أجرى الحوار نضال القاسم: بين الأسماء الاردنية البارزة في كتابة الرواية، يصعد الآن اسم الكاتب سليمان القوابعة، وقد برز اسم القوابعة من بين كتّاب الرواية في الأردن في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي تقريباً، وبدأ يتعزّز حضوره خلال مرحلة الثمانينيات.
وما بين روايته الأولى الصادرة عام 1969م تحت عنوان ‘ جُرح على الرمال’ ، وروايته الأحدث، الصادرة عن مشروع التفرغ الإبداعي، عام 2010م بعنوان ‘ سفربرلك…ودروب القفر’، ظهر له: شجرة الأركان (رواية)، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1978م، حوض الموت (رواية) جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1994م،الرقص على ذرى طوبقال (رواية) دار أزمنة،عمان، 1998م، فضاءات عربية ضانا ساعة الضحى، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 2002م، ‘حلم المسافات البعيدة (رواية)، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2007م’.
وسليمان القوابعة كاتب له أدواته التعبيرية وأسلوبه الخاص به، ويمتلك رؤية واضحة في الدفاع عن مشروعه الروائي. نال العديد من الجوائز الأدبية على المستويين المحلي والعربي؛ فقد حصل في عام 1976م على جائزة ‘النص الأدبي’ من تونس ، وفي عام 1978م حصل على ‘جائزة الرواية العربية’ من المغرب، وحصل كذلك في العام 1979م على ‘جائزة الشعر’ من مهرجان أغادير، كما حصل في عام 2009م على جائزة التفرغ الإبداعي من وزارة الثقافة الأردنية.
حول جملة من القضايا التي يتماهى فيها الخاص بالعام، كان هذا الحوار معه:
‘ سنة 1969 هو تاريخ صدور أول مؤلفاتك ‘جرح على الرمال’ وهي رواية، هذا زمن النشر فمتى بدأ زمن الكتابة؟ متى أصابتك لعنة الحبر؟ وهل كانت الكتابة قراراً أم قدراً؟
‘ تشُدُّني الذاكرة إلى البعيد أيام صباي وما بعدها ولم يكن في بال صباي أن الشعر هو رفيقي وفي متناول يدي وإن كانت فطرتي تشير إلى ذلك، ومع الأيام ومطالع الدراسة في المرحلة الثانوية كان الشعرُ يُشاغلني فأستر رومانسيته بين أوراقي، فهل يستطيع طالب في مجتمع ريفي له همومه ومشاغله أواخر الخمسينات وما بعدها أن يعلن شاعريته…؟؟!. فكل ما كنت أستطيعه هو كتابة وستر ما لدي، وفي يوم من فترة الدراسة الجامعية التقيت تيسير سبول زميل الطفولة والصبا وكان وقتها يُعدّ برنامجاً للجيل الجديد في الإذاعة الأردنية فقدّمت له إحدى قصائدي، وكانت بعنوان ‘يا ليل’ فصفّق لي وبصرخة جنونية وقال:- ‘أنت رائع يا أخي’ … ثم هدأ قليلاً وهو ينظر للبعيد ويتأمل… وبعد صمت غير قليل عاد ليختلف ثم يقول:-
عزيزي…ليتك تُخفف من وطأة الشعر لديك، فشعرك أوجعني قبل أن يوجعك… أخاف عليك فشعرك موجع، وليتك تُشغلُ وجدانك بنصوص أدبية أخرى ولتكن رواية أو نحوها…الخ.
فأجبته: هل يستطيع شاعر أن يُسكت ما يأتيه ؟. قال: أعرف، فحين يأتيك استره بين أوراقك لحين…
وهكذا جاءت رواية ‘جُرح على الرمال’ كمخطوطة إثر اعتداء إسرائيل على بلدة ‘سموع الخليل’ فجر يوم 13/11/1966.
نعم، وهكذا أيضاً بدأ زمن الكتابة الفعلي معي… إنها محنة الحبر، وتلك هي مشيئة القدر.
‘ سليمان القوابعة، حين تعيد قراءة ما كتبت، ماذا تكتشف؟
‘ تستوقفني أسئلة كثيرة، تحطُّ على الدماغ ومعها عوالم أخرى من قريب وبعيد، فهل ما قدمناه أوصلنا إلى قناعة بأنه
يساوي الحبر الذي أسلناه على الورق؟ أم ما زلنا نسير ونتعثر؟ هل أدركنا بوعي مسؤول عِلل مجتمعاتنا وما تتعرض له الأمة وشاركنا باقتدار في توجيه الأجيال الواعدة ورفدها ؟.
وعلى المستوى الفردي أحاول أن أُعيد النظر في كل ما قدمته وأمارس تقييمه وبحس الناقد المحايد…إلخ.
‘ هل قدسية كتابة الرواية هي التي تفرض على كاتبها نوعاً من الهيبة، وهل بوسع أي كاتب أن يصبح روائياً ؟ وما هو دافعك لكتابة الرواية، وماهي القيمة المضافة التي تتوخون تحقيقها من خلال مشروعكم الروائي؟ وبمعنى آخر، ما رؤيتك للرواية ؟ وما مشروعك الروائي؟ هل ثمة تصور لديك عن العالم ؟ أو فلسفة ما تُدافع عنها أو تدعو إليها ؟ وما صلة ذلك بحياتك الشخصية؟
‘ أجل، فكتابة الرواية لها نواميسها وقدسيتها، لها طقوسها من الدربة والإطلاع والمعاناة، فهذه موجبات الكتابة مع هذا الجنس الأدبي.
إن ما نشاهده هذه الأيام هو توجه مثير واندفاع عجيب من جيل الشباب خاصة وفي مجال كتابة الرواية، فمن عنده مشكلة أو حكاية يميل إلى سردها وكثير من دور الطباعة ترحب بذلك.
إن هذا التوجه ممن لا يمتلكون الوعي والاقتدار شيء لا يليق بولوج الفن الروائي، فمشاغلة الكتابة الروائية تتطلب من صاحبها معايشة أطياف المجتمع وإدراك العِلل والمواجع وزيادة على ذلك لابد من إطلالة على تجارب من كتبوا في هذا المجال في الساحتين العربية والعالمية، فليست الرغبة وحدها في كتابة الرواية تكفي.
أما مشاريع الروائي بما يخصني وغيري فهي متجددة على الدوام ومع ما يواجه الروائي من قضايا طارئة على المستويين المحلي والأبعد وهي لا تتوقف ولها وقتها.
وقد أضيف لما سبق، فرُغم أنني كتبت عن مجتمعات أخرى عايشتها في شمال إفريقيا ومسّت بعض جوانبها مشاعري وهي جزء من وطني العربي الممتد-، رغم ذلك فإنني أعود إلى المجتمع الذي أعيش في ثناياه ألا وهو مجتمع المناطق النائية أو المواقع التي أصابها التهميش ويسكنها الطفارى، ولابد من تعزيز تواجد ساكنها ورفد إنجازه وما عنده من إبداع.
أقول ذلك لأن الدول ذات التمدُّن والحس المتحضِّر تمارس صدق الرؤيا من خلال عدالة توزيع جهودها على أطياف مجتمعاتها المختلفة بانتظام، لذا فمن المعيب أن يكون إنسان المناطق النائية يعاني وهو يعيش الجفاء في ظل المدن الكبرى أو العاصمة التي تعجُّ بفعاليات شتّى وكأنها هي الوطن وكفى.
لذا قد نمارس الكتابة في مواقع عشنا في حواريها، وأدركنا بالوعي وبتجربة المعاناة ما جرى ويجري من عذابات البُعد التي اجهزت على احلام بعض من كانت في وجدانهم خُمرة الإبداع والتميز.
‘ سليمان القوابعة، برأيك، ماذا يقدم النقد للأدب؟ وكيف ترى النقد الأردني اليوم؟ وهل استطاع النقد الأردني أداء مهمته في توطيد العلاقة بين المبدع والجمهور، وبصراحة، هل تحسب للنقد الأدبي حسابه ؟ وما هو تقويمك للنقود التي كُتبتْ عن تجربتك الإبداعية التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً ؟
‘ لا شك أن النقد في عالم الأدب هو ضرورة مُلحة، إنه كما النصح والتوجيه والإرشاد نحو الأفضل في جميع مناحي الحياة.
ونعود للسؤال: هل استطاع النقد الأردني أداء مهمته في توطيد العلاقة بين المبدع والجمهور…؟.
فأقول: في ساحتنا المحلية لقد اختلفت النظرة بين ماهية النقد المأمول وما يُحيط به من فنون الاستعراض والمجاملة، فالنقد الأدبي له أسسه وحيثياته. ولكن قد لا نتجاوز المألوف إذا قُلنا إننا نعاني من إشكالية واضحة في دور النقد الفاعل ونحن نعرف أن الناقد الذي نتوخاه نجده يمارس ما عنده على استحياء وبحذر وغيره يحجم عن الخوض فيما يطلع عليه وتخونه الصراحة والجرأة، فالساحة وبصراحة أكثر تعج بأساليب النفاق والشللية وما لهما من ترويج نصوص بائسة يتم تسويقها وهذا ما يواجهنا في بعض الأمسيات الأدبية ونحوها.
أما ما نتمناه إنما هو اتساع دائرة من عليهم واجب النقد المتوخى وتصويب المسار، ومن هؤلاء من نعرفهم ومنهم أكاديميون عندهم القدرة والتأثير وإن كان بعضهم تشغله أبحاثه وهمومه وأمور أُخرى.
وهكذا نقول فنحن نُقدر ونجلُّ من يحمل همّ المتابعة النقدية بمسؤولية واقتدار وما يقدمه فنأخذ منه ونستفيد وبما يُثري الساحة في الإبداع والتميز، وما زلتُ أذكر من تناول رواية أو نصاً لي ووضع النقاط على الحروف ورفدنا بذلك ومن هؤلاء نقاد عرب وغيرهم وبعضهم لم يسبق لنا أن عرفناهم من قبل، وما زلت أتقي شر المجاملات غير المحسوبة، وربما هذا يعود إلى عجزي وقلة حيلتي في ما يمارسه آخرون، ولذا تعرضت إلى عتب غيري ومثالهم من خاطبني ذات يوم في صحيفة الدستور بتاريخ 29/ آب/ 2008م قائلاً:- ‘ وأكثر ما يُلفت أن- القوابعة كاتبٌ مُقلٌ في الظهور الإعلامي، ولا يسعى إليه، فقط يكتفي بالكتابة والمعايشة والإنغماس في حكاية لا تنتهي’.
‘ من وجهة كروائي، الى أي حد عبَّر الأدب الأردني الحديث عن التحولات التي تعيشها الأردن منذُ الاستقلال ؟ وكيف تقرأ واقع الرواية الأردنية ومستقبلها ؟ هل أنت من المتفائلين بمستقبل الرواية في الأردن، وفي الوطن العربي؟
‘ إذا عُدنا إلى الأدب الأردني الحديث ودوره في التعبير عن التحولات المختلفة التي يعيشها الأردن منذ فترة الاستقلال فيمكننا القول: لقد قدّم الرواد ما بذلوه وبتواضع ملحوظ ذلك أن الهم الذي شغل رجال الأدب هنا هو ما جرى في واجهة الأردن الغربية، وأصبح جُلّ ما قدّموه من شعر أو قصة أو رواية…إلخ إنما هو يتناول مأساة فلسطين.
ومن جهة أخرى فإن مطالعاتنا لعالم الرواية الأردنية ومستقبلها وكما ذكرنا آنفاً فإن الطرح كثُر وهو بين الغث والسمين، ولا ندري كيف سيكون الحال القادم لهذا المشهد خاصة وأن النقد لم يستطع التغطية المأمولة لما تدفعه المطابع ووكالات النشر وهو كثير، وهذه إشكالية تمس أيضاً مستقبل الرواية في الأردن وإن كانت هذه مشكلة أيضاً في بعض أطراف وطننا العربي الممتد، ولم ينجُ منها إلا بعض أقطار عربية إذ تشهد إنجازاً ملموساً، ومثال ذلك ما نجده في دول شمال إفريقيا أو مواقع أُخرى.
‘ ما هي وظيفة الأدب في رأيكم ؟ وما هي تخوم المحلية والعالمية في النص الروائي؟ وكيف تصف علاقتك بالجماهير ؟ وإذا لم يصل الأدب إلى الجمهور، إذن أين يكمن العيب ؟ وما هو أثر أدبك خارج الحدود؟ وهل تعتقد أنك قمت بواجبك في هذا المجال؟ وما انطباعاتك عن قيام الجامعة الأردني- بمناسبة الاحتفال بعيدها الخمسين- بإعادة طباعة روايتك الأولى (جرح على الرمال) الصادرة عام 1969م؟
‘ فأينما اتجهنا من القريب وإلى العالم البعيد فإن للأدب وظائفه الرافدة التي تُعزز مسيرة البشر فهو مؤثر فاعل في دروب التحضر والتقدُّم وإن تماهت الظروف أو اختلفت بين حياة الشعوب ومستويات تطورها والتزام التعاون بمصداقية وبتقاسم الأدوار بين رجال الفكر والأدب والجهات الرسمية واتباع أساليب طيِّعة وفاعلة تأخذ بأيدي الأجيال نحو الارتقاء. ولو سُئلت في هذا حول الروافد وصحبتي مع الجمهور فإنني تأثرت بقدر بعامل المكان الضارب في البُعد جنوباً، ورغم ذلك فإنني أتسلح ببعض جهدي وبوعي كاتب متواضع خرج من رحم جمهور بسيط صاعد من واقع أهل الريف البسطاء أُقدر لهم شدة التعب والمعاناة وألتقي شبيبتهم الحالمة بحياة أفضل وأتفاعل مع من لديه هواجس الإبداع وهم يقدرون لي ذلك.
أما إذا أخذني مشوار طارىء فإن لي صحبة خيّرة كوني عضواً في رابطة الكتاب الأردنيين فاشاركهم البحث. وإذا اتسعت الرؤيا فإن نظري يأخذني لمواقع أُخرى حيث أعتمد مقولة حملتها في ذاكرتي وتسافر معي وهي… ‘ إن المدى العربي وطني’، وهكذا تربطني علاقات جيدة مع أعزاء في دولة المغرب ودول أخرى زرتها في الشمال الإفريقي وتناولتها في بعض رواياتي.
أما عن الجامعة الأردنية التي تلقيت العلم من علمائها وفي ساحاتها الرحبة وقبل ثمانية وأربعين عاماً فلها التحية والمودة حيث شاركتُ في بعض فعاليات احتفالاتها في يوبيلها الذهبي وعيدها الخمسين. وقد كرَّمني مسؤولوها بإعادة طباعة روايتي جُرح على الرمال كأول رواية صدرت من الجامعة الأردنية عام 1969م.
‘ هل يمكن للرواية أن تعيش بعيداً عن السياسة والأيديولوجيا ؟ ما هي حدود الأيديولوجيا والإبداع.. وأين تكمن الخيوط الفارقة بين جمالية النص الابداعي وأخلاقياته، بمعنى آخر ما هو الالتزام عند سليمان القوابعة؟
‘ المعروف في عالم الرواية أن للفن الروائي مستوياته المختلفة، فعالم الرواية عالم مُتسع وهو يُشاغل قضايا متنوعة ومعروفة في مجالات حياة الناس وما يمسّ عالم الفكر والسياسة، وما يهم قضايا المجتمعات، فهنالك من الروائيين من التزم في عمله بفكره السياسي وما يعتنقه من أيديولوجيا تخصه ومن معه ومثل هذا الأداء قد لا يُحالفه الابداع كثيراً ودائماً، والجواب على ذلك معروف فالمباشرة والتقريرية للمضمون الفكري عند صاحب الأداء قد تخونه، ورغم ذلك فإننا نقول بأن الالتقاء بين السياسة والنهج الروائي امر إشكالي ويحتاج إلى منهجية ودُربة لكي ينجح أو يُثمر.
أما عن جماليات النص الابداعي وأخلاقياته فذلك مركون بجوهر ومصداقية الروائي نفسه ومن ثم قدرته على إقناع المتلقي وبعفوية لا تقبل التأويل.
‘ بعيداً عن الأدب ؟ تشغلنا في الفترة الأخيرة الثورات العربية .. تلك الثورات التي غيرّت من خريطة الأنظمة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج و أخرجت الشعوب العربية من صمتها .. وسؤالي: كيف تراقب الوضع العربي الراهن؟ وما هو دور المثقف العربيّ في التغيرات الجذريّة الحاليّة ؟ هل استطاع المبدع العربي أن يكون مؤثراً في تلك الثورات قبلها وبعدها ؟
‘ وعن ما يُطرح حول الثورات العربية ودور المبدع… أو ما يسمى بـ’ الربيع العربي’ … فنحن نعيش هذه الأجواء وفي زمن متغير يحمل في ثناياه المفاجآت التي تهم طبقات المجتمع جميعها، ويأتي السؤال، هل ما حدث وجرى كان بفعل ودور المبدع ليُحسب له حسابه؟. وهل هنالك من مصدر بعينه هو مَن حَرّك الجماهير وقدّم لها تصوره؟. أم هو اندفاع عفوي دفعته معاناة بعض شرائح المجتمع وزاد ضجيجها واتسع جمهورها…؟
لذا فإن المثقف أو المبدع لم يكن هو القوة التي هزّت مشاعر هذا الربيع العربي إنما ما جرى هو إحساس جمعي تحرك… وهكذا ربما يُسعفنا القول: إن المبدع لم يتسيَّد الموقف فيسمع له من حوله… نعم، إن هذا المبدع لم يوكل له دور ليؤثر وبصراحة لم يُحسب له الدور فيما جرى…
‘ ما رأيكم بعلاقة المثقف بالسلطة ؟
‘ إن الأصل في العلاقة بين المثقف والسلطة لابد أن تكون ذات منهج واضح، فالمثقف جدير بامتلاك القدرة والوعي في التطوير والبناء، إنه ركيزة مهمة في بناء الدولة واستمرارية تطوير سبل تقدم المجتمع، وهذا ما هو مأمول ومتوقع من خلال استعانة السلطة بمثقفيها إذ يوظفون رؤياهم في تصويب المسارات الهادفة…
ولكن كل ما أشرنا إليه يعتمد على قناعات السلطة من خلال الاستعانة بالشرائح المثقفة وخلاف ذلك فإن الأمور ومخرجاتها لا تكون محمودة خاصة إذا كانت هناك علاقة حَذرة أو مُلتبسة بين الطرفين وهذا ما قد يُلاحظ أحياناً وهو خسارة بيقين.
‘ ما هو مفهومك الخاص للحداثة بعيداً عن تنظيرات الأخرين؟
‘ أجل، لقد انطلقنا من واقعنا العربي الموروث، أي من بيئات ريفية واكبتها حيثيات الأداء التقليدي في عالم الأدب ولم نستطع أن نتخطى واقعنا الذي نعيشه ويعترض طريقنا بتطوره البطيء وإن سبقتنا مجتمعات قطعت مراحل عديدة في معايشتها سُبل تقدمها وبمراحل وفي مجالات الاقتصاد والمعرفة ومعها تطورها في مجالات شتى فتوصلت إلى مراحل من التقدم والحداثة التي تراها.
ونحن نعرف أن الحياة في سيرها تتطلب الارتقاء وتلك سُنة الحياة ولكن باعتدال وبشيء من الفعل نحو الأفضل وبحركة تلقائية تنمو مع المجتمع وبتدرجٍ عفوي يكفل لنا مسؤولية النهج الفاعل ومعنا أطياف من المتلقين أصحاب الفهم والوعي بما يجري. إلا أن ما طرأ على الساحة الواسعة بيننا أن هنالك بعض ادبائنا تعجلوا المشوار فأرادوا لنا حداثة لم نُنجز متطلباتها وكان هذا هوى نخبة ضيقة يتعثر صداها وهي تنهج بتنظير غير سليم.
‘ بمناسبة اقتراب ذكرى مرور أربعين عاماً على غياب تيسير سبول والتي تصادف يوم 15/11/2013، أرجو منك أن تتحدّث للقراء عن صديقك ورفيق دربك، عن صاحب الحلم العروبي والأحزان الصحراوية؟
‘ أعودُ لأستبق أول سؤال… فهذا الرجل الغائب ما زال حاضراً بين عيني وفي البال…التقيته كثيراً أيام الطفولة وإن سبقني بسنوات قليلة. كان بين أبوينا علاقة وصداقة، أتجه مع والدي إلى صديقه، فوالدة تيسير سارة بنت أبو محيسن الخليلية رحمها الله كانت تخصني بشيء من الحلوى.
أُجالس صاحبي في حوش الدار التي تطلُّ من منحدر على دغل زيتون، تُظلنا أغصان شجرتي توت وكرمة، ثم يميل بنا تيسير لنقترب وبجوار الحاكي صندوق العجب وصوت أم كلثوم يصعد من البوق النحاسي فنسمع مطلع القصيد…
أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعا ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا
فألتفت إلى صاحبي وهو يرقُّ بتلطفه ويغني، فتيسير كان رومانسياً في مطلع صباه، وهكذا كانت أشعاره…كما انه كان جميلاً في صباه ومتأنقاً في لباسه فوالده كان ميسور الحال بمفهوم أهل ذلك الزمان…وهنا أختصر الكلام.
وفي يوم من أيام الستينيات ودراستي الجامعية عُدت لألتقيه وكان يُعدُّ برنامجه المعروف في الإذاعة الأردنية وللجيل الجديد، وفي جلسة طارئة ذكرتها من قبل أشار عليَّ أن أتجه نحو كتابة الرواية…
وفي آخر لقاءاتي به في الإذاعة وجدت مزاجه قد اختلف بعد حرب تشرين المعروفة وإن توارى حلمه العريض، فالأمة العربية التي توقع انتصارها تولتها الهزيمة وبخلاف ما اراد لها في ‘ أنت منذ اليوم’ التي أشار فيها لبعض خيبات ظن أنها ستنتهي وبعدها ستنتصر الأمة من جديد ‘ منذ اليوم’ ولكنه أدرك أن ظنه لم يكن في محله حيث أن خيمة ( 101) بعد تلك الحرب قد أجهزت على روح الحلم عنده.
هذا هو تيسير بشفافيته العجيبة، فهو يكره النفاق والمراوغة ويختلف عن غيره. إنه ‘نسيج وحده’. وصاحب طاقات عجيبة في شتى المعارف والعلوم. موسوعي باقتدار يرفده ذكاء فطري… ولديه أحلامه الكثيرة وما زلنا نتذكر مقولته قبل النهاية… ‘لابد للادباء والمثقفين الأردنيين من رابطة لتجمعهم’.
‘ دعني أسألك سؤالا أخيراً: الآن بعد كل هذا الذي تحقق أين أنت، وماذا عن تصورك للمستقبل، هل أنت الآن في حالة صمت أم في حالة كتابة؟ وبماذا تختتم هذا الحوار ؟
‘ ما زلتُ أمشي بلا راحلة أو ناقلة… أجل فأنا رجل مشّاء… لن يهدأ لي بال… ولن أصمت. والمستقبل وإن لاح ضبابياً والخيبات تتكرر لكن لابد أن يأتي ضوء… نمر في فترات غير مُريحة لكن ومع جيل يأتي ستأخذ الأمة مسارها الصحيح… جيل ولو بعد حين… فهذه أمة لم يُنتزع منها جوهر الكرامة والتضحية، ففيها الخير… نقول ذلك وبعيداً عن خيالات أو وهم خريف العمر.