«الرماد هو الأبيض الأنقى» للصيني جيا جانكي: عشيقان وشريكان في عصابة

حجم الخط
0

للسينما الآسيوية أجواؤها الخاصة، المبتعدة تماماً عن المتوقع، في ما يمكن مشاهدته ضمن الأفلام الأوروبية والأمريكية عموماً، من الناحيتين: تطور الحكاية، والسينماتوغرافيا. الصعود والهبوط المباغت والسريع في الأحداث وردود الأفعال مثلاً، الإفراط (ما يبقى ضمن حدود الجمالي في كثير من الأحيان) في المشاعر، في العنف، حتى في البؤس، وفي العديد من نواحي الحياة ومن سمات الشخصيات، وهذا الإفراط، ما يمكن أن يبدو تطرفاً أو تغيراً كلياً في هذه الشخصية أو تلك، هو المحرك الأساسي للحكاية في فيلمنا هذا، الذي شارك في مهرجان كان السينمائي الأخير منافساً على السعفة الذهبية، والمعروض حالياً في الصالات الفرنسية بعنوان فرنسي هو «الخالدون»، مأخوذاً من أحد حوارات الفيلم.
العنوان الإنكليزي مأخوذ من أحد الحوارات كذلك، وهو الترجمة الحرفية للعنوان الصيني، وقد يكون إحالة إلى مصائر الشخصيتين الرئيسيتين، إحالة أخلاقية بالمعنى العام: عشيقان وصديقان وشريكان، تنقلب حياتهما فتنقلب العلاقة بينهما، يعودان إلى بعضهما بشكل مختلف تماماً، كأن أحدنا، كي يصل إلى البياض الأنقى فيه، لا بد أن يحترق أولاً ويصير رماداً.
يبدأ الفيلم الذي كتبه وأخرجه الصيني جيا جانكي بالعشيقين والشريكين كياو وبين، الأخير هو رجل عصابات في الصين، زعيم لعصابة صغيرة، يلعب البوكر مع شركائه، يملك ناديا ليليا. عشيقته وشريكته في عمله هي كياو، امرأة بشخصية قوية، هي الأقوى في الفيلم المزدحم بالرجال، وترافق عشيقها دوماً. في آخر مَشاهد القوة لديها، قبل أن تنقلب حياتهما، كانت مع شريكها في سيارتهما، ومع السائق، حين حاصرتهم دراجات نارية عديدة، أُوقفت السيارة وتم الاعتداء على الرجلين، وكي تنقذ حياة شريكها خرجت من السيارة وأطلقت عيارات نارية في الهواء.


كان هذا الجزء الأول من الفيلم المقسوم زمانياً وحكائياً إلى ثلاثة أقسام، حتى الشخصيات مقسومة إلى ثلاثة أقسام في تطورها، في كل منها نجد المرأة مختلفة عنها في الأخرى. في القسم الأول نجد العشيقين/الشريكين شابين، قويين، عفويين، حيويين، لهما سطوة ومكانة عند الآخرين. القسم الثاني يبدأ في السجن، وهنا يتركز الفيلم على شخصية المرأة، إذ نكاد ننسى فيه من كان شريكها وعشيقها. نرى المرأة في السجن، تعيش حياة إذلال فتُمحى شخصيتها، تُفرغ من كل قوتها وعفويتها اللتين رأيناهما في القسم الأول.

بُني الفيلم تماماً على شخصيتيه الرئيسيتين، على العلاقة بينهما، التقارب والتباعد، وتحديداً على أمزجة كل منهما، على مشاعر كل منهما تجاه الآخر، وإلى ذلك يعود التغير أو الانقلاب الأساسي في أجواء الفيلم.

تخرج من السجن بعد خمس سنين شبه محطمة. تتم سرقتها في السفينة حيث تعود إلى مدينتها لتبحث عن شريكها السابق، وتجد أنه يتجنبها. تحاول خلال يومين تمر فيهما بمصاعب عدة، أن تلتقي به وتجد طريقة أخيراً فيلتقيان، تتحطم المرأة أكثر وأكثر حين تجد أنه يريدها أن تخرج من حياته. تحاول أن تجد عملاً، أو أن تجد طرقاً لنيل النقود بالخداع وبدون عمل.
القسم الثالث يتقدم بسنوات عن سابقه، هنالك إشارات للزمن الراهن في كل قسم منها الهواتف وأنواعها و«أجيالها»، لكن العشيقين هنا، في هذا القسم، يتضح عليهما الكبر، بل إن الرجل صار مقعداً وهي متقدمة في السن، تجد طريقة ليلتقيان ثانية، تأخذه وتعتني به، كأنها تريد الانتقام، وقد قالت له بأنه مدان لها طوال حياته بخمس سنين من عمرها، لأنها سُجنت كل هذه المدة بسبب حيازة مسدس غير مرخص، كان مسدسه هو، لكنها حاولت حمايته، على أن تخرج من السجن وتجتمع به مجدداً لكنه تجنبها.
أخيراً، تبدو كأنها وجدت طريقة للانتقام، أو أنها ظنت كذلك، إنما مع مرور الوقت في هذا القسم نجد أنها ماتزال تحبه وتريد فعلاً أن تعتني به، لكن حياتهما صارت بعد ما مرّا به مليئة بالكآبة والرفض والتوتر والشجار، وهي رغم كل ذلك ما تزال تعتني به بطريقتها، كأن عنوان الفيلم أتى من هنا، من أن النقاء يأتي بعد الاحتراق، وأن الحب يبقى في الإنسان مهما مرّ بصعوبات، كالرماد.
الفيلم الذي أتى بتصوير جمالي وموسيقى لافتين، بُني تماماً على شخصيتيه الرئيسيتين، على العلاقة بينهما، التقارب والتباعد، وتحديداً على أمزجة كل منهما، على مشاعر كل منهما تجاه الآخر، وإلى ذلك يعود التغير أو الانقلاب الأساسي في أجواء الفيلم، بين قسمه الأول من جهة، وقسميه الثاني والثالث من جهة أخرى، في الأول كانا قويين وفي الثاني والثالث، أي بعد خروجهما من السجن، صارا منكسرين وقد انعكس ذلك على علاقتهما ببعضهما، وبالتالي على الفيلم كله باعتباره فيلما عنهما، عن علاقتهما، تطورها وانكسارها وعودتهما إلى بعضهما بالشكل النقيض لما كانا عليه. الفيلم (Ash Is Purest White) مثال جيد على تأثير أمزجة وسلوكيات الشخصيات الرئيسية على أجواء الفيلم وتطور حكايته.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية