عندما نبصر للأحداث الروائية ظهرا محدودبا قلصته الأزمات وتقمصته المحن، نعرف أن الكاتب يحاول أن يحد من حدة الطوفان الجارف الذي ينساب من بين أنامله ليلبس الحبكة حلية الحياة الروتينية العادية، من حب وعشق وزواج وفراق بشكل كلاسيكي، ويؤطرها بقالبٍ عادي، ولكنه يحشر في نبضه وأنفاسه قصة وطنه الجريح وخيبته الموجعة.
في رواية «الرعشة « الصادرة عن دار الاختلاف لأمين الزاوي، وهو عنوانٌ لا يشبه مضمونها، يسيطر الكاتب على مداخل الحواشي للسرد، بلغة شيقة ومتينة، رغم سهولتها، معبرة رغم بساطتها، ويحشر أنف الفضول في ترجمة السبب والمسبب، وهو يلعب على عنصر الجذب بصنارة قلمه لشغف القارئ بالانتقال من ضفة إلى ضفة أخرى على قاربٍ من الإثارة والترقب.
تبدأ القصة عن لسان راويها، وهو ابن أخت البطلة، الخالة زهرة، التي تذكرنا بالخالة صفية في رواية «خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر، ولكن الاختلاف بينهما هو أن صفية كانت ضحية أكثر منها جلادا، أما زهرة فكانت ضحية رمزية، لأن ضحاياها تجمهروا في سياق الحدث بكثافة، واحتشدوا ليكملوا المأساة، التي بدأت يوم عرسها «المفترض»، حيث يخبرنا الراوي كيف أن أختها أي أمه قد أخذت دورها وسرقت منها عريسها، فدخل عليها بدون علمٍ منه بدلا منها، لأن الكبيرة في نظر الأهل هي من تستحق الزواج قبل الصغيرة، فيخف عقل الزوج الذي عشق زهرة بعد أن يتم خداعه، ويقضي باقي العمر تائها في زوبعة القهر والألم، ويطوي سنينه في بحثٍ مضنٍ عن الأمل بدون أن يجده، ويضطر والده أي جد الراوي أن يطلب يد زهرة للزواج حتى يضمن وجودها بجانب ابنه المنكوب.
رغم متانة الحبكة وتشبثها بأرضٍ ثابتة، إلا أن الأحداث تتبدل بمعالمها، فلا نعرف على وجه اليقين إن كان الجد قد تزوج من زهرة فعلا.
رغم متانة الحبكة وتشبثها بأرضٍ ثابتة، إلا أن الأحداث تتبدل بمعالمها، فلا نعرف على وجه اليقين إن كان الجد قد تزوج من زهرة فعلا، وكان من المفترض أن يكون الجد العاشق للحياة الذي يرتشف النبيذ خلسة عن العيون في فناجين القهوة بمساعدة زوجته مارية، والمنقذ لولده المشرف على الموت خيبة، ميتا عندما تهرب زهرة مع زوجها المستقبلي شوراكي من القرية، ولكنه في سياقٍ آخر للحديث بين الأبطال يتضح أنه كان حيا، وعندما يكبر الحفيد الراوي للقصة ويتخرج من المدرسة ويذهب لبيت خالته زهرة في المدينة ليقيم عندها، يذكر بأن أباه ودّعه بطمأنينة وسرور لما عوضه له عن سنين فجيعته بحماقة تزويجه من إنسانة لا يعرفها، وبسمعته التي باتت على كل شفة ولسان، فخسر بسببها انتخابات البلدية، ولكنه في موضعٍ آخر من السرد يذكر بأن والده قد سافر إلى بلادٍ نائية غريبة قبل تخرجه، ما يجعلنا نقف في دوامة التساؤل عن الهدف في دس شرارة الهذيان والعبثية السردية في ثنايا رواية «الرعشة»، رغم أن أحداثها تجري بسلاسة ماهرة، ولا تقع في أي خللٍ درامي أو ديناميكي ما.
المكان والزمان في رواية الزاوي لهما دورٌ ميتافيزيقي فلسفي جامح في التعبير عن قضية الوطن، والتخصص التركيبي للنص، فالقرية التي تجري فيها الأحداث هي قرية ابن خلدون، وهي دلالة جازمة من قبل الكاتب بأهمية وطنه، الذي تعاقب عليه الفلاسفة ووضعوا منهاجا لم يطبقه الشعب بعد رحيلهم، فضيعوا الملامح الآسرة من قضية الفكر، والزمان هو وقت استقلال الجزائر، الذي يلمح لنا الكاتب بأنه يوم فقد الوطن ظله بسبب التراكمات والخيانات الكثيرة التي ارتكبت بحقه، وظهور البيادر القاحلة لما يسمى بالحكم الإسلامي، تماما كالرعشة التي وقعت بين راوي الأحداث وخالته التي يدب الشبق في جسدها نحوه، بعد أن وجدت أن صوته شبيهٌ بصوت أبيه الذي عشقته وخسرته في ما مضى، ليصبح زوج شقيقتها. ما يحرمه الدين والعرف يحلله الجسد بخطيئة تتحدى المعقول والمنطق، كما سرق الوطن ونهب واغتصب بدون رادع أو واعز باسم استقلاليته وازدهاره، الخالة زهرة تمثل الزهرة المذبوحة على هيكل الرغبة والخيانة والغيرة والحيرة.
في رواية «الرعشة»، بدايةٌ واضحة تفضي بالقلوب إلى الجدل حول حتمية الشفقة على البطلة الخالة زهرة، التي عبث بها القدر، وأرداها ضحية المجتمع والوطن، ثم تتحول بنا النهاية إلى سرداب مظلم نحقد فيه عليها، عندما تشب الرغبة في ثنايا روحها التي شبعت من الضعف والهروب لتنطق عيناها بشهوة محرمة لابن أختها شبيهة بالخطيئة التي ارتكبها أبناء الوطن في حقه.
٭ كاتبة لبنانية