في جدرايات الرسام الشاب كرار ستار التي رسمها على جدران نفق ساحة التحرير وسط العاصمة العراقية بغداد هناك شعور بالاستياء يمثل بؤرتها المركزية، ومن السهل على المتلقي أن يلتقط هذه الفكرة وهي تتناثر في تفاصيل عالمه التشكيلي، من غير أن يذهب بعيدا في تأويلاته لمعرفة الدوافع التي شقت طريقها إلى ذات الفنان، ولتصبح بالتالي لوحاته مشحونة بصور غاضبة ازاء واقع محكوم بسلطة قوامها حفنة معتوهين، يرتدون قيافة ميليشيات وعلى رؤوسهم يضعون عمائم رجال دين. والملاحظ في سياق أعماله انه يؤرخ بهذه المفردات سيرة فضاء فني تسوده صور من العنف والتطرف باتت تحتشد في جدول الحياة العراقية وقد بدا لنا هذا الواقع في نتاجه الفني كما لو انه مشاهد كابوسية مقتطعة من محاكم التفتيش التي سادت الحياة ودمغتها بالظلمة في أوروبا القرون الوسطى.
إشارات لزمن موحش
نحن أمام معطى فني لرسام شكل مفردات عالمه التشكيلي من واقع ساخن معتم، في كل لحظة يصطدم به، ويشعر بقسوته وهو يكبل تفاصيل يومياته بكل ما له صلة بالعنف والموت.
يضعنا كرار ونحن نتوغل في تجربته عند عتبات زمن قاتم تنسج أخاديده إشارات موحشة، وكأن جوهر ما ينهض عليه هذا الزمن يتركز في نصب أعمدة الموت لكل ما له صلة حميمة بتطلعات الإنسان وهو يرنو إلى أن يحيا في عالم أجمل يخلو من كهنة المعابد ولصوص الدين، فلا غرابة أن تتصدر مثل هذه الشخوص ثيمات عديد لوحاته، خاصة وأن ستار لأجل ان يحافظ على أحلامه في داخله قد انخرط منذ الأيام الأولى في ثورة الأول من تشرين الأول/اكتوبر وما يلفت الانتباه أنه يعبر بشكل واضح عن ما ستؤول إليه مصائر الشخصيات التي يستهدفها والتي تبدو في هيئتها أقرب إلى المسخ وإن كانت تحمل ملامح إنسان من الخارج.
من الواضح أن كرار قد أفاد كثيرا من تجارب معروفة في الفن العالمي كانت لها حضورها المؤثر في منجزات الحداثة التشكيلية مثل تجربة كاندنسكي، وهذا يتمثل في الخطوط الحادة والأشكال الهندسية والمساحات البيضاء الفارغة التي تتخللها، ويمكن العثور على هذه الأفكار في لوحاته التي آثر أن يستعين في تحققاتها التوليفية باللون الأسود وتدرجاته التي سكبها على مساحات شديدة البياض، وفي هذه الصياغة التضادية من حيث اللون هناك استدراج مكثف للموضوع الواقعي إلى منطقة من الاشتغال التعبيري، وهو تأكيد من جانب الفنان على قدراته لايصال انفعالاته الاحتجاجية في سياق فني ينهل من تفكيك النزعة الواقعية والأخذ بها إلى منطقة جمالية تنزع نحو إشارية شكلانية.
تعبيرية تجريدية
ينتمي كرار إلى جيل فني تتعدد مصادر روافده التشكيلية ويقف أمام تراث كبير من الانجازات الجمالية التي أفضت بها فنون الحداثة وما بعدها، المحلية والعالمية على حد سواء، وربما يجد هذا الجيل خاصة في العراق ان تجربته قد وصلت إلى مرحلة لم تعد تستجيب لاستهلاك هذا الإرث الفني بكل ما فيه من تنوع وآثار مهمة، ويبدو في المقابل منشغلا في موضوعات أقرب ما تكون في مضامينها إلى المواجهة مع الحياة بكل ما تحمله من قسوة، بالوقت نفسه تحمل هذه المواجهة قدرا كبيرا من التهكم والسخرية والعبث ازاء ثوابت وأنماط تقليدية تمسك بالواقع الإنساني، كما نلمس فيها توقا عاليا ومتواترا إلى مناهضة منظومة أفكار قائمة على تكرار الماضي.
يمكن لمن يقترب من عالم كرار الفني ان يكتشف النزعة إلى ضفاف التعبيرية التجريدية، وهذا يتضح في طريقة استعماله اللون المعبَّر عن الانفعالات التلقائية، وفي ميله إلى إبراز متواليات مفرداتية في فضاء اللوحة، باعتبارها قيمة بارزة لتأكيد أسلوبيته، كذلك في إصراره على خلق تكوينات أقرب ما تكون إلى أشكال هندسية مبسَّطة إلاَّ انه يكررها معتمدا على الطاقة الانفعالية التي يختزنها اللون الأسود بكل ظلاله وتدرجاته، من غير ان يلجأ إلى ألوان أخرى، وهذا لوحده يشكل تحديا لقدراته وكشفا لمدياتها.
في لوحاته اتخذ أسلوبه في رسم الخطوط الخارجية منحى أقرب إلى العفوية في إيصال أفكاره وأحاسيسه وهذا يشير في دلالته إلى ما حققته الحداثة من تجاوزات على مستوى الأساليب، كما ينسجم مع فكرة استحضار تقنية العبث في رؤية الأشياء والتعامل معها والتي تشكل خامة فكرية أساسية في قضية تجاوز الواقع ومنطقه وصولا إلى الكشف عن واقع آخر معبأ بأحاسيس تتارجح بين القلق والغضب والاغتراب.
العلاقة بين الفن والمتلقي
في تجربة كرار لن نكون أمام لعبة ذهنية عادة ما تسحبنا إليها فنون الحداثة، ولسنا أمام أسلوب ينهل من الواقع موضوعاته مثلما هو الحال في فنون ما بعد الحداثة التي تستجيب لتفاهة ما هو يومي في البيئة كما في أعمال البوب آرت، انما يميل في ما ينجزه مِن لوحات إلى مناخات ساخنة تتواجه فيها المتضادات ليقيم منها مساحة بصرية تعلي من أهمية الأفكار إلى جانب الأسلوب، مع ميل كبير إلى كسر السياق الواقعي في الرؤية، وتتجسد الفكرة وقوتها في جمالية طرحها الشكلاني وليس في محتواها فقط الذي يأخذ حيزا مهما من الحضور.
رغبة الفنان هنا تدفعه إلى الانتقال من الواقع المحدود بكل ما يحمله من إشارات إلى الفن بإطاره اللامحدود، لأن محور اهتمام الفنان يتمركز في سعيه إلى تعرية الواقع ومواجهته بكل الطرق الاستفزازية التي تزيح القداسة عن رموزه وأيقوناته ليتحول الواقع الموضوعي في التجربة الذاتية للفنان إلى عالم فني خالص مع حرص شديد على أن يترسب في ذات المتلقي احساس مفرط بالارتجال والعفوية في حركة الخطوط والأشكال، وهذا دون شك يشير إلى توق الفنان بأن تكون العلاقة بين الأثر الفني والمتلقي قائمة على التفاعل المتبادل، وتتحرك رسالة الخطاب الفني في دائرة من النشاط ما بين المرسل والمرسل إليه رغم ما يبدو على أسلوب كرار من نزعة قوية إلى التمرد والعبث والسخرية ازاء كل ما هو مقدس بما في ذلك الأساليب والمدارس الفنية ولعل تجربته في محصلتها النهائية كما نرى، تندرج في إطار الحركة الفنية المعاصرة التي يطبق عليها اصطلاح (الفلوكسس) للأسباب الآتية، أولا: من حيث شحنة التمرد التي تتعبأ بها أشكاله وخطوطه المستوحاة من الحدث الواقعي من بعد ان يُخضع الحدث للتفكيك وإعادة البناء بشكل مؤسلب يدفع به إلى حافات بعيدة من الاغتراب عن واقعيته، ثانيا: تكريس الحضور الاندماجي ما بين الفن والقضايا السياسية والمجتمعية، وهذا الإطار الفني في تركيب الأشياء داخل اللوحة لم يأت عفويا بقدر ما يشي بطموح الفنان إلى الكشف عن ما يختزنه من كبت واحتجاج يكتسبان مدلولات سياسية واجتماعية عبرت عنها ثورة الأول من تشرين الأول/اكتوبر العراقية.
تحطيم وتشكيل الواقع
هناك شبه توافق على المستوى الفكري بين معظم الفنانين التشكيليين الشباب الذين انخرطوا في ساحة الاعتصام، وما يجمعهم من هاجس فني يدخل في دائرة سعيهم إلى دمج العمل الفني بالحياة، وبقدر ما للفن من مساحة واسعة للتحرك في منطقة الخيال وتجريد الواقع من صورته المالوفة إلا انهم يحاولون في تجاربهم التي بصموها على الجدران وفي لوحاتهم التي حرصوا على نشرها في صفحاتهم الشخصية عبر موقع فيسبوك ان يسحبوا المتلقي من الواقع إلى الفن، وهذه المحاولة تأتي في مسار سعيهم إلى إعادة صياغة العلاقة ما بين المتلقي والفن، لتصبح اللوحة جزءا من الواقع مثل بقية الأشياء مثل الماء والهواء والغذاء والكهرباء والتعليم والمواصلات التي هي جزء من حياة الإنسان المعاصر التي يتعامل معها وبها في حياته اليومية، وهذا يعني أن اللوحة لدى كرار لم تعد عالما منفصلا عن المتلقي بقدر ما تصبح جزءا من العالم الواقعي رغم انها تتعامل مع الواقع ليس بطريقة الاستنساخ والمشابهة والتماثل الميكانيكي، انما يتجه بها إلى إعادة انتاج الواقع لكن من خلال إيقاظ فكرة تحطيمه في عين المتلقي، فلا وجود لفكرة المحاكاة التي طالما كرسها الفن الواقعي، انما هناك تحرر من هذا التأطير المحاكاتي باعتماد تقنيات مختلفة يتيحها الفضاء العام.