الرئيس مرسي بين مخططات تمكين الجماعة وشموخ القوات المسلحة

حجم الخط
0

أزمة الثقة المستحكمة بين الرئيس محمد مرسي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية ليست في رأيي وليدة اليوم، بل هي أرث انتقل إليه ولم يضع يده بعد على مفاتيح التعامل الوطني معه.. ارث تراكم منذ اليوم الأول الذي شجعت فيه كوادر جماعة الإخوان المسلمين شبابهم والمناصريين لهم على توجيه الإهانات للقوات المسلحة، ممثلة في مجلسها الأعلى الذي تولى مسؤولية إدارة شؤون البلاد والعباد بعد يوم 11 فبراير 2011.
لا أحد ينكر أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير حسين طنطاوي ارتكب العديد من الأخطاء والتجاوزات في حق الوطن والمواطن، خلال الفترة التي امتدت من ذلك التاريخ وحتى يوم 30 حزيران/يونيو 2012، عندما سلم ـ أي المجلس – السلطة سلمياً للرئيس المدني المنتخب، وعلى نفس المستوى أيضا لا أحد ينكر أن الجزء الأكبر من هذه الأخطاء والتجاوزات كان بعلم من مكتب إرشاد الجماعة أو بالتنسيق معها، وأن الجزء الأقل منه كان فعلا مباشرا من جانبها لإحراج المجلس وزيادة معدل الهجوم الشعبي عليه بلا وجه حق، والأمثلة كثيرة.
مسارعة كبار كوادر الجماعة لعقد صفقة مع عمر سليمان، كانت أولى بوادر التنسيق مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. الترتيب لاستفتاء شهر اذار/ مارس 2011، فيما عرف بغزوة الصناديق كان بالترتيب معه.. إجراء الانتــــخابات التشريعية ثم الرئاسية قبل الانتهاء من صياغة الدستور الجديد كان بالتوافق معه.. التخلي عن الثورة والميدان شكل تكاملاً بين الطرفين، ثم تحول إلى مظهر من مظاهر لي ذراع العسكر.
أما الأفعال الأحادية، فكانت منها المطالبة بإقالة حكومة الدكتور كمال الجنزوري لإحراجه.. محاولة عقد جلسات مجلس الشعب بعد قرار حله دستورياً.. التهديد بإشعال البلاد انطلاقاً من ميدان التحرير، إن لم تعلن اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فوز مرشح حزب الحرية والعدالة..
هذا التراكم الغاضب الذي استنتج المحللون داخل المؤسسة العسكرية أنه يمهد الطريق لتفتيتها – كما يدركه اليوم خبراء المؤسسة القضائية في معركتها مع نفس الطرفين جماعة الاخوان/ حزب الحرية والعدالة، مؤسسة الرئاسة – فتح الطريق لتصاعد حجم محدود من البخار على مستوى القيادات الوسطى في المؤسسة، التي تجمع بين الفكر العسكري الاستراتيجي وليس القتالي فقط.. ظهر جلياً في اجتماع عسكري حاشد عقــــد قبل نهـــاية شهر ايار/ مايو 2012 بأحد معســــكرات الجيش الثالث بقطــاع قناة السويس، حيث أبدى الكثيرون رفضهم للإهانات التي قيلت في حق المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتمسكهم بأن أي نقد يوجه لسلوكيات القوات المسلحة ليس مكانه الشارع، ولا الهتافات المنفلتة غير المسؤولة، وإنما اللقـــاءات العقلانية التي تجمع بين المؤسسة العسكرية وقيادات الجهاز التنفيذي.
وتكرر ذات المشهد ثانية عندما اجتمع وزير الدفاع الجديد عبد الفتاح السيسي لأول مرة، عقب توليه المسؤولية ـ كما تقضي التقاليد العسكرية – مع كبار قادة القوات، الذين حرصوا على هامش نقاشه معهم على إيضاح رسالتين على قدر كبير من الأهمية: الأولى أن احترامهم للقرار الجمهوري بإحالة بعض كبار قادتهم إلى التقاعد، لا يُقلل من حجم احترامهم لهم وتقديرهم لجهدهم الفائق عسكرياً وإدارياً على مستوى المسؤولية ‘السياسية’ التي كُلفوا بها في وقت عصيب من تاريخ الأمة.
الثانية.. أنهم غير راضين عن الاتهامات التى تُكال على مدار الساعة للقوات المسلحة بغير برهان ولا دليل، وغير مستعدين لتحمل المزيد منها، خاصة إذا كانت بهدف تشويه الصورة التي تعد مقدمة لسيل من الإساءات المتعمدة للنيل من مكانة المؤسسة العسكرية.
هكذا كان الحال بعد أيام قليلة من تولي الرئيس محمد مرسي المسؤولية، وعلى الرغم من ذلك سعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة بكل ما لديه من حرفية إلى استعادة الثقة في نفسه بتكذيب كافة الأقاويل التي خططــت لفتح حوار مجتمعي حول قدرته على القيام بانقلاب ضد الشرعية المنتخبة، ولم يلتفت إلى موجة التوكيلات الشعبية التى أُشيع أنه سيقبل بها إذا ما تعدت رقم المليــــوني معين، وعمل بكفاءة على إحباط كل المساعي التي قصدت أن تضعه في مواجهة مع فئات المجتمع، وأشهرها الأمر الذي صدر له بالإشراف على تنفيذ قرار حظر التجول في مدينة بور سعيد الباسلة.
وفجأة ومن دون مقدمات أو تمهيد، نشرت صحيفة ‘الغارديان’ البريطانية مقتطفات من تقرير لجنة تقصي الحقائق التي كلفها رئيس الجمهورية بجمع المعلومات حول ‘انتهاكات الشرطة والقوات المسلحة بحق المتظاهرين’.
نقول.. تشكلت هذه اللجنة بناء على القرار الجمهوري رقم 10 لسنة 2012 من مجموعة من القضاة وكبير مساعدي النائب العام ومساعد وزير العدل ومساعد وزير الداخلية للأمن الداخلي ورئيس هيئة الأمن القومي بجهاز المخابرات العامة، ومجموعة من الحقوقيين وبعض أقارب الضحايا، وكلفت بمهمة ‘جمع المعلومات والأدلة حول مقتل وإصابة المتظاهرين من تاريخ أحداث يناير 2011 حتى 30 يونيو 2012، وكذا مراجعة كافة الإجراءات التي قامت بها الأجهزة التنفيذية في الدولة بهذا الخصوص، لتحديد مدى وحجم تعاونها مع السلطة القضائية في هذا الشأن، وبيان أوجه القصور الذي شاب أعمال تلك الأجهزة إن وجدت’..
باشرت اللجنة فوراً تنفيذ المهمة التي أُلقيت على عاتقها، وقدمت تقريرها إلى رئيس الجمهورية وإلى النائب العام في منتصف شهر شباط/فبراير الماضي.
وهذا إجراء طبيعي تحدده اللوائح والقوانين ونص القرار الجمهوري، ولكن غير الطبيعي وغير المنطقي والمخالف لكافة الأعراف، أن تتسرب بعض فقرات التقرير إلى وسيلة إعلام أجنبية تقوم بنشرها في توقيتات عصيبة مثير ة للجدل، أهم ما يميزها أنها تتزامن مع مؤشرات مخطط تدخل جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة في عمل المؤسسة العسكرية من ناحية، وتتوافق مع استحكام أزمة الثقة بينها ـ أي المؤسسة العسكرية – وبين مؤسسة الرئاسة من ناحية ثانية.
المنطق السوي يقول ان الحكمة تقتضي أن يُفَعل ما جاء في هذا التقرير على المستويين السياسي والقانوني داخل إطار الدولة المصرية ومؤساستها وأجهزتها المعنية، لأنه لا أحد فوق القانون، وفي حال ما إذا ثبت تقصير من جانب أي مؤسسة تعمل ضمن هذا الإطار في حق المواطنين وفق النصوص التي تنظم العلاقة بينهم وبين كافة المؤسسات، فلابد من القصاص العادل والمحاسبة العملية وفق القواعد الصارمة مدنياً وعسكرياً، خاصة أن الجرائم التي قد تكون لجنة تقصي الحقائق قد وضعت يدها عليها، لا تسقط بالتقادم.
ووفق هذا المنطق السوي، ليس من الحكمة ولا من المنطق السليم أن يتم تسريب بعض مما توصلت إليه تحقيقات اللجنة الموقرة لجهات ليست مصرية قبل أن تبدي الجهات المعنية رأيها وتصدر قرارها النهائي في ما جاء به، بهدف تحقيق أغراض مبطنة خارج نطاق العدالة والمحاسبة لأن هذا التصرف يتنافى مع فلسفة العدالة ومفهوم الحق ومبادئ الأخلاق، وأيضا يتعارض مع العرف الذي يُنظم العلاقة بين السلطة التنفيذية والمؤسسة العسكرية حتى من قبل قيام ثورة يوليو 1952 .
لأسباب لم يكشف عنها بعد عقد الرئيس محمد مرسي اجتماعا طارئا مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، قيل انه دوري وروتيني بين القائد الأعلى للقوات المسلحة ومؤسسة البلاد العسكرية، وقيل انه فجائي لرأب الصدع.
الأمر الذي لا خلاف عليه أن هذا الاجتماع خرج بأكثر من نتيجة حاسمة ومعلنة:
بيان اعتذار شبه رسمي لما قد يُفهم من تجاوزات وتصريحات غير منضبطة أقدمت عليها بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين فوق صفحات التواصل الاجتماعي، تعهدت خلاله ان توفر كافة الضمانات لعدم المس مستقبلاً بجيش البلاد ولا بقادته ولا بأدائه.
الإقرار بحق المجلس الأعلى في أن يُؤخذ برأيه وقرارته في كل ما يتعلق بمنطقة قناة السويس وما تُخططه له الحكومة الحالية والحكومات القادمة من مشروعات تنموية وبيئية، تحقيقا لمتطلبات الدفاع والتعبئة وفقا لمقتضيات الأمن القومي المصري.
التأكيد على وحدة التراب الوطني وضرورة الالتزام بالحقائق الجغرافية والتاريخية، التي تؤصل هذا الحق، وبدور القوات المسلحة في هذا الخصوص.
عدم التدخل تفسيرا أو تعديلا بدور القوات المسلحة في حماية حدود مصر بصفة عامة والشرقية منها على وجه الخصوص، وما تراه من إجراءات ضروريةً وحتمية في هذا الشأن.
قوبلت هذه النتائج بالترحيب الشعبي الواسع، ومن قبل غالبية القـــوى السياسية بما فيها تيارات الإسلام السياسي.
بقيت كلمة.. لا نملك المعلومات الكافية التي تكشف الستار عما إذا كانت صحيفة ‘الغارديان’ البريطانية قد قامت بنشر كل ما حصلت عليه من تسريبات، أم أنها توقفت عن النشر استجابة لمسلسل الشجب الذي تعالت صيحاته في القاهرة وعواصم أخرى، ولكننا نملك الحق في مطالبة مكتب ملحق الدفاع المصري في لندن أن يطالب رئاسة تحرير الصحيفة أن تطلعه على المصدر الذي حصلت منه على الفقرات التي قامت بنشرها، وأن يُبلغ بها رئاسته بالقاهرة فهل يتحقق لنا هذا المطلب الذي نظن ان كثيرين غيرنا يطالب به في القــريب العاجل، أم انه سيوضع في حافظة النسيان؟
استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية