بعد أن سقطت ورقة التوت عن سوريا، وأهلها، لم يعد التلطي خلف الشعارات؛ وما توارثناه من مقولات التمجيد مجدياً، صرنا بحاجة ماسة لمعرفة أنفسنا أولاً، وقبل أي شيء آخر، ولا سبيل إلى ذلك إلا بعد الخروج من فكرة المظلومية، تلك الفكرة القابعة في قرارة نفوسنا منذ أمد ليس بقريب، وفي كل مرة تتجدد بذريعة حدث ما.. وقد آن الأوان لنعترف بما لنا، وما علينا، لا لشيء، فقط لننصف أنفسنا (كرقاويين) وندفع عن أنفسنا شبهات الإعلام الموبوء بعدم المعرفة، وننصف مدينتنا أيضاً. فنحن كبشر، والرقة كمدينة، كلانا تجمّل بما لا يستحقه من ألقاب! فالرقة كمدينة ليست درة الفرات، كما يطيب للبعض أن يسميها، إلا إذا كانت (الدرّة) إحدى أسماء الخراب! من المؤسف أن الألقاب المجانية نالتها كل المدن السورية على حد سواء، وكأن تلك الألقاب هي البديل الموضوعي للتنمية، والكرم والشجاعة ليس من صفات أهلها، فسكان الرقة، مثلهم مثل باقي الناس؛ فيهم الكريم؛ وفيهم البخيل؛ فيهم الشجاع؛ وفيهم الجبان؛ ولا يمكن لأي عاقل أن يطلق صفة نفسية واحدة على 944000 نسمة، بل حتى السياقات الاجتماعية التي كانت سائدة فعلاً، لقد تجاوزها الزمن، ولم يبق منها سوى شكلها، أو اسمها؛ كالقبائل والعشائر التي كانت تنتظم بها الناس سابقاً، ولم يكن تخلينا عن تلك السياقات الاجتماعية، نتيجة للتطور الذي مرت به عشائر المنطقة، بل نتيجة التشظي الاجتماعي الذي أودى بتلك السياقات دون أن يقدم بديلاً عنها، ولم نعد نعرف من علامات الترقيم سوى النقطة، نضعها في آخر السطر، ونمضي إلى أقدارنا التي كانت تصنعها الأهواء والمصادفات!
تلك هي قصة الرقة التي تركتنا نقترف خطيئة العيش بعيداً عنها، وصارت حصّالة خوف، مليئة بكل أشكال الأسلحة الفتاكة، ليس أولها البندقية، ولا آخرها النفوس المفخخة بالفتاوى والمتفجرات. فتحولت إلى مبتدأ لا أحد يعرف موقع خبره من الأحداث!
فمدينتنا التي ذهبت إلى الجامعة متأخرة عن أخواتها من المحافظات السورية، ذهبت متأخرة أيضاً إلى طرق الريّ الحديثة في الزراعة، وذهبت إلى التخطيط العمراني متأخرة، وإلى التنمية، وإلى التجارة، وإلى الصناعة، ورغم كل ذلك اتهمت بالفرح! منذ خمسين حزناً وهي متهمة بالفرح! فلم تجد بدّاً من التآمر على المحرمات، فتركت الأبواب مواربة للأغنيات التي لا تطال ممشوق ألحانها الحناجر المأجورة، إلى أن اشتدّ الرهان، فسقطت. وسقط معها وهم الأمان الذي لازمها أكثر من أربعة عقود، وتداعت معه جميع أوهامها؛ فاستسلمت لمصيرها الذي راحت تتقاذفه الأقدار، وتحولنا إلى كائنات أليفة؛ تقتادنا الفتاوى والأيديولوجيات إلى حظائرها، بالترغيب حيناً، والترهيب دائما، وكلاهما له في ذاكرة الرقة وأهلها المراح المناسب، فالترغيب يعرفه المتسلقون الذين تبوأوا المناصب ردحاً طويلاً من الزمن، أما الترهيب فإن الرقة كلها (بقضها وقضيضها) تعرفه!
فهو متأصل في النفوس؛ إلى أن وقعت تحت الفصل السابع من أحكام الشريعة، وتحولت إلى عاصمة الدولة الإسلامية في الشام والعراق، وفرضوا عليها ما لم يرد ذكره في القرآن الكريم؛ أو السنّة النبوية! وصارت صورها تتسرب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنها مشاهد من العصور الغابرة! آنذاك كانت الرقة وحيدة، تعيش برفقة خوفها الذي لم يره أحد، وقبل أن تتفاقم وحدتها، وتنبت الأهداب في عيون المسافة بينها وبين الموصل، شريكتها في الوجع والخراب، قررت الدول نفسها التي أنتجت ذلك التنظيم، أن تقتلنا بذريعة تحريرنا منه، فانهالت علينا بأنواع الأسلحة كافة! فتلعثمت بذكرنا وكالات الأنباء، وسقطت حصانتنا الإنسانية من شريط الأخبار، وتحولنا إلى سبايا.
هذه عناوين، رؤوس أقلام، محاور، مفاصل. في المتن شيء آخر أكثر إغراء، في المتن هناك المطامع، النفوذ، السيطرة. في المتن هناك الانتقام، هناك الأحلام بتقسيم المقسم، وتجزيء المجزأ، على ما يبدو أن صلاحية سايكس بيكو قد انتهت، ولم ينته خوفنا!
تلك هي قصة الرقة التي تركتنا نقترف خطيئة العيش بعيداً عنها، وصارت حصّالة خوف، مليئة بكل أشكال الأسلحة الفتاكة، ليس أولها البندقية، ولا آخرها النفوس المفخخة بالفتاوى والمتفجرات. فتحولت إلى مبتدأ لا أحد يعرف موقع خبره من الأحداث! الرقة التي لم تتحصّن يوماً بالأبواب، تهاوى وهم انفتاحها بين يوم وليلة، وإذ بها مغلقة في وجه أبنائها!! فسحّ طمينا، ووصل إلى كل الدول التي فيها متسع لخيمة، وأصبحنا حاملاً موضوعياً للتسول، تسول الأفراد؛ تسول الجماعات؛ تسول الهيئات؛ تسول المنظمات؛ فكثرت الجعجعة، ولم يصل الطحين!
كاتب سوري