الغزالي وعبد الحميد كشك ويوسف القرضاوي، وكثير لا تحصى أسماؤهم، ولمن يريد بعض التفصيل فليعد لكتاب ‘البوابة السوداء’ لصاحبه أحمد رائف، هذا فضلا عن نهب أملاك الناس، والتعدي على أعراضهم، أما تلكم الخطوة التي قام بها السادات فكانت القشة التي حسمت الأمر، صحيح أنها عنوان العملية، ولكنها ليست أصلها.2- يقول الكاتب: فالإطار العام لتحقيق التسوية الدائمة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي واضح ويتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 على أن تكون القدس عاصمة لكلتا الدولتين فلسطين وإسرائيل. هذا الاعتراف الرسمي من قبله بحق العدو في مدينة القدس، لا أعلم له وجه حق على الإطلاق، ولا حتى أدنى منطق، فهذه المدينة فضلا على كل فلسطين وقف على كل المسلمين، وقطعا الشعب المصري جزء منهم، لا يمكن بحال التنازل عن ذرة منها من قبل كائن من كان وتحت أي ذريعة كانت، وهذه ليست المرة الأولى التي يذهب فيها هذا الحاكم ليهب ما لا يملك ويعبر في أحسن الأحوال عن عدم إدراك ما يقول، ففي حوار مع صحيفة ‘يديعوت احرونوت’ 10/07/2009 يصرح: .. القدس الشرقية تعود للعرب، وعندما ستصلون للسلام ستكون القدس مفتوحة. وهذا تعريف كبر جهله حتى بلغ من طبقاته أرذلها، فالقدس مذ كانت مدينة واحدة، وكما بات الامر معلوما إلا عند مكابر، أن العدو لن يرضى بها إلا كاملة، فالأمة الإسلامية لن تُعرفها إلا بمدينة واحدة ولن ترضى أبدا بغير هذا.3- ويمضي الكاتب في شأن حق اللاجئين في العودة، متجاوزا قرارات الأمم المتحدة، وكذلك قرارات جامعة الدول العربية، التي من بين المصادقين عليها وزيره للخارجية نفسه، فيقول:.. والتوصل إلى حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين. ولفهم هذه العبارة نعود إلى ذات الحوار الذي أشرت إليه منذ قليل ليتضح الهدف، يقول الرئيس مبارك: أنا أرى في حق العودة بالأساس مسألة سيكولوجية، خذي لاجئا فلسطينيا يعيش مثلا منذ أربعين أو خمسين عاما في أمريكا، ويرغب فقط في أن يعرف أن لديه حقا في العودة، بعد سنوات طويلة جدا وبعد أن تعلم وتزوج ووجد عملا وولد له أطفال، ما الذي يدفعه لتغيير عنوانه! لماذا سيرغب في العودة!. آذن لكم جميعا أيها القراء أن تمدوا أرجلكم، فليس على الأرض إلا أمريكا، واللاجئون الفلسطينيون كلهم في أمريكا، جميعهم هجر منذ أربعين وخمسين عاما، بعدها وإلى اليوم لا أحد، كلهم تعلم ووجد عملا وتزوج وله سكن محترم ورزق الأولاد، لا وجود لمخيمات الفلسطينيين في لبنان ولا في سورية ولا في جميع أصقاع الأرض، ولا يعانون أبدا البطالة والتهميش والفقر والجوع والعري والضياع و..و.. بل كلهم يعيش الرفاهية والهناء والسعادة في جنة لا يعلم سواها اسمها أمريكا، والوطن عند فخ- امته وبالنسبة إليه هنا مصر مجرد عنوان، هل مددتم أرجلكم أم لا؟4- ثم تتفتق عبقرية الكاتب في ختام المقال، بعد أن طلب من نظرائه العرب مزيدا من الضمانات على تمسكهم بالسلام مع إسرائيل، وحماية أمنها والعمل على تفهم احتياجات شعبها المسكين الخائف من (همجية) هذه الأمة، يطالب مقابل هذا شريكه بتجميد الاستيطان، ليس بوقفه كما أقرت الأمم المتحدة وفك ما بني بعد 67، وإنما تجميده فقط إلى أن تتم المصادقة على معاهدة السلام مع القادة العرب، فاليوم خمر وغده (الذي لن يأتي بزعمه) أمر.هذا باختصار شديد بعض ما وقفت عليه في مقال فخ- امته، بالمجمل لم أجد تعبيرا واحدا يمكن أن يتقاطع مع عقيدة هذه الأمة، وقناعاتها الراسخة التي يستحيل تغييرها بالكلام فضلا عن الهذيان؛ لكن المدهش هنا حقا هو توهم قادة الغرب أنهم يمسكون حبلا متينا مع علمهم اليقين أنه مجرد سراب، ويبتاعون عهودا ومواثيق ممن يعرفون أنه لا يملك من أمرها شيئا، والأشد عجبا أنهم يسوقون ويفرحون حين يوقع لهم مبارك صكا، وهم موقنون أنه من دون رصيد (الثمانون مليون).’ فلاح جزائري[email protected]