الرسالة الثالثة

بولص آدم
حجم الخط
0

لم تَحُل قيمة الانتماء في عالمه الذي عاش فيه دون تنازع. كان ما هو عليه. لم تكن مرحلته العمرية ذات أهمية. رجل مرّ عليه زمن الخوف على المصير. استسلم لما يملكه من القدرة على المواظبة وإن بلا حماس، لم يكن متهورا وليس مجنونا. طموحا بعض الشيء. خائفا من أو خائفا على. يائساً من حدوث تغيير ما، حوله وفوقه وتحته، لأن التغيير في حياته، في المرات التي مرت، كان تغيرا لا تغيير فيه البتة! لم يكن صادقاً إلى درجة الكذب، والعكس أيضاً في زمن الصدق الاصطناعي. كان من لا يتسع له متسع ولا يدنو من روحه بلسم. حالة الرجل الذي ليس لحاله حال. وهكذا، قرر التمرد على قدر حاله، وأن يكون في مركز حياته وليس خارج تلك الحياة.
فكّر بتسلق أقرب شجرة، كعادة الأشياء التي بحث عنها، سيجدها بعد البحث عنها.. نجح نجاحاً أدهشه وفاجأته قدرته على الصعود جائعاً، عطشاً، مريضاً.. كان الإنجاز الأروع من نوعه والأقرب إلى نفسه في تلك الوهلة. ذلك نصف الشوط. النصف الثاني هو النزول سالماً كما تسلق. لم يتوهم انتهاء الأزمة، أزمة تصرفه كطفل يتمنى الوجود في الأعالي، يحلم بالوصول إلى عش فوق الشجرة. يا حسرة، في الأعالي ليس له مكان. شخص غير فاسد من أيام زمان. لم يعد البقاء في الغرفة أو الباحة، أو أي مكان آخر بلا صور لوحوش مركبة من رزم جذوع ملفوفة بشرائط شوارع مضغوطة أحياناً، أو وحوش تأتي من شبكات لتصورات قديمة، مؤلفة من تجعد متوتر لأيادي على القلوب الصغيرة والكبيرة.. لحد ما، اعتقد في بعض تلك الأحيان، بأن تلك الهياكل هي مجرد زيارات ذهنية، ليس من داعٍ إطلاقا للخشية والتوجس. كانت الحواجز الخانقة والحوادث المتلاحقة قد أدت إلى تلبسه شخصا غير مبالٍ لشتى الوقائع اللامتوقعة. بدأ بضحكة مكتومة قصيرة وجافة ليفيق من أعماقه الضاحكة بقدرة الضحك الجامح، على صورة تتبادر متكررة تأتي خارجة من ذهنه وترحل متلاشية، ولا تُتاح له فرصة تذكر تلك الصورة ثانية حتى، ويشك في كونه قد ضحك ذات مرة بارتعاش لطيف، يسأل نفسه إن كان قد ضحك زحفاً على الأذنين؟ كان ذلك ما عذبه مرارا، فالحالة أخذته الى التصديق الوهمي بهيئة فارغة، انطباعية كزمن وتجريدية كحدث، هيئة متناسلة لصورة تطيل زمن تراكض فراغات موحشة، تتلاشى، ويشعر بعدها بأنه ضحك من شيء كان يجب عليه عدم الضحك منه، أحس بذنب كبير وتأنيب ضمير هائل وخجل من نفسه وتمنى أن يطرح نفسه في النار! كيف له ان يضحك من وجه لم يعد يتذكر منه سوى هيئة مدفونة في أعماق روحه كما يُدفن الشجرُ في الغابة..
أدار وجهه نحو الجهة اللامحدودة بإمالة رأسه للخلف، عربة قديمة مليئة بقش الهجرة الأولى، أم الثانية، أم العاشرة؟ تبلعها تدريجياً بركة الوحل، لكن الريح تجبر غبار قش على التحرك، يؤدي رقصة في ضوء الغروب، العربة تختفي والغبار ينطفئ مع ضحكة سميكة وعميقة، خانت رجلا أحب الحياة وكان في عجلة من أمره للعيش.. نزلت دمعة، بكى..
تماسك ثانيةَ والأحرى أنه تماسك للمرة بعد آلاف المرات، هنا فقط، كان ما يسد رمق حاجته الدائمة لشعور بالقوة! أخرج من جيبه ورقة نظر إلى وجهها وطواها وحشرها حيث كانت ثانيةَ، رسالة التهديد تلك، كانت أهم رسالة تلقاها في حياته، فهي المرة الأولى التي عليه أن يموت بالتمام والكمال فيها، وليست كالمرات السابقة الباهتة، مقارنةً بالوصف الدقيق حول موت المرء، تلك اللحظات التي كرر الاعتقاد فيها بأنه نجا وتلك النجاة كانت فرصة ثانية أتت بطريقة جبارة لتصد الموت عنه. هذه المرة، الأمر مختلف، لقد حصل على ورقة تصف موته بالاسم مباشرةً، سوف تخترق مؤخرة رأسه رصاصة إن لم يرحل خلال الأيام المقبلة.. أخرج الرسالة قرأها ثانيةً وضحك ضحكة الخوف الساخن الذي تسمعه حتى الأحجار.. لم يصدق عينيه، بعد أن قرأ في نهاية الرسالة، رأسه سيطير! ضحك وهو يتخيل رأسه محلقاَ بلا أجنحة.. يا لغباء ذلك القاتل المجهول، إنه الشخص صاحب اقتراحين للنتيجة نفسها، فهو بالتأكيد لا يعلم ما سيرتكبه على وجه الدقة، هل سيطلق رصاصة من فوهة ملصقة بمؤخرة رأس الرجل الذي ليس لحاله حال؟ أم سيضرب العنق بساطور القصاب؟ وإلا، ما تفسير الاختلاف في ما ذكره في الجملة الأولى، مقارنةً بالميلان الخشن نحو الأعلى لحروف الجملة الأخيرة خارج السطر؟
أعاد الرسالة إلى حيث كانت، توجه إلى المكان الذي كانت ملصقة عليه، ليجد رسالة ثانية، ما إن قرأها حتى غصَ بتلك الغصة المزدحمة عند خروج القهقهات الحرة عبر ممر ضيق! بالتأكيد كانت طريقة تنفيذ جديدة لإعدامه من قبل جلاد مجهول. أمسك طرف الورقة وحاول بومض ساخر تصليح الأخطاء والحروف الزاحفة، مثلا.. «إرحل أو تموت».. « يا ابن.. يا ابن الحرام»، «يا كافور»! أخرج الورقة الأولى وأمسكها بيد بينما الورقة الجديدة بيده الثانية من أجل عقد مقارنة. أولا، القلم مختلف، ثانياَ، الخط مختلف، ثالثاً، الورقة كورقة لا تشبه أختها. على أي حال، الموت قريب.
سمع وقع أقدام وهزات غريبة، توجه إلى هناك، فتح جزءا واحدا من جزئي الباب الخارجي، رأى شخصا يلصق ورقة ثالثة على حيز الورقتين السابقتين نفسه، ألصقها من يستمد قوته من مجهوليته ببصاقه.. تعجب من وقاحة الرجل الذي لم يعد يؤدي طقوسه إلا علانية، بكامل الاعتداد والهدوء، لكن تجعدا ساخطا يطير إلى منتصف جبهته، نفذ ما كُلف به وغادر مع التعبير عن الازدراء الشديد، الذقن مقلوبة، انفجارات داكنة، تتلاقى على جسر الأنف.
ضحك صاحب البيت والأرض وعربة القش والهجرات، بقوة الضحك الأبرز من بين فواصل الضحك التي مرّت.. شعر براحة تشبه تلك الراحات الذهنية المشوشة المتراوحة بين الوهم او الحلم او التذكر. أمسك بطرف ورقة الرسالة الثالثة وانتزعها بسهولة، وعاد إلى مكانه ضاحكاً بضحكة لن تنقطع، فالرسالة من كلمتين «الدار للبيع».

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية