كثيرة هي المحطات التاريخية التي فقد فيها بعض زعماء العالم قدرتهم على إدارة الحكم في بلدانهم، فتعذرت إمكانية قيامهم بواجباتهم الرئاسية بشكل شبه كلي، لم تعد معها ذاكرتهم تسعفهم للظهور في اللقاءات العامة، فيغيبون عن المشهد السياسي، ويبقى وجودهم محصوراً في بعض الإطلالات الشكلية المحدودة للغاية، وهو ما شجّع الدائرة المحيطة بهم، لأن تعطي لنفسها مسؤولية إدارة شؤون البلاد، من خلال صلاحيات وهمية منحها إياهم الرئيس العاجز، وفق مقولات وهمية عدّة قامت وتقوم على قاعدة أن: الرئيس أمر، والرئيس أراد، والرئيس يرى، والرئيس يعتقد.
هذا على ما يبدو، حال الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، والمحيطين برئيسها جو بايدن، الذي من الواضح أن مشاكله الصحية، وضعف ذاكرته، وتعثره أحياناً باتت تؤثر على المشهد الدولي، خاصة في خضم الإبادة الحالية المفروضة على الشعب الفلسطيني، لنجد أن معظم المواقف التي تبديها الإدارة الأمريكية، مبنية على مزاعم نقلت على لسان الرئيس الغائب، الذي لم تسعفه ذاكرته في عدة مناسبات للتمييز بين مصر والمكسيك، وبين حيفا ورفح، وهو ما ألقى بدوره الشك على مجمل المواقف التي تقال على لسانه.
أمور كثيرة تؤثر ذاكرة بايدن المتعثرة فيها، بصورة تتأثر معها مجريات الأحداث داخل الولايات المتحدة وخارجها، خاصة عندما يتضح أن البيت الأبيض لا يدار بنهج الرئيس المعتل
وعليه رأينا في العديد من المؤتمرات الصحافية، مواقف متضاربة تنقل على لسان بايدن، ما أضفى حالة من انفصام الشخصية السياسية الأمريكية من خلال الإعلان عن مواقف متغيرة ومضطربة بصوره باتت لافتة للانتباه، فالرئيس الأمريكي يقول إنه يريد وقف الحرب، ثم يُقال بالإنابة عنه بأنه ملتزم بأمن الاحتلال، وإنه سيوفر الدعم اللوجستي والعسكري لإسرائيل، ثم يقول إنه ضد العملية العسكرية في رفح مثلا، ثم تجد من مقربيه من يقول على لسانه بأنه يرفض العملية العسكرية تلك، إلا إذا وفرت إسرائيل خطة واضحة لحماية المدنيين وإبعادهم عن دائرة الخطر. ناهيكم عما قاله تاريخياً حول التزامه بحل الدولتين، لتعود وتستخدم بلاده حق النقض الفيتو ضد مشروع قرار مجلس الأمن حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية. يضاف إلى ذلك رفض الإدارة الأمريكية المزعوم لعنف المستوطنين والتفكير في معاقبتهم، بينما تزودهم أمريكا بالأسلحة الشخصية ضمن حزم السلاح الأمريكية المتدفقة على تل أبيب، التي صودق عليها خارج الإجراءات الرسمية المعتمدة، ومن قبل جوقة الحكم الرديفة! ورغم أن مواقف الرئيس بايدن الداعمة لإسرائيل معروفة تماما للقاصي والداني، إلا أن كثافة المناسبات التي عكست انفصاماً سياسياً بين ما يقال وما ينفذ، باتت تؤشر لدور كبير لدائرته المحيطة به، في استدامة الحرب وحماية قرار رئيس حكومة الاحتلال ليس إلا. فبايدن هو من أكد التزامه بحماية أمن الاحتلال، وأنه لو لم توجد اسرائيل ذات يوم لكانت هناك حاجة لإيجادها، كما قال ما قاله خلال زيارته الشهيرة لدولة الاحتلال مطلع الحرب وإعلانه عن حزمة كبيرة من الدعم تمهيدا للعملية العسكرية آنذاك. لكن تقلب مواقف الإدارة الأمريكية الملحوظ، وفي عدة مناسبات من الواضح أنه لم يعد ينضوي على مناورات وتكتيكات فقط، بل على استثمار واضح للبعض من أركان حكمه لحال الرئيس الذهنية، وهو الذي تعرض للسؤال عن ذاكرته من قبل الصحافيين مرات ومرات، بل مثل أمام لجنة رسمية كلفت بهذه المهمة أيضاً لكنها لم تنشر تقريرها حتى تاريخه.
الواقع الصحي للرئيس الأمريكي لا ينفي على الإطلاق دعمه المطلق والواضح لإسرائيل، والتزامه بحماية قرارها والدفاع عنها وتوظيف إمكانيات الولايات المتحدة الأمريكية السياسية والمالية والعسكرية واللوجستية لنجاح إسرائيل في مهمتها، ولا يعني أبداً تبرئته من دم شعبنا الفلسطيني ولا مسؤوليته المباشرة عن الحرب، ولكن هذا الأمر على سوداويته لا يعفي المتابع أيضاً من ضرورة إلقاء الضوء على ازدواجية المواقف للرئيس بين ما يُعلن، وما يُعلَن على لسانه. ولعل المتتبع لمجريات الأمور، يؤكد أن هناك بطانة تستفيد من الضعف الذهني للرئيس لتمرر بعض المواقف الحساسة، وتضمن استمرار جذوة هذه الحرب المشتعلة، وتوظف إمكانياتها وحضورها للانقضاض على كل مؤسسة تنتقد الاحتلال الإسرائيلي، أو تصدر قراراً يتعرض للإبادة الحالية والمفروضة على الشعب الفلسطيني. حال كهذا لا يؤثر على القضية الفلسطينية فحسب، وإنما يؤثر على مجريات الأمور في العالم برمته بما فيها سلسلة المواقف والخطوات الدولية التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال عهد بايدن وهو ما تحول الآن لمادة انتخابية دسمة ستنعكس حتما على أداء بايدن في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وبهذا فإن ما يجري في الحلبة السياسية الامريكية اليوم، لا بد أنه سيتفاقم قريبا مع الإخفاقات المقبلة لبايدن خاصة مع احتدام الحرب الانتخابية، وحاجة بايدن ومحيطه للصمود أمام خصم عنيد بحجم ترامب، وحاجتهم جميعاً والحزب الديمقراطي للفوز في تلك الانتخابات.
ولا يخفى على أحد أن ترامب ذاته سيركز في حملته الانتخابية لا محالة على الواقع الذهني لبايدن وكيفية إظهاره بمظهر العجز وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد، بل إن الأمور ربما تتفاقم أكثر ليطرح الديمقراطيون أنفسهم هذا الأمر في أوسع الدوائر ويضطرون في الربع ساعة الأخيرة، أن يقدموا مرشحا بديلا لبايدن بعد أن يتحقق عدم امتلاكه للأهلية الصحية للقدرة على حكم القوه الأكبر في العالم. لقد اظهر الفريق الأقرب لبايدن ولاءً غير مسبوق لإسرائيل، تلميحاً وتصريحاً وبصورة أضرت بشكل كبير بمصداقية أمريكا حول العالم، وشجعت نتنياهو على الاستمرار في حربه أمام مسعاهم جميعاً ومعهم نتنياهو لخلق شرق أوسط جديد يتم من خلاله تصدير الفلسطينيين إلى دول المهجر، واستكمال مشروع التطبيع العربي، وفتح الخط التجاري المباشر من الهند إلى البحر المتوسط، والسيطرة على غاز غزة وإحكام السيطرة على منابع الغاز والبترول في المنطقة، ومواجهة التنين الصيني في مشروعه العنيد في إعادة إحياء طريق الحرير، ومواجهة الدب الروسي في مساعيه لوقف التغول الأمريكي في أوروبا.
أمور كثيرة تؤثر ذاكرة بايدن المتعثرة فيها، بصورة تتأثر معها مجريات الأحداث داخل الولايات المتحدة وخارجها، خاصة عندما يتضح أن البيت الأبيض لا يدار بنهج الرئيس المعتل، بل بتوجهات البعض ممن لم يخفوا قلقهم مع كل ظهور علني لبايدن، خاصة في معظم مؤتمراته الصحافية. فهل يكمل جو بايدن مسيرته الرئاسية أم يضطر الديمقراطيون لاستبداله في الربع ساعة الأخيرة فعلاً؟ ننتظر ونرى!
كاتب فلسطيني
[email protected]