على هامش سيمبوزيوم القاهرة ــ عمّان الدولي للفنون التشكيلية، الذي يشرف عليه منذ خمس سنوات، ويديره باقتدار وكفاءة، الصديق الفنان الأردني ــ الفلسطيني محمد الجالوس؛ أتيحت لي فرصة جديدة لمناقشة العلاقة بين التشكيل والأدب، أو الشعر على وجه التحديد. ولا تُقارب هذه المسألة إلا وتستعاد مقولة الفيلسوف والشاعر الغنائي الإغريقي سيمونيديس (468 ــ 556 ق.م.)، الذي اعتبر أنّ «الرسم شعر أخرس، والشعر رسم ناطق»؛ مثلما تستعاد معها سلسلة مقولات ليوناردو دافنشي، التي تتحزّب للرسم على حساب الشعر، على قاعدة أنّ «الرسم شعر يُرى أكثر مما يُحسّ، والشعر رسم يُحسّ أكثر مما يُرى»، من منطلق انحياز آخر لصالح العين التي تبصر، مقابل الأذن التي تصغي.
الفنون الثلاثة التي تمثّل الشعر والرسم والخطّ إنما تتحاور وتتواصل في إطار التمتّع بدرجات كافية من الاستقلال الذاتي، كما تعكس مرونة تعبيرية واسعة بمعزل عن السطوة الجمالية لأيّ منها، شعراً أم رسماً أم خطّاً
تُستعاد كذلك، ليس من دون اعتزاز خاصّ، مطارحات أبي حيّان التوحيدي حول المسألة، كما حين يذكّرنا، في «الإمتاع والمؤانسة»، بأنّ الخط والشعر «كلاهما معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح ومناغاة العقل وتنبيه النفس». أو، في «مثالب الوزيرين»، حين يسأل التوحيدي مخاطِبه: «أتسأل عن النظم وأنت لا تعرف الرقم ولا العقم ولا الصرم ولا الردم؟»؛ أي، في ما يتوازى مع مصطلحات زماننا، كيف تسأل عن الشعر وأنت لا تعرف شيئاً عن الخط والكتلة والفراغ والتكوين؟ ومن المعروف أنّ فنّ الخط العربي اكتسب، على يد خطاطين كبار من أمثال ابن البوّاب وابن مقلة، مقوّمات جمالية معقدة ومستقلة، وطوّر الكثير من المنظومات التشكيلية والتجريدية، واجتذبت رمزيته مختلف تيّارات التصوّف والفلسفة.
ولا مفرّ من استعادة الفيلسوف الألماني غوتهولد إفرايم ليسنغ (1729 ــ 1781)؛ الذي نشر، في عام 1766، كتابه الشهير «لاوكون: مقالة حول حدود الشعر والرسم»، فأقام فيه مجموعة تناظرات وثيقة بين الشعر والرسم. الأشهر بينها أنّ الشعر يمثّل الزمان، والعلامة المصنوعة، والمدى اللامحدود، والتعبير، والروح، والداخليّ، والبليغ، والأُذن، والمذكّر؛ في حين أنّ الرسم يمثّل المكان، والإشارة الطبيعية، والمدى الضيّق، والمحاكاة، والجسد، والخارجيّ، والصامت، والعين، والمؤنث. والحال أنّ هذه التناظرات، في يقيني الشخصي، تكمل بعضها أو هي تتكامل تلقائياً، على صعيد التوازن الجمالي للكائن البشري.
ومن المعروف، في المقابل، أنّ الرسم لعب دوراً تأسيسياً في الانطلاقات الأولى لقصيدة النثر الفرنسية، عند ألويسيوس برتراند خصوصاً في قصيدته الشهيرة «هارليم»، وأرتور رامبو في «استنارات»، وستيفان مالارميه في التركيب الطباعي التشكيلي لعدد كبير من قصائده النثرية، فضلاً عن رسومات بودلير التي كانت تصوّر بعض مناخات قصائده. كذلك فإنّ المدرسة التكعيبية، التي بدأت على يد براك وبيكاسو، تدين بالكثير لقصائد الشاعر الفرنسي غيوم أبوللينير وكتاباته النقدية، وليس بالضرورة مجموعة قصائده البصرية أو المرسومة.
وفي النماذج العربية لا تصحّ مناقشة مسألة العلاقة بين الرسم والشعر دون العودة إلى قصيدة سعدي يوسف «تحت جدارية فائق حسن»، أو قصيدة صلاح عبد الصبور «تقرير تشكيلي عن الليلة الماضية»، أو قصيدة أمل دنقل «رسوم معلقة في بهو عربي». ومن جانب آخر، كيف لا تُضرب مثلاً بليغاً أعمال ضياء العزاوي المشتركة مع محمود درويش، في «أحمد الزعتر» و«يطير الحمام يحطّ الحمام»؛ أو عمل «أمّة في المنفى»، الذي شهد اللقاء الفريد بين شعر درويش وخطّ حسن المسعودي ومحفورات رشيد القريشي، والذي انضمّ إلى كتاب آخر مماثل احتوى على مقاطع من «قصيدة بيروت»، مكتوبة بخط الفنان المصري الراحل كمال إبراهيم، مع محفورات أخرى من القريشي؟
الثابت، في يقيني الشخصي هنا أيضاً، أنّ الفنون الثلاثة التي تمثّل الشعر والرسم والخطّ إنما تتحاور وتتواصل في إطار التمتّع بدرجات كافية، وبعضها عالٍ أيضاً، من الاستقلال الذاتي خلال تجاورها؛ كما تعكس مرونة تعبيرية واسعة، تبدو أحياناً ذاتـــية التوليد والإيحاء، بمعزل عن السطوة الجمالية لأيّ منها، شعراً أم رسماً أم خطّاً. وليس شاقاً على الناظر، ومثله القارئ في الواقع، أن يلحظ مقدار التناغم بين شعر درويش ورسومات العزاوي أو قريشي، وخطوط المسعودي أو إبراهيم؛ إذْ لسنا أمام بوتقة صهر واندماج، بل في مساحة تَقَابُلٍ وتَجَاوْرٍ أليفة متآلفة، حتى في ذروة انحيازها إلى عناصرها التكوينية المستقلة.
وبالطبع، تطوّرت الباصرة الإنسانية المعاصرة، ضمن أواليات تذوّق الفنون بصفة عامة، بحيث لم تعد الفوارق القاطعة التي افترضها دافنشي بين العين والأذن (لصالح الأولى، متنازعة مع الثانية!)، قطعية حقاً على النحو الذي تخيّله الرسام الإيطالي الموسوعي الكبير في مطالع القرن السادس عشر. كذلك تلاشت غالبية التوازيات التي جهد ليسنغ في اجتراحها للفصل بين الرسم والشعر، بل يصحّ القول إنها تقاطعت وتقاربت إلى حدّ تشكيل خلاصات تركيبية تمزج النهائي باللانهائي، والعلامة المصنوعة بالإشارة الطبيعية، والعين بالأذن، بل… المؤنث والمذكّر!
ولهذا فإنّ قصيدة درويش، حتى إذا كانت القاسم المشترك مع الرسم والحفر والخطّ، ليست البتة مرشحة لمقادير من الاستئثار بذائقة الناظر/ القارئ، على نحو يمكن أن يطمس أو يُخـــــرس جـــــوارها الفني؛ ومن هنا عبقرية التوازي بين تمثيلات تشكيلية مســــتقلة في قِيَمها التعبيرية. فلا خَرَس هنا، في المحصلة، بل نطق بليغ وجميل وجمالي.
مقال يستحق القراءة والتعليق…إنه الرسم والشعر.وحضرتك قد جئت بتعريف الرسم والشعربمقولة للفيلسوف الإغريقيّ سيمونيديس : { الرسم شعرأخرس ؛ والشعررسم ناطق }.وأرى أنّ تعريف شاعرالعرب الحديث نزارقباني أكثربلاغة ودقة بشأن ذلك التعريف من صاحبنا الإغريقيّ ؛ حينما جمع بين الرسم والشعربقوله : ( الشعررسم باالكلمات ).ولو أردنا المزيد فأنّ الجامع المشترك بتفاعل إنسيابيّ بين الرسم والشعر: الموسيقى فهي لوحة ( تسمع ) بالعين ( وترى ) بالأذن ؛ والباء هنا للآلة لا الاستعانة.
لذلك فأنّ وجود اللوحة مع قصيدة يمنحها بُعدًا صوفيًا.لا صوفيّة الدراويش بل صوفيّة سموالذوق للواقع المعاش.ووجود الموسيقى مع اللوحة يمنحها بُعدًا لازورديًا ؛ هوبُعد السّماء الصافية من البروق الكاذبة الواشلة ذات العطش.
ملاحظة على السريع،
أتفق مع الأخ جمال على استحضار قولِ نزار «الشعرُ رسمٌ بالكلماتِ» بوصفه أكثرَ بلاغةً ودقةً من قولِ سيمونيديس «الرسمُ شعرٌ أخرسُ، والشعرُ رسمٌ ناطقٌ» الذي لا يعدو أن يكونَ تلاعبًا لفظيًّا تقابليًّا سطحيًّا يحاولُ تقليدَ القولاتِ المنطقيةَ بمنطوقاتها الغنيةِ عن التعريف،… فَـ«مُو كلْ غريب جْوَيِّدْ»، كما يُقالُ باللهجة الفراتية التي يعرفها الأخ صبحي حقَّ المعرفة!
نعم، أخي جمال، الموسيقى، في قولٍ جدِّ معبِّرٍ عنها، هي لوحةٌ «تُسمعُ» بالعينِ و «تُرى» بالأذنِ ـــ وأضيفُ ها هنا أيضًا، وهي فكرةٌ «تُحَسُّ» بالذهنِ كذلك، تمامًا كما هي الحالُ في السيمفونية التاسعة التي تُعدُّ من أجملِ السيمفونيات التي ألَّفها بيتهوفن ـــ وكان قد ألَّفها حينما كان فاقدًا لحاسَّة السَّمْع!
الشعر اوالكتابة والرسم كانتا وسيلتان للتوثيق والشرح واختلفت مهماتهما بتقدم المجتمع وكذلك التقدم التكنولوجي فلا الرسم بقي اسير نقل اللحظة بكل تفاصيلها على القماش او الورق فقد قامت الكاميرا منذ اختراعها بذلك الدور واخذ الرسم يتنقل بمدارس كثيرة للتعبير والامر لا يختلف مع الشعر والكتابة فهدف الشعر ووظيفته اختلفت عن الماضي فلا فائدة من التغزل بجمال امراة او وسامة رجل فالعالم مليء بتلك الصور فانتقل الاثنان الى وسيلة ابهار اخرى تجعل المتلقي يفكر كثيرا بالقصيدة او اللوحة ليفسر كما يريد هو وليس ما يريده الشاعر
حيهلا بالمبدع المتألق حي يقظان : لا تتأخرعن جزيل إضافاتك فهي لنا ( عنوان ).هذا النمط من التواصل الراقي بين الكتّاب ؛ كان ظاهرة سائدة بين الأدباء لكنه ( اختفى ) اليوم.كانوا يضيفون للحياة الثقافيّة الكثير ولا يختلفون وإنْ اختلفت أقوالهم ومقاصدهم…فإنّ في ائتفاك الرياح نزول المطرالرّواح.ذكّرني تعليقك الفنان بحوارجرى في سنة 1930 بين شاعرثورة العشرين في العراق ضد الإنكليزالراحل محمد مهدي البصيروالكاتب الكبيرفهمي المدرس بحضرة الملك فيصل الأوّل ملك العراق يومذاك.تصوّرشخص الملك هوالذي ( يشرف ) على المناظرة ؛ ما يدلّ على سموالذوق وعلو( الفوق ) علوتواضع لا علوتحامق.قال مهدي البصيرالمتوفّى في سنة 1974 وكان صديقًا لوالدي جمعهما الشعروندوات المجمع العلميّ العراقيّ :{ أنا لوكنت غبيًا…فازبالأسهم سهمي }{ إنما أخرّني عن الأقران فهمي }.
فابتسم الملك فيصل لهذه الإشارة الخفيّة.فبادرفهمي المدرس ارتجالًا وقال : { أنا لو كنت غبيًا…خاب بالأسهم سهمي }{ إنما قدّمني اليوم…على الأقران فهمي }.ويقصد به ذاته الشخصيّة.كانوا رائعين حتى في اختلافهم الحضاريّ.وشكرًا للكاتب صبحي حديديّ الذي قد اشعل ( الفتيل ) فأضاء الظلام الهندّس ؛ وهومقيم في بلاد الغال في عاصمة شارلمان ؛ باريس.
قد يكون هناك مشكلة في ترجمة سيمونيدس، ففي دفتر ملاحظاتي الترجمة من الانجليزية (المصدر مجهول) تكون كالتالي: ” الرسم شعر صامت، والشعر رسم متكلم.” هناك فرق بين الصمت والخرس…والقول عن الشعر هنا يتطابق مع ما قاله نزار. وكل ذلك يتناغم مع استنتاج الكاتب عن الالفة والجيرة بين الشعر والرسم،و مع خبرتي المحدودة كشاعرعمل مع فنانين تشكيليين…
وردًّا على إشعالِ الفتيلِ من الأخ صبحي،
وردًّا على الإسهابِ الجميلِ من الأخ جمال،
أحبُّ أن أشيرَ، هنا أيضًا، إلى أن الأخ صبحي قد أشار ساردًا إلى نتائج الظاهرةِ الهامة جدًّا، ظاهرةِ «أنّ فنّ الخط العربي اكتسب، على يد خطاطين كبار من أمثال ابن البوّاب وابن مقلة، مقوّمات جمالية معقدة ومستقلة، وطوّر الكثير من المنظومات التشكيلية والتجريدية، واجتذبت رمزيته مختلف تيّارات التصوّف والفلسفة»، ولكنه (أي الأخ صبحي) لم يُشِرْ بتَّةً إلى أسبابِ هذه الظاهرة، وهي الأهمُّ في هذا السياق، وعلى الأخصِّ الإشارةَ إلى تلك الأسبابِ التحريميةِ الدينيةِ التي تجلَّتْ في المسجدِ الإسلاميِّ في «تحريمِ تصويرِ الأعلام» كلازمةٍ، أو كتابعةٍ، منطقيةٍ لـ«تحليل تحطيم الأصنام». يعني هذا، بكلامٍ آخرَ، أنه حتى التحريمُ الدينيُّ القاطعُ، بالقطع الإسلاميِّ والحالُ هذهِ، لهُ إيجابياتُهُ في كلِّ هذا التعويضِ الفنِّيِّ الإبداعيِّ اللافتِ للنظر البصريِّ والعقليِّ في آنٍ واحدٍ.
[يتبع]
[تتمة]
غيرَ أن التساؤلَ الأكثرَ أهميةً من كل ذلك مجتمعًا بكلِّهِ، والذي كان على الأخ صبحي أن يطرحَهُ كذلك على نحو من الأنحاء من هكذا نحوٍ، على سبيل المثال: تُرى هل سيكتسبُ فنُّ الخطِّ العربيِّ بالفعلِ تلك المقوّماتِ الجماليةَ المعقدةَ والمستقلةَ، إلى آخرهِ، إلى آخرهِ، لو لم يكنْ هناك تحريمٌ في تصويرِ الأعلام في المسجدِ الإسلاميِّ تحريمًا قطعيًّا، كما هي الحالُ في عدم اكتسابِ فنِّ الخطِّ اللاتينيِّ، مثلاً، لتلك المقوّماتِ (أو لجُلِّها، بالأحرى)، من جهة أولى، وفي عدم التحريمِ القطعيِّ في تصويرِ الأعلام (أو حتى في تمثيلِ الأصنامِ ذواتِها) في الكنيسِ المسيحيِّ، في المقابل، من جهةٍ ثانيةٍ؟!
الأخ شريف موسى،
الترجمة الإنكليزية لقول سيمونيديس عن الأصل اليوناني هي:
Painting is silent poetry, and poetry is painting with the gift of speech.
«الرسمُ شعرٌ صامتٌ/أخرسُ، والشعرُ رسمٌ موهُوبٌ بموهبةِ الكلام»!
بغضِّ النظر عن كون كلمة silent بالإنكليزية تعني كلاًّ من «صامت» و«أخرس» وغيرهما بالعربية، فإن الشقَّ الثاني من القول يدلُّ دلالة واضحة على أنَّ «الرسمُ شعرٌ ليسَ موهُوبًا بموهبةِ الكلام»، في المقابل كما في الشقِّ الأول، وهو لا يختلف عن كون الرسمِ، في هذه الحالِ، شعرًا أخرسَ أو أبكمَ!
واضح أكثر أنَّ الترجمة العربية التي ذكرتَها في تعليقك «الرسم شعر صامت، والشعر رسم متكلم/يتكلم» إنما هي مترجمة عن الفرع الإنكليزي أو الفرنسي عن الأصل اليوناني:
Painting is silent poetry, and poetry is painting that speaks.
وهذا القول منسوبٌ إلى بلوتارك وليس إلى سيمونيديس!