الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد: الأنظمة التي تكرس التابوهات تريد شعبا جاهلا

حاوره: علي لفته سعيد
حجم الخط
2

إبراهيم عبد المجيد صاحب تجربة متميزة في مسيرة الأدب المصري والعربي. أصدر تسع عشرة رواية، ترجم أغلبها إلى لغات عدة. كما تحول بعضها إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية. عبد المجيد المولود عام 1946، والمتخرج في كلية الآداب قسم الفلسفة في جامعة الإسكندرية، لم يكتف بالرواية فكتب المجموعة القصصية، وأدب الرحلات، والمقالات في عدة صحف داخل مصر وخارجها، كما حاز جوائز مهمة، منها جائزة نجيب محفوظ، جائزة الدولة للتفوق في الآداب، جائزة ساويرس في الرواية لكبار الكتاب، جائزة كتارا، وجائزة الشيخ زايد.

■ ما الذي جاء بك إلى الأدب؟
□ ثلاثة عوامل، الأول هو مدارس زمان فقد التحقت بالمدرسة عام 1952 بعد انقلاب يوليو/تموز بشهرين، وكان أثر العصر الملكي لايزال في المدارس، فكانت في المدرسة جماعات للموسيقى والرحلات والفن التشكيلي وغيرها، وهناك ساعة ونصف الساعة كل أسبوع قراءة حرة نقضيهما في مكتبة المدرسة، نقرأ ثم نحكي ما قرأناه لبعضنا، فأحببت قراءة القصص. الشيء الثاني هو الفراغ من حولي، فكان تعداد مصر ثلاثة وعشرين مليونا، وتعداد الإسكندرية لا يصل إلى نصف مليون، فالشوارع خالية والحدائق خالية وكثيرا ما يمر علينا غرباء نوقفهم ويجلسون معنا يحكون لنا لماذا هم هنا في الإسكندرية وكيف جاءوا من الريف، وكانت حكاياتهم سحرية، خاصة حين كنا نلعب الكرة على شاطئ ترعة المحمودية في حي كرموز زمان، ونرى السفن الواقفة ونجلس مع البحارة، يحكون لنا قصصا أسطورية عن رحلاتهم من الجنوب إلى الشمال. الشيء الثالث هو البيت فلقد كان والدي مغرما بحكي قصص القرآن الكريم لنا كل مساء، فضلا عن تجربته في الحياة، خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، وغيرها من التجارب، وكان هناك عازف للربابة يمر في الشوارع، فكان أبي يحضره إلى البيت يقص علينا حكايات أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة، ويجتمع الأولاد من الجيران والكبار أيضا حوله، وكانت قصصا خيالية مثيرة طبعا. في عمر الرابعة عشرة قرأت قصة أطفال جميلة في المكتبة اسمها «الصياد التائه» للكاتب المرحوم محمد سعيد العريان، عن صياد تاه في الصحراء فبكيت من أجله فجاء المدرس يسألني لماذا أبكي قلت له الصياد تاه ولا يجدونه، قال لي ليست حقيقة إنها قصص خيال. أحببت الخيال وعدت إلى البيت أكتب قصصا.
■ وكيف ترى الكتابة بعد رحلتك الطويلة معها؟
□ منذ بدأت أكتب أرى المتعة كلها في الكتابة، وأن العالم الحقيقي هو ما أكتبه أو ما أقرأه، وأن ما حولي هو الوهم، لذلك نجوت من مشاكل الكتّاب الشخصية والدسائس بينهم، ولم أتوقف عند صغائر الأمور، وأدركت أن وطني هو ما أكتبه، وأن خارجه هو المنفي الذي تظهر فيه طبائع البشر. هذه المسألة تمشي معي حتى الآن. كتبت مرة أنني كنت أعود إلى البيت في المساء بعد جلوسي مع الكتاب في مقهي ريش أو الجريون، فاستحم، ومع الماء ينزل كل ما سمعته، وأخرج أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، وأقرأ أو أكتب حتى الصباح وأنام وسط عالم جميل من الخيال. الكتابة للموهوب هي الوطن والحياة هي المنفى.

العالم الحقيقي هو ما أكتبه أو ما أقرأه، وأن ما حولي هو الوهم، لذلك نجوت من مشاكل الكتّاب الشخصية والدسائس بينهم، ولم أتوقف عند صغائر الأمور، وأدركت أن وطني هو ما أكتبه، وأن خارجه هو المنفي الذي تظهر فيه طبائع البشر.

■ مع كثرة الإنتاج الروائي هل ترى انحداراً في الرواية بشكل عام عما كانت عليه في السابق؟
□ ليس هناك أي انحدار في الرواية، بل على العكس ازدادت الرواية أهمية وقيمة. فكتّاب أمريكا الجنوبية لاذوا بالأساطير والعجائبية، بعد أن ضاقت عليهم الأرض بالنظم الديكتاتورية، مارسوا حريتهم في تغيير شكل الكتابة. التقطها بعض النقاد وصارت مقولة معروفة. الرواية الآن تجد أرضا خصبة يتمازج فيها الواقع مع الخيال، لأن ما يحدث على الأرض فاق كل خيال. لكن يظل المهم دائما هو التجديد في شكل الرواية. حتى لو لم يكن حولنا خراب ستبقى الرواية، لكن المهم كيف تكتب لا ماذا تكتب. طبعا هناك نزعة استهلاكية عند الكثيرين فيحكون بلا أي بناء روائي، لكن نسبة العارفين بأن شكل الكتابة هو الإضافة كثيرون جدا في العالم العربي. قديما كانوا يقولون الرواية في مصر والشعر في العراق. أنظر الآن ترى الرواية في العراق والشام والسعودية والمغرب وتونس وليبيا والجزائر والسودان واليمن والكويت، هناك علامات ورايات رائعة بين الكتاب من كل الأعمار. أما من يستسهلون ويحكون ساعين إلى الشهرة بالحِكِم والأمثال ووجهات النظر الواضحة، فهم في كل زمان، الفارق هو أن الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي جعلتهم أمامك فتتصور أن هذا هو حال الرواية.
■ هل التغيرات السياسية التي طرأت على الواقع العربي لها الأثر الكبير في تغير الوعي الأدبي؟ أم أن الهوة لم تزل كبيرة بين المتغيرات والنتاج الأدبي؟
□ النتاج الأدبي يبحث عن عالم أفضل حتى وهو يكتب عن الخراب. التغيرات السياسية قدمت مادة زاخرة للكتابة مثل الهجرة والسجون والمعتقلات والقتل على الهوية وغيرها، لكن الكتابة عمل أجمل حتى وهي تتناول هذا الخراب، ولا يمكن أبدا التماهي بين الأدب والسياسة. الأدباء رافضون بحكم الفطرة حتى لو عاشوا في الجنة، وأفلاطون في مدينته الفاضلة حذر من دخول الشعراء.
■ الأدب كان سابقا واحدا من أهم المؤثرات في الواقع العربي، ما أن تنشر قصيدة أو قصة وحتى رواية حتى يكون الصدى داخل الجمهور واسعا. أما زال هذا التأثير موجودا؟
□ الأدب لا يغيّر الواقع إلا بعد تراكم طويل. الأدب يصنع إنسانا سويا، لديه دائما أمل في الأفضل. الفنون عموما تذكر مشاهدها أو قارئها بالجمال. قديما قالوا إن رواية «كوخ العم توم» لهارييت بيتشر ستو كانت سببا في الحرب الأهلية الأمريكية، والحقيقة كان السبب العبودية في الجنوب، ورغبة الشمال في ثروات الجنوب، وقالوا إن رواية «الأم» لمكسيم غوركي كانت سببا في الثورة البلشفية، كأنه قبلها لم يكن هناك نضال شيوعي ولا ثورة 1905 التي قادها تروتسكي. وقالوا إن عبد الناصر قرأ رواية توفيق الحكيم «عودة الروح» فقام بانقلاب يوليو/تموز، والحقيقة أن العصر كان عصر الانقلابات، بدأ بسوريا بانقلاب حسني الزعيم.

التابوهات صناعة التخلّف الذي طرأ على العالم العربي في العصور الوسطى، الذي وصل الآن إلى أن كل مؤسسة صارت حامية الفضيلة.

الأدب لو ترك لحاله لكان أثره بطيئا، ووحده لا يغيّر الواقع، لكن يزيد أثره حين تقوم الأنظمة الغاشمة بسجن المبدعين. المشكلة أن هذا الكلام عن أثر الأدب تصدقه الانظمة المستبدة، فتطارد الشعراء والكتاب، فتصبح حربا واضحة، لكن في النهاية أنظر من أطاح بمن وهل كانت قصيدة وراء الإطاحة بأي نظام سياسي؟ لو كان الأدب يغير الواقع لكنا أفضل أمة من كثرة الشعر العظيم والروايات العظيمة، لكننا دائما إلى الخلف لحماقة الانظمة. الأدب الذي يصنع إنسانا سويا من أثرقراءته يساهم طبعا في التغيير، لكن بعد تفاعل كبير ووقت طويل، وعادة يظهر الحديث عنه كلّما تفاقم الظلم. هل تتذكر سنوات الاحتجاجات في مصر قبل ثورة يناير/كانون الثاني؟ حركة كفاية والأحزاب والنقابات. أكثر من عشر سنوات، وحين امتلأ الميدان ارتفعت قصائد الشعراء، لكنها لم تكن السبب المباشر كانت طريق الأمل.
■ ماذا عن التابوهات المعهودة وأثر محاولة تجاوزها الآن؟
□ هذه التابوهات صناعة سياسية ودينية واجتماعية، وهي بنت التخلّف وهدفها التخلف. ما أن تقرأ التراث العربي فتجد كل التابوهات مكسورة، خاصة الجنسية، وتقرأ التراث السومري والبابلي والفرعوني، فتجد كل التابوهات مكسورة حتى الدينية، فالآلهة تتحارب وتقتل بعضها وتتزوج من نساء الأرض وغير ذلك. التابوهات صناعة التخلّف الذي طرأ على العالم العربي في العصور الوسطى، الذي وصل الآن إلى أن كل مؤسسة صارت حامية الفضيلة. الدولة والأزهر ووزارات الثقافة والإعلام والجوامع، وحتى وزارات الداخلية. وشاعت عبارات قاتلة مثل الحفاظ على القيم والتراث والهوية. ولا أحد من مطلقي هذه الشعارات يعترف بأنه ليس هناك تقدّم إلا بتغيّر القيم، ولا تقدّم إلا بقتل الأب أي التمرد على التراث، ولا تقدّم بفرض الهوية، فالهوية صناعة التجربة والتفاعل الزمني بين القضايا والناس. أنظر إلى أين انتهت نزعة القومية العربية، إلى حروب وخسائر، وإلى أين انتهت نزعة الدولة الإسلامية، إلى حروب وخسائر. الهوية يحددها التاريخ والتطور. ما يقرب من ألف وأربعمئة سنة منذ دخل العرب والإسلام مصر، ولا يزال كثير من عاداتنا فرعونية، فضلا عن وجود الأقباط. ويمكن أن تقول ذلك عن كل بلد عربي قديم مثل العراق أو الشام أو المغرب أو اليمن. هناك هويات والمهم كيف يكون التعاون بينها، لا مسخها في هوية واحدة، فهذا ضد التاريخ والمنطق. إن مدينة مثل الإسكندرية فيها المأكولات مثلا مصرية ويونانية وإيطالية وفرنسية وإنكليزية وعربية ومغربية، وكلها دخلت في حياة السكندريين ولم تشوههم مثلا ولم تمسخهم. الذي شوّههم هو المحاولة التي تتم منذ قرابة نصف قرن لصناعة الوهابية ومصيرها إلى زوال. النظم التي تكرس التابوهات تريد شعبا جاهلا لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم.
■ ما الذي يشغلك الآن.. مواصلة الكتابة؟ الحصول على جائزة عالمية؟ أم الانشغال بالواقع السياسي؟
□ ليس لي إلّا الكتابة في هذا المنفى بحثا عن حياة بين أوراقي. أعطي هذا المنفى نهاري فاهتم بالقضايا السياسية، لكن الليل لي ولشخصياتي وعوالمنا المجنونة. أما الجائزة، فأقصى آمالي أن أجد شارعا نظيفا أمشي فيه وأن أصل إلى بيتي أو عملي في موعدي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    التابوهات يصنعها حكم الاستبداد والطغيان الذي يقوده العساكر والمناشير والبراميل المتفجرة. وهي تابوهات تحرم الحرية والشورى والكرامة . الإسلام لا يصنع تابوهات، لأنه حرية لاإله إلا الله محمد رسل الله صلى الله عليه وسلم. المسلم يحمل أوزاره لا يحملها عنه أحد،و لا يحمل أوزار أحد.

  2. يقول علي:

    تشبيه ما يكتبه بعضهم من روايات بما جرى في أمريكا اللاتينية غير مطابق للحقيقة. فهم هناك كانوا يكتبون ضد الجنرالات والكولونيلات المستبدين الطغاة. كثير ممن يكتبون عندنا يتملقون السلطات العسكرية والمنشارية بهجاء الإسلام ، والترويج للإباحية وتقليد الغرب في نماذجه الدميمة. كتابنا وخاصة أهل الحظيرة، يبحثون عن الجوائز والمغانم بإرضاء الجنرال أوالمنشار أو البرميل المتفجر. طوبى للكتاب للكتاب الحقيقيين.

إشترك في قائمتنا البريدية