تنمو الأسطورة وتكبر، وتتنفس الأوكسجين داخل اللغة، لا خارجها؛ داخل الرمز اللغوي الاعتباطي، أو بمحاذاة قارعة الرمز الاصطلاحي، أو من داخلهما معا. وبالتالي فالأسطورة لم تتخل يوما عن الرمز، بل استغلته لتفسير العالم، وإعطائه معانيَ ودلالاتٍ، ودفع الغموض والإبهام عنه؛ كي يصبح للوجود معنى يرتجيه. وإن كان لهذا التفسير دورٌ، فإن اللعبة الأدبية، حسب جلبير دوران، لا تزيغ عن الخيال، بل تجعل منه بداية كل إبداع.
ومن ثم يكون هذا الأخير محاورا جيدا للواقع، ما دام يقوم ـ أي الإبداع ـ على اللغة كرمز اعتباطي يجمع بين الدال والمدلول. وفي تعميم هذه النتائج المتوصل إليها، نجد أن الرموز معممة، بل تتنفسها كل الثقافات الإنسانيَّة ؛ لتجعل من الكون لحمة واحدة، تتقاسم المشترك والموحد، وإن اختلفت الأجناس والأعراق.
فدلالة النار والماء والطوفان، مثلا، تكون متشابهة عند كل الأنام، ما دام تأثيرُها الحسي والتذوقي والشعوري مشتركا بين كل أطياف المعمورة. وفي هذا الصدد، يكون الرمز مقيما أبديا خارج اللغة؛ تحت ظلال المحسوس والشعور والمشترك الموحد؛ ومنه، فحيثما وجد الرمز؛ انوجد التفاعل والتواصل والانفتاح. علاوة على ذلك شبه إرنست كاسيرر قوة الرمز بقوة العلم، من الناحية التكوينية؛ لأن الرمز يكون أقدرَ على تنظيم هذا الواقع؛ لخلق عالم جديد فالشكل الأولي للمعرفة، كما سطره كاسيرر، في كتاب « فلسفة الأشكال الرمزية «، ينطلق من التمثلات الذهنية، باعتبارها بوصلة توجه الذهن نحو التصوير، والتخييل، وتقريب البعيد، وإبعاد القريب، وتصيد العبارات المناسبة، بهدف اكتشاف واستخلاص المعاني، على أساس أن اللغة تتشكل، أولا، عبر الوجدان، قبل أن تلج ظلال وخلجان العقل والمنطق. إلا أن التركيب الوجداني، عند كاسيرر، قريب جدا من التركيب الروحي، الذي يعتبره العامل الأول في اللغة. وبما أن هذه الأخيرة تقدم خدمة جليلة للفضاء الأدبي، فإنها تعتمد على أدوات ينتظم عندها المكان بشكل دقيق، من خلال تحديدات الذات بالنسبة للواقع، والتمييز المكاني، عبر أسماء الإشارة معية تنبيهاتها؛ «هنالك» و»هناك» و»هنا»، فهذا التنظيم المكاني عبر اللغة التواصلية، له معان كثيرة تدرك من خلال الوظيفة التوافقية الحاصلة بين الذوات والأفضية الإبداعية التي تحتويها. فهذه المقاربة، بالنسبة لكاسيرر، مقاربة نقدية للنظرة الكلاسيكية للغة، فبقدر ما تنتظم هذه الأخيرة، بقدر ما ينتظم معها الفضاء الإبداعي. فاللغة الكلاسيكية، في نظر كاسيرر، لغةٌ غير تواصليَّة، ما دفعه إلى تبني ترمينولوجية جديدة، تتوزع عبر مفاهيم مبتكرة من خلال كتابه «الجوهر والوظيفة».
إن المنطق الكلاسيكي ينظر إلى اللغة من زاوية التجريد؛ بما هو بعيد كل البعد عن المحسوس والشعور والحلم، فضلا عن إقصاء المشترك بين المفاهيم. ومن زاوية كاسيرر، دائما، يجب العناية والاهتمام، عن طريق الدرس والتحليل، بالكيفية التي تساهم في تكوين المفاهيم، بما يتناسب واحتياجات الإنسان لفهم الواقع.
إن المنطق الكلاسيكي ينظر إلى اللغة من زاوية التجريد؛ بما هو بعيد كل البعد عن المحسوس والشعور والحلم، فضلا عن إقصاء المشترك بين المفاهيم. ومن زاوية كاسيرر، دائما، يجب العناية والاهتمام، عن طريق الدرس والتحليل، بالكيفية التي تساهم في تكوين المفاهيم، بما يتناسب واحتياجات الإنسان لفهم الواقع. لأن المصدر النهائي للمفاهيم، حسب كاسيرر، يؤوب إلى الوعي الذاتي، الذي يفرض العودة إلى الطبقة العميقة المؤهلة كي تنتج المعنى والدلالة للمفاهيم. بخلاف المنطق التقليدي، الذي لا يرفع منسوب التمثلات للمعاني، إلا في اتجاه المعرفة المجردة، بالموازاة مع ذلك، فالتكوين اللغوي للمفاهيم يؤوب إلى ربط الذات بعالمها الأرضي من الرموز، بهدف خلق جسور مفاهيمية مبنية على أنشطة خارج التجريد، وبالتالي فهي لا تقبل الغامض والمبهم.
وعلى أساس التميز بين المفاهيم ذات الطبيعة الديناميكية، والأخرى ذات الطبيعة المنطقية، فكاسيرر أكد على مبدأ التشكيل، الذي تتمتع به اللغة الحية والجديدة، فتدفع في اتجاه المزيد من الحرية والشاعرية والحلم والبوح، بخلاف اللغة العلمية المبنية على أساس منطقي صارم، بما هي تدفع إلى مزيد من التجريد، وانقطاع الصلة بالواقع. إن كاسيرر، في هذا السياق، ينتمي إلى موجة عالمية انخرط فيها فلاسفة وأدباء وأنثروبولوجيون، وعلماء ومؤرخون وأيديولوجيون، وأقروا جميعا بالعودة اللامشروطة إلى المخزون الذهني، وإلى الحوض الدلالي، الذي ينماز به الإنسان عن باقي الكائنات، بما هو يؤمن ـ أي الإنسان ـ صريحا بالرمز، وشبكة الصور، التي تعلق بالذهن، وما يدور في فلكها. وبناءً على هذا الحوض الدلالي والمفاهيمي، يتموقف الإنسان، ويفسر، ويوضح، ويتفاعل، وأخيرا يتواصل.
ونجد أن كاسيرر في « فلسفة الأشكال الرمزية «، حاول من منظور نقدي، تأصيل الأسطورة الإغريقية، فاكتشف أنها ذات وظيفة رمزية، تطل على الوعي، وتسمح بالتحرر من الحساسيات القديمة، فضلا عن ذوبانية الحدود بين المفاهيم؛ بين الحياة والموت، والحلم والحقيقة، والعقل والخيال، والنموذج الأصلي ونسخته. وفي ظل هذا يكون الانزياح حاضرا، ما يسمح بالتخييل، وإبداع ما يحفز الذاكرة على السير قدما نحو التحرر من سلطة العقل، والابتعاد عن التجريد، علاوة على إتيان الصور عن طريق البيان.
كانت الأسطورة مجرد قول وحديث وتصريح، وهذا التعريف هو لهومر في الشعر الملحمي، أما في الإلياذة فتأتي، بكل بساطة، بصيغة الفعل، ما اضطر كلا من هيرودوت وثوكيديديس، في القرن الخامس قبل الميلاد، إلى جعل الأسطورة تغطي العديد من الأحاديث المنطوقة، لتنتقل بعد ذلك للتعبير عن الخيال أو القصص الخيالي (الأسطوري). وتتجلى لنا الصلة العضوية بين هذين المكونين، أي القصص والأسطورة، في انبعاث المتخيل من هسيس النسيان؛ ليكون حاضرا في الإبداع، وبالتالي يكون له نصيب من الحرية، حيث إن ممارسة التحررَ من سلطة العقل والتجريد، كان ميْسما مهما لأبطال الأساطير اليونانية القديمة، وهذا ما تتمثله أسطورة دايدالوس عند الإغريق، عندما فرَّ من أثينا خوفا من المحاكمة غير العادلة؛ فصنع أجنحة بهدف الحرية.
ومن هنا كانت الصناعة رمزا للحوار مع الطبيعة، حيث إن دايدالودس، مكتشف المعادن في أثينا، أصبح أيقونة الهاربين من بطش الآلهة الإغريقية، بعدما عُدَّ من بين مكتشفي الصناعات المعدنية. بما هي مخلصة للإنسان من العجز، وتنتصر للمواجهة، فضلا عن تأسيس للمزيد من الاكتشافات، التي مكنت دايدالوس من السيطرة على الطبيعة.
وعلى مستوى التخييل الأسطوري، تجيء الكناية كحلقة وصل بين الأسطورة والإبداع، وهذا ما يتمثل في الرمز الذي يجسده، على مستوى التخييل الإبداعي، دايدالوس. فحسب كاسيرر، فكل من يطمح إلى خلق هذا التواصل بين الطبيعة والإنسان، يصبح رمزا، وبالتالي صورة في الذهن.
كاتب مغربي