الربيع الديمقراطي العربي: رهانات التغيير وصراع القوى الإقليمية

ثمة حذر شديد في توصيف ما يجري في العالم العربي باعتباره موجة ربيع عربي ثان، مع أن عددا من الباحثين والمراقبين والساسة، لم يستبعدوا حصول هذه الموجة، بل تحدثوا عن شروطها ونضج مؤشراتها، إلى الدرجة التي اعتبروا فيها حراكي السودان والجزائر مقدمات لها بحكم التشابه الكبير لملامحها مع حالة الربيع العربي في موجته الأولى. البعض أضاف الحراك الجنيني في مصر، ليركب خلاصة بنيت على حالة التشابه بين السياقات الثلاثة الجزائرية والسودانية والمصرية: أي تغول نفوذ المؤسسة العسكرية، وتحول الوعي بسيطرة هذه المؤسسة على مراكز الدولة واستلابها للفضاء العام وتضييقها لفرص المشاركة، وتقييدها للحقوق وللحريات، إلى نقطة نظام غير مسبوقة ضد هذه المؤسسة، ولذلك انصب الاحتجاج في الحالات الثلاث على الفساد البنيوي الذي يرتبط بأصل النظام ومركزية دور المؤسسة العسكرية في إنتاجه وتبريره وخلق شروط استدامته. لكن، المشكلة أنه قبل أن تصل الحالة السودانية إلى درجة اليقين بصلابة مخرجات الاتفاق الذي أبرم بين قوى الثورة والمجلس العسكري ووضعت بمقتضاه خارطة طريق لاقتسام السلطة ووضع السودان في سكة الدمقرطة، بل وقبل أن يأخذ الشد والجذب بين المؤسسة العسكرية وقادة الحراك في الجزائر طريقه للحل، اندلع حراك آخر في كل من العراق ولبنان، ليخلق حالة من التشويش على النماذج الثلاثة، التي تقاربت معطياتها وملامحها مع موجة الربيع الديمقراطي العربي الأول.
صحيح أن المعطى الإقليمي والدولي ليس غائبا عن الحالات الخمس، فحجم الزيارات التي تم القيام بها للسودان من قبل مسؤولين في الجوار الإقليمي، تبرز إلى أي حد يتم الاهتمام بتوجيه مستقبل الخارطة السياسية للسودان لخدمة المحاور الإقليمية التي نشأت على خلفية دعم الدمقرطة أو محاصرة الإسلام السياسي، كما أن الحساسية الشديدة التي تحملها القيادة العسكرية في الجزائر من التدخلات الأجنبية، تعطي صورة واضحة عن نهاية عصر السيادة الداخلية، ودخول الحراكات مربع صراع الإرادات الإقليمية. لكن ما وجب الانتباه إليه في حراك لبنان، أنه جاء بشكل سريع وعلى غير مقدمات منطقية، فقد جاء عقب الإعلان عن التحول في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة لجهة امتلاك أوراق تفاوضية أقوى مع إيران، لاسيما بعد الهجمات الحوثية على منشآت أرامكو السعودية، إذ أظهرت الديناميات التصعيدية بين الطرفين، أن قوة إيران تكمن في تحكهما في مناطق نفوذ كبيرة في المنطقة، سواء في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان، وأن الحصار الاقتصادي لها، والتهديد العسكري، لم يلجئها إلى تخفيض سقفها التفاوضي، وأن الأولى الاشتغال معها بالآليات نفسها ونقل المعركة إلى مناطق نفوذها لخلق حالة من الإنهاك الإيراني بها لإلزامها في المحصلة على الدخول لطاولة المفاوضات بسقف واطئ.

نحن أمام شروط ناضجة للاحتجاج وعودة الحركات الاجتماعية بزخمها الثوري في العالم العربي، لكن السياق الإقليمي والدولي يدفعها في اتجاهات أخرى غير المنحى الديمقراطي

أما في العراق، فالأمر ربما يأخذ أبعادا جد معقدة، بحكم الجغرافية والتكوين الطائفي، فالحراك اندلع من الجنوب الذي كان الأكثر دعما للاستقرار الحكومي ومواجهة للتحدي الإرهابي، وهو ذو طبيعة شيعية، تؤشر على وجود تناقضات في البيت الشيعي، وربما عدم ارتياح لاختيارات إيران في الاصطفاف لبعض مكوناته، ولعل ما يفسر ذلك اختلاف المرجعيات الشيعية في النظر للحراك، ومستقبله، والخيارات المطروحة للتجاوب معه. من المؤكد أن حراك العراق يختلف بشكل كبير عن حراك لبنان، ومن المؤكد أيضا أن دواعيه وبواعثه تستمد من واقع الفساد والوضع الاجتماعي المتأزم، لكن ذلك لا يخفي الأبعاد الإقليمية في الموضوع، ودخول أطراف على تطور التناقضات الداخلية في البيت الشيعي، بقصد تفجير الوضع، لخلق مزيد من الإنهاك الإيراني في العراق. في المحصلة، نحن أمام شروط ناضجة للاحتجاج وعودة الحركات الاجتماعية بزخمها الثوري في العالم العربي، لكن السياق الإقليمي والدولي يدفعها في اتجاهات أخرى غير المنحى الديمقراطي.
في الجزائر، ثمة مقاومة شديدة للأجندات الدولية والإقليمية، وفي الوقت ذاته، ثمة حالة من التحكم في خارطة الطريق السياسية التي لحد الآن، لا يريد الحراك الشعبي التطبيع معها، وليس هناك أي خيار لمواجهة هذا النفق المسدود سوى أن يخبو الحراك، أو أن تتجه المؤسسة العسكرية لخيار العنف، وهو ما تحاول بعض الأطراف الدولية أن تتجنبه بحكم تداعياته الأمنية الخطيرة على شمال المتوسط. أما في السودان، فصلابة مخرجات الاتفاق وصموده يتوقف على طبيعة السياسة الخارجية التي سيتم انتهاجها، ونوع الاصطفافات التي ستدخل فيها، وهل تضع البيض في سلة واحدة، أم تتهج نهجا براغماتيا حياديا يساعدها على تمنيع معادلتها الداخلية. أما في العراق ولبنان، فالخوف كل الخوف من أن يخرج الحراك عن السقوف التكتيكية التي تضعها القوى الدولية والإقليمية له، فليس ثمة اتفاق بين مكونات المحور الدولي والإقليمي حول حدود الحراك وسقوفه في لبنان، فإذا كانت السعودية، تريد بتفجير حراك لبنان، مجرد إحداث توازن في آليات الصراع مع إيران لمقايضتها بتحييد الحوثيين في معركة أمنها القومي، فإن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في لبنان تتعدى سقف إنهاك إيران وإضعاف أوراق تفاوضها، إلى تدمير الصيغة السياسية المؤسسة لاستقرار لبنان، والتي ساهمت السعودية في صناعتها (اتفاق الطائف) مما يعني في نهاية المطاف إدخال لبنان في حرب أهلية جديدة. لا يهمنا في هذا المقال، تحديد اتجاه بوصلة الحراك هنا أو هناك لكن ما يهمنا بدرجة أكبر، أن العامل الإقليمي والدولي لم يعد منشغلا بسؤال دعم الديمقراطية أو إجهاضها كما كان الحال في التعاطي مع موجة الربيع الديمقراطي العربي، بقدر ما صار مرتهنا لأسئلة الصراع الاستراتيجي في المنطقة، إذ أضحى الأمن القوي لبعض البلدان العربية، جزءا من رهانات قوى إقليمية ودولية، وسط حالة من الضعف والترهل في المعادلة العربية.

كاتب وباحث مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية