الربيع العربي يلبد اجواء العلاقات بين الرياض والدوحة

حجم الخط
2

يفترض بداهة ان ما بين الرياض والدوحة من علاقات تاريخية ومعاصرة يكفي لاحتواء اي تشنج سياسي يهدد تلك العلاقة.
ويفترض كذلك ان مجلس التعاون الخليجي الذي يضم النظامين قادر على احتواء الخلافات الثنائية بين مكوناته، مهما كان حجمها. كما يفترض ان مواقف البلدين ازاء التطورات الاقليمية، بعد اكثر من ثلاثين عاما على تأسيس مجلس التعاون اصبحت مؤطرة بشكل يمنع بلوغه حالة الاحتقان الذي يؤدي الى حافة الانفجار. ولكن هذه الافتراضات لم تصمد امام الواقع الذي تمر به علاقات البلدين ‘الشقيقين’ اللذين لم يستطيعا، منذ العام 1992، التعتيم الكامل على ما يعتري علاقاتهما من فتور.
وبعيدا عن التصريحات الاعلامية التي تؤكد ‘العلاقات الاخوية’ بينهما، فما برح اختلافهما واضحا للعيان. ويكفي وجود قناة ‘الجزيرة’ لابقاء حالة التوتر بين الدوحة والرياض مستمرة، وان بدت احيانا منسجمة في مواقفها مع الرغبات السعودية، كما هو الحال مع الثورة في البحرين، حيث تجاهلتها تماما ولم تتعامل معها كما فعلت مع الثورات الاخرى.
ولا يمكن توجيه اللوم لهذا التداعي في العلاقات على طرف دون الآخر، فكل منهما يتحمل شطرا منه. فالسعودية انتهجت منذ قيام كيانها السياسي قبل مائة عام تقريبا، سياسات توسعية غير محدودة، وطموحات كبيرة للهيمنة الاقليمية وسياسات ثابتة لبث منظومة دينية محددة.
ومن جانب آخر سعت الدوحة لمد نفوذها السياسي منذ التسعينات، وتصرفت، ربما بعفوية، في الفضاء السياسي متجاهلة طبيعة الحكم السياسي وطموحه للهيمنة. فعلاقاتها مع المعارضات العربية التي توثقت بعد تأسيس قناة ‘الجزيرة’ سياسة لا تتوافق مع الطموحات والرؤى السعودية التي تسعى دائما للحفاظ على الواقع الراهن وتسعى لقمع اية محاولة لتغييره. واذا ما اراد الباحثون قراءة المشهد العربي منذ حرب الخليج الثانية، فسيجدونه مستعصيا على التوصيف والفهم، مع تعدد القوى المؤثرة فيه وتضارب المصالح بين تلك القوى وشعوب المنطقة. أيا كان الامر، فيمكن قراءة ملف العلاقات السعودية القطرية من خلال تطورات المنطقة في الحقبة المذكورة، التي تختلف كثيرا عن الحقبة التي سبقتها لاسباب عديدة.
من ذلك أولا: ان العقدين اللذين سبقا الحرب تميزا بغياب مصر بشكل كامل عن المشهد السياسي العربي، ابتداء بوفاة عبد الناصر وانتهاء بتوقيع اتفاقات كامب ديفيد.
ثانيا: ان الثورة الاسلامية في ايران فرضت واقعا جديدا صدم العالم العربي باتجاهين: تقليدي محافظ بقيادة السعودية، وتحرري (في الظاهر على الاقل) مثلته ما كان يسمى ‘جبهة الصمود والتصدي’.
ثالثها: انها الحقبة التي صعد فيها تيار ‘الاسلام السياسي’ الذي رأت السعودية فيه تحديا لنفوذها الديني التقليدي في العالمين العربي والاسلامي.
رابعها: انها الفترة التي لم يكن للوجود العسكري والسياسي الغربي حضور فاعل كما هو الوضع اليوم، فقد كان الغربيون اكثر اهتماما باجواء الحرب الباردة التي كانت تتجه نحو نهاياتها ليستعد امعالم لسقوط الاتحاد السوفييتي.
خامسها: ان تلك الحقبة لم تشهد بعد هيمنة القطب الواحد متمثلا بالولايات المتحدة الامريكية على العالم، وبالتالي كان ثمة مجال للمراوغة السياسية للانظمة العربية التي كانت توصف بـ ‘التقدمية’. سادسا: انها مرحلة الوفرة المالية التي نشأت بعد الطفرة النفطية في السبعينات، وبالتالي فقد اصبحت الدول النفطية اكثر قدرة على الحراك السياسي المدعوم بالدولار النفطي.
السعودية في تلك الفترة كانت، هي الاخرى، تؤسس لمد نفوذها الى خارج حدود الجزيرة العربية. كان ظاهر الاهتمام السعودي يوحي بالبعد الديني لنظام الرياض، فانتشرت المدارس الدينية في شبه القارة الهندية، وتواصل تمدد التيار السلفي خارج الجزيرة العربية حتى اصبح الآن قوة مرعبة في دول الشمال الافريقي، وبدا مستعدا لتغيير صورته النمطية من تيار سلبي على غرار تيار ‘كويكرز’ المسيحي الى ولوج عالم السياسة من اوسع الابواب.
فاذا بالسلفية تتمدد في اغلب البلدان العربية، بشكل هادىء، مع تعميق اهتمامها بالجانب السياسي و’الجهادي’ خصوصا بعد الغزو السوفييتي لافغانستان. وما ان تمكن من تثبيت موطىء قدم له في ‘الجهاد الافغاني’ حتى بدأ يتحول تدريجيا الى ظاهرة معاكسة تماما لطبيعته السابقة، وتبنى التطرف والعنف غير المحدود لفرض وجوده على الساحة السياسية. كما خرج عن شرنقته المحلية واخترق الحدود الجغرافية ليصل الى اقصى بلاد الدنيا.
انطلق هذا التيار من عمق الجزيرة العربية برعاية التحالف التاريخي بين مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والبيت السعودي. نظام الرياض رأى في ذلك التيار اداة لتوسيع نفوذه الى كافة بلدان العالم الاسلامي، وهو امر لم يكن متوفرا لديه عندما تأسس مجلس التعاون الخليجي في 1981.
ويمكن القول ان حرب الخليج الثانية التي شنها الحلفاء ضد القوات العراقية في الكويت في 1991 كانت نقطة التحول في الاستراتيجية السعودية. في البداية كان التدخل الغربي يمثل ازمة للحكم السعودي، ولكنه استطاع الحصول على فتوى دينية بحضور 400 من رجال الدين الذين حضروا مؤتمر مكة في خريف 1990، تبيح له استقدام القوات الاجنبية، فكانت الحرب التي كرست الوجود العسكري الاجنبي في منطقة الخليج. دول مجلس التعاون، ومن بينها قطر، ربما رأت في ذلك التدخل إضعافا للنفوذ السعودي الذي بدا عاجزا عن حماية بلد خليجي آخر تعرض لاجتياح خارجي. ولكن سرعان ما حدثت المفاجأة عندما هاجمت القوات السعودية مركز الخفوس القطري واحتلته بالقوة. وهنا دخلت السياسة القطرية مرحلة جديدة مع الحكم السعودي.
العلاقات بين قطر والسعودية لم تتعاف بعد ما جرى من مناوشات حدودية آنذاك. وشعرت قطر بعجزها عن التصدي لسياسات ‘الشقيقة الكبرى’ الاكبر والاقوى والاكثر نفوذا على الصعيد السياسي العربي.
من الناحية النظرية يفترض ان لا تنشأ خلافات حادة بين دول مجلس التعاون وذلك بسبب تماثلها في النظام السياسي وتقارب شعوبها وصغر حجمها الجغرافي والسكاني، فقد تعايش مواطنوها، خصوصا المشيخات الصغيرة المطلة على الخليج. وهم ما بين سني وشيعي وأباضي، ولم يكن للاختلاف المذهبي أثر ملموس على حسن التعايش.
بل ان واقعهم اليوم يؤكد ذلك في البلدان التي لم يستغل حاكموها تلك الاختلافات. ففي سلطنة عمان، مثلا، يتعايش اتباع المذاهب الثلاثة ضمن علاقات مواطنة تتسم بقدر كبير من المساواة والتفاهم، بعيدا عن التشاحن وفق خطوط المذهب. ولكن ما الذي دفع العلاقات بين السعودية وقطر لهذا المستوى من الخلاف؟ لقد مرت المنطقة بالعديد من الازمات والاحتقانات السياسية. اولها الحرب العراقية الايرانية التي تشكل مجلس التعاون الخليجي في بداياتها. وقد تباينت المواقف ازاء تلك الحرب، ففيما كانت السعودية والكويت تغذيان تلك الحرب، كانت سلطنة عمان مختلفة في الموقف وحافظت على علاقاتها مع طهران، مستحضرة دائما وقوف ايران معها قبل ذلك خلال حرب ظفار. وحدثت ازمة حدودية حادة في 1986 بين البحرين وقطر عندما قامت الاخيرة بانزال عسكري في منطقة بحرية كانت موضع نزاع (قبل ان تحسمها محكمة العدل الدولية في 2001). وبذلت الجهود لاحتواء تلك الازمة حول السيادة على ‘فشت الديبل’ بعد ان اعتقلت القوات القطرية موظفي شركة كورية كانت تبني موقعا حدوديا. ولم يكن للسعودية دور ناجح في حل الخلافات بين دول المجلس.
ثمة توافقات عديدة في السياسة الخارجية لكل من قطر والسعودية. ولكن هناك خلافا كبيرا حول الموقف ازاء الاسلاميين، ازداد تمايزا بعد انطلاق الربيع العربي. منذ البداية كان واضحا ان القطريين مدوا جسورا مع الحركات المعارضة خصوصا من تيار الاسلام السياسي. فبالاضافة للعلاقات المتوازنة مع ايران، استقبلت في العام 2000 ثلاثة من قادة حماس الذين كانوا معتقلين لدى الاردن، وتطورت علاقات قطر مع منظمة حماس تدريجيا. وبموازاة العلاقات القطرية الاسرائيلية عمدت الدوحة لمد الجسور مع حركات المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي. فبعد حرب 2006 قامت قطر باعمار مدن لبنانية في الجنوب، ووقفت مع حماس في الحرب التي شنتها ‘اسرائيل’ بعد ثلاثين شهرا وقامت باعادة اعمار ما خربه العدوان في غزة. وفي مقابل المواقف القطرية المتعاطفة مع المقاومة كان الموقف السعودي معاديا لتلك الحركات، فقد وقف ضد حزب الله في حرب 2006 واصدر علماء نجد فتاوى تحرم المظاهرات الداعمة للمقاومة. ولم يكن موقف الحكم السعودي افضل بعد عامين من ذلك حين تعرضت غزة لعدوان اسرائيلي شرس. وقد صدرت عن كبار المسؤولين السعوديين تصريحات علنية تصفهما تارة بـ ‘المغامرة’ واخرى بـ ‘التطرف’. وبدا الموقف الخليجي مستقطبا بشكل غير مسبوق ازاء المقاومة وشرعيتها. مع ذلك بقيت الامور ضمن نطاق محصور ولم تخرج الخلافات بين الرياض والدوحة بشكل صارخ للعلن.
السعودية تعاني من غياب التوافق الداخلي بين امرائها. وكان رئيس جهاز الاستخبارات، بندر بن سلطان، مسؤولا عن الملف السوري، وذهب به بعيدا، فمارس الضغط على روسيا لكي تتخلى عن دعم بشار الاسد، وهدد الولايات المتحدة بالبحث عن حلفاء جدد في الشرق اذا لم تتدخل عسكريا لاسقاط النظام السوري. ونجم عن سياساته تمدد المجموعات المتطرفة في سوريا الامر الذي ضغط على الغربيين للتخلي عن سياسة اسقاط النظام السوري لكي لا تسقط البلاد بايدي مجموعات مسلحة تمارس ابشع وسائل الارهاب بحق معارضيها، وان كانوا من المجموعات المسلحة الاخرى. الملف السوري تم تحويله الآن لوزير الداخلية، محمد بن نايف، الذي سعى لاعادة تنظيم المجموعات المسلحة بقيادة الجبهة الاسلامية المدعومة من السعودية. انه فصل آخر من الخلاف بين اعمدة الحكم السعودي، ومؤشر سلبي امام الغربيين لمدى امكان اصلاحه بعد انتهاء الجيل الاول من ابناء الملك عبد العزيز. فها هم الجيل الثاني قد وصلوا الى السلطة ولكنهم فشلوا في القيام باية اصلاحات سياسية داخلية، بل ربما اصبحوا أكثر تخلفا من آبائهم، وأطول يدا في دعم الارهاب والتطرف. ويمكن القول ان هذه الحقيقة احدثت ردة فعل سلبية كبيرة لدى الغربيين ازاء امكان اصلاح نظام الحكم السعودي او اقامة منظومة خليجية فاعلة تحمي مشيخاته وتمنع تداعي العلاقات في ما بينها. وما توتر العلاقات مع قطر وعمان (والامارات بدرجة أقل) الا معيار لمدى قدرة السعودية على ادارة مجلس التعاون فضلا عن التدخل في شؤون الدول الاخرى في المنطقة. وجاءت تجربة التدخل السعودي العسكري في البحرين ليقنع بقية شعوب المنطقة بخطر التحالف مع السعودية. ولذلك ما ان طرح الملك السعودي مشروع الاتحاد الخليجي حتى رفضته دول مجلس التعاون الاخرى، لمعرفتها بطبيعة السياسة التوسعية لدى نظام الرياض.
الازمة الحقيقية بدأت بعد اندلاع ثورات الربيع العربي. ولاسباب غير واضحة، وقفت قطر، كدولة ووسائل اعلام خصوصا الجزيرة، مع الثورات. فقامت الجزيرة ببثت وقائع ثورة تونس على مدار الساعة حتى سقوط رئيسها. بينما كانت السعودية تدعمه وتسعى لمنع سقوطه، وبعد ازاحته عن الحكم استقبلته الرياض بحفاوة وبقي في السعودية حتى الآن. وتكرر موقف مشابه في مصر. فقد وقفت قطر مع الثورة ونقلت وقائعها على مدار الساعة من ميدان التحرير، وبعد سقوط حسني مبارك، واصلت قطر دعمها للاخوان المسلمين. بينما وقفت السعودية ضد الثورة وسعت لاقناع الرئيس اوباما بمنع سقوط حسني مبارك، انه استقطاب منقطع النظير كان موضع استغراب لدى الكثيرين. ووقفت قطر ضد الانقلاب العسكري الذي اطاح بالرئيس الاخواني محمد مرسي، بينما وقفت السعودية مع ذلك. حالة التمايز بين الموقفين القطري والسعودي لم يعد خافيا، وان كانت اسبابه غير واضحة تماما.

‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Isam Kamel:

    the affection and sympathy for Ikhwan and justice is obvious in the sentenced!

    “ووقفت قطر ضد الانقلاب العسكري الذي اطاح بالرئيس الاخواني محمد مرسي”

  2. يقول سعد الهاجري:

    wishful thinking

إشترك في قائمتنا البريدية