أي مراقب حصيف وموضوعي يتلمس مبالغات وتهويلات لا مبرر لها، أو يمكن الاستغناء عنها في الحديث عن «مؤامرة جديدة» في الأردن ربطتها دوائر «خبيثة» على الأرجح بمنطقة الرابية غربي العاصمة حيث «السفارة في العمارة».
رغم أن فيروسات التنابز توسعت قليلا مؤخرا، وظهرت بيانات «متشنجة» هنا وهناك ومن كل الأطراف إلا أن المؤامرة المندسة بتقدير الحصيف فقط «لفظية» ولم تغادر مضمون فيلم سينمائي عربي شهير اسمه «أفواه وأرانب». باختصار «التشنج» فيما يخص بمظاهرات الحراك الشعبي في ضاحية الرابية مصطنع.
وجود مندسين فبركة والحديث عن تحالف إيراني- إخواني «تزيد» وحكاية «إخوان فلسطين اتفقوا مع إخوان الأردن» أقرب إلى محاضر متاحف لأن حركة حماس – ويعلم الجميع ذلك- لم يعد يربطها إطلاقا بجماعة الإخوان المسلمين في نسختها العالمية أو تلك الأردنية إلا «السياق الفكري» بمعنى المغادرة في الأيديولوجيا من «مدرسة فكرية واحدة» لا أكثر ولا أقل.
قال إخوان الأردن ذلك مئات المرات وقاله قادة حماس، لكن بلا فائدة فلا أحد من رواد «عنزة ولو طارت» من محترفي التحريض والتخويف الموسمي يريد الإصغاء.
من يتظاهرون كل ليلة في ساحة مسجد الكالوتي ليسوا أجانب ولا متجنسين ولا مقيمين ولا غزاة، وأيضا ليسوا إسلاميين حصرا، بل أردنيون أقحاح وأبا عن جد، وأبناء عشائر وقبائل وتكوينات اجتماعية ولا أحد يملك الحق في المزاودة عليهم.
وهم خائفون وقلقون على مستقبل بلدهم ومؤسساتهم ودولتهم وأطفالهم إذا ما تمكن باختصار من يرتكب الإبادة من الإفلات من العقوبة ثم التفرغ لإكمال مشواره نحو «ضم الأغوار» والوطن البديل وتهجير أهل الضفة الغربية.
هم قلقون لأن ثقتهم بالحكومة في أدنى مستوياتها، ولأن رموز «التكيف مع اليمين الإسرائيلي» يقودون التكايا والزوايا.
من يتجمعون في منطقة الرابية ليسوا ملائكة ولا أنبياء ولا أتقياء بل يعكسون تكوينات المجتمع الأردني وتناقضاته، وكيفية انطلاق تقييماته للمواقف الرسمية، وهؤلاء أبرياء من كل تصرفات المؤامرة التي يحاول البعض إلصاقها بهم حتى عندما «يتجاوزون الخط» أو «يحتكون برجل أمن» أو «يهتفون بإساءة» وبعضهم طبعا «ينحرف».
عنصران أساسيان لا ثالث لهما يلاصقان المواطنين الذين يتظاهرون في عمان هما: «بشاعة ووقاحة وصلافة الجريمة المستمرة» وثانيا الخوف على وطنهم ومشروعهم ودولتهم من نتائج وتداعيات «هزيمة المقاومة» ـ لا سمح الله ـ في «تمكين» اليمين الإسرائيلي حيث لا تنفع برأي الغالبية هنا لا «الصداقة مع أمريكا» ولا تصمد «اتفاقية وادي عربة».
من يتجمعون في منطقة الرابية ليسوا ملائكة ولا أنبياء ولا أتقياء بل يعكسون تكوينات المجتمع الأردني وتناقضاته
بالمقابل على المعتصمين والمنظمين لتلك التظاهرات الحصول على «ثقة عامة» بقدراتهم على «التنظيم بدون انحراف» وإظهار حسن النية في «استعمال حق التعبير السلمي» وأيضا القدرة على ممارسة ادعاء التنظيم بدون شطط أو هتافات جارحة لا مبرر لها، ليس فقط لأن الموقف الرسمي متقدم حقا وفعلا ويستحق الثناء، ولكن لأن «التجاوز» أحيانا يستفز بقية الأردنيين ويسمح لطبقة من «حواة وهواة العبث» بتقدم الصفوف في مسرحيات «الدسائس».
تماما كما يحصل في الدول الديمقراطية تنظيم المسيرات والتظاهرات له أصول ويلتزم بقواعد يعرفها المحترفون.
لذلك المطلوب من «عقل الدولة» فقط مخاطبة وإقناع رعاياها وتقليل إحساسهم بالمخاطر، وعرض ضمانات بدلا من الاستمرار في «استنزاف» الأجهزة الأمنية والإصرار على وضعها في وجه الشعب بمغامرة قد تؤذي الجميع، لا بل دوما يمكن الاستغناء عنها.
والمطلوب اقترحناه سابقا، لكن الحكومة زرعت في أذنيها خليطا من «طين وعجين» وهو: حوار وطني حقيقي يقلص مسافات التباين… لقاءات تحت الطاولة وفوقها.. شروحات.. وقف سياسة «الميكروفون بيد رجل واحد فقط» الانفتاح على طبقة رجال الدولة حتى تتحدث بدورها مع الناس.
المطلوب لقاء الأردنيين في منتصف الطريق بأي آلية وطنية دستورية تحت سقف الدولة وتقديم شروحات لهم، بدلا من مواجهتهم أمنيا أو شيطنتهم أو العودة مثل «الحاجة حليمة» للعادات القديمة التي تفترض مؤامرات ودسائس عابرة للمحلي وأطراف في المقاومة «تتآمر» هنا أوهناك.
تحديد الاستراتيجية الوطنية وتقديم إجابة على أسئلة عالقة بداية الطريق وبدون «حوارات وطنية» لا يمكن لا إقناع الجمهور الذي يتألم جراء المشاهد في غزة لأنه باختصار بدأ يتوقعها في محيطه ولا احتواء الاحتقان.
على حد علم الجميع لم يعد يذكر الأردني آخر جولة حوار وطني فاعلة حصلت قبل «العبث» في تركيبة من يحضر ويغيب على هامش انطلاق ورشات التحديث.
لا نلحظ حوارات كما كان يحصل في الماضي لا مع نخب الدولة ولا الأحزاب ولا النقابات ولا حتى مع ممثلي الملتقيات الشعبية التي تقود التظاهرات والفعاليات.
حتى تلك الاجتماعات «الفنية» التي كان يرعاها الحكام الإداريون لا تحصل اليوم مع أنها مفيدة لتسمية المسموح والمحظور في المسيرات والاعتصامات للشرطة والناس.
لا أحد في نخب السلطة اليوم يريد التحدث مع الأردنيين الخائفين القلقين جراء الجريمة ضد أهل غزة، لا بل العكس يحصل فغالبية الموجودين في دوائر القرار سياسيا من الصنف الذي لا يؤمن أصلا بالشعب، أما المنجرفون فالأمن كفيل بهم.
إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»