المنحى الذي يعصف بالخيال والكفيل بإنهاء الحرب في لبنان يتوقع قوة متعددة الجنسيات قوية وواسعة، تنزل إلى شواطئ لبنان فينتشر جنودها على طول الحدود بينه وبين إسرائيل، وإلى جانب الجيش اللبناني، وفي إطار اتفاق مع حكومة لبنان بشريط أمني، “طوق نار”، يمنع حزب الله من إطلاق النار نحو بلدات الشمال.
ويمكن لهذا أن يكون المنحى الذي ينهي الحرب في غزة: مقاتلون من مصر والإمارات والمغرب والأردن، ينشرون استحكامات على طول محور فيلادلفيا لمرافقة قوافل محملة بالمساعدات الإنسانية لسكان القطاع وفي طابور احتفال ينقل قائد المنطقة الجنوبية السيطرة على القطاع إلى القادة العرب. لكن بينما يوجد في لبنان أساس استراتيجي لتنفيذ المنحى، تقف في قطاع غزة أيديولوجيا كالسور المنيع الذي يحميه منه.
تتباهى إسرائيل بأنها دمرت معظم قدرات حماس العسكرية. وقضى الجيش بأنه بإمكانه العودة للسيطرة على محور فيلادلفيا والعمل داخل القطاع حتى دون وجود مكثف، بمعنى أنه مستعد الآن للإعلان عن وقف الحرب، بل أوضحت إسرائيل بأنها مستعدة للنظر في مرابطة قوات متعددة الجنسيات، بما فيها قوات عربية.
لكن عندها يتفجر “المزعج” الفلسطيني. الإمارات، التي أعلنت عن استعدادها للمشاركة في القوة متعددة الجنسيات، طرحت شرطاً واضحاً لإرسال جنودها: لن ترسل القوة إلا “تلبية لطلب من سلطة فلسطينية اجتازت إصلاحات، أو من سلطة يقودها رئيس وزراء فلسطيني ذو صلاحيات”. في هذه الظروف، ستكون مصر أيضاً مستعدة لإرسال قوات، بعد أن اشترطت فتح معبر رفح -الجانب المصري، بإدارة السلطة الفلسطينية من جانبه الغزي.
وها هو العبث: إسرائيل مستعدة لمرابطة قوة متعددة الجنسيات في جنوب لبنان وللوصول إلى اتفاقات مع حكومة لبنان، رغم وجود ممثلين عن حزب الله فيها، لكن ليس مع السلطة الفلسطينية التي تواصل التنسيق الأمني مع إسرائيل. في لبنان، هي مستعدة لتعول على قوة متعددة الجنسيات وتكتفي بإبعاد قوات حزب الله إلى ما وراء الليطاني كتعبير عن نجاحها في إزالة التهديد وكشرط ضروري وكاف لتلبية تعريف “العودة بأمان” التي وعد بها سكان الشمال. أما في غزة بالمقابل، فإنها “ستبقى قدر ما يلزم من وقت”، دون أن تقرر طبيعة المعايير التي تلبي تعريف الأمن لسكان الغلاف. إسرائيل لا تطالب حكومة لبنان بطرد حزب الله من صفوفها، ولا تتطلع لتدمير بنية السيطرة المدنية له في الدولة. أما في قطاع غزة، فهي غير مستعدة لتسمع عن إدارة السلطة الفلسطينية للبنى التحتية المدنية، رغم أن مثل هذه الخطوة كفيلة بأن تستكمل سحق حماس كمنظمة سلطوية مدنية وليس عسكرية فحسب.
الفرق بين الساحتين أن سياسة إسرائيل في غزة تمليها أيديولوجيا، بينما السياسة في لبنان تمليها الاحتياجات العسكرية. لبنان ليس “ذخراً صهيونياً”. هو ميدان معركة تقليدية يمكن للنصر العسكري فيه أن ينتهي بحل سياسي. أما غزة بالمقابل، فهي ذاكرة تاريخية مهينة، “متسادا” سقطت مع فك الارتباط، ومذبحة غير مسبوقة وقعت تحت حكم إسرائيلي في 7 أكتوبر.
في غزة، لن يمحو أي نصر عسكري المهانة التاريخية. وكل حديث عن تسوية سياسية يعد استسلاماً. الشرف الضائع لن يعاد إلا بطريقة واحدة: احتلال غزة إلى الأبد، وجعلها إقليماً إسرائيلياً. هذا هو “الرد الصهيوني المناسب”. إذا كانت إسرائيل تقيم بؤرة استيطانية في الضفة مقابل قتل كل مستوطن، فسنحظى بتوسيع حدود الوطن في غزة مقابل كل المخطوفين الذين ماتوا وسيموتون؛ فبموتهم أوصونا بغزة. هذه وصيتهم، وهذه هي الحكومة التي عينت لإدارة ميراثهم.
تسفي برئيل
هآرتس 2/10/2024