تشارلز ديكنز… كان الصبي ذو الاثني عشر عاما من العمر، في حالة بائسة، حيث كان قد خرج لتوه من مصنع الصبغة السوداء للجزم، بعد عشر ساعات من العمل المتواصل، في مبنى قذر ومظلم ومليء بالجرذان على ضفاف نهر التَيمز في منطقة تشيرنغ كروس في لندن. أخذ الصبي يسير في شارع توتنهام كورت المظلم في لندن، متلمسا الدفء ومتجها نحو أحد باعة المأكولات الرخيصة لملء معدته بطعام عديم المذاق. وبعد ذلك، توجه إلى مسكنه الذي كان عبارة عن منزل صغير وكئيب تسكنه امرأة فقيرة. وكان الصبي يفتقد والديه ومدرسته التي اضطر إلى تركها لإعالة عائلته، حيث يقبع والده في السجن لعدم تسديده ديونه. ولم يستطع هذا الصبي محو هذه المعاناة من ذاكرته على الرغم من أنها لم تستمر أكثر من سنة، ولكن هذا أكثر مما كان يحتمل.
ولم يكن هذا الصبي شخصية مأخوذة من إحدى روايات الكاتب البريطاني تشارلز ديكنز الخيالية، بل كان تشارلز ديكنز نفسه عام 1824. كبر ديكنز ليصبح رمز الأدب الروائي في التاريخ البريطاني الحديث، ولمع اسمه في العالم الغربي بأكمله، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، التي شكلت أكبر قاعدة لقرائه، وقيل إن سبب عظمته الأدبية كان معاناته في طفولته. ولكن ديكنز كان أكثر من مجرد كاتب كبير، حيث عبّر من خلال رواياته والأحداث التي مرّ بها عن حالة المجتمع البريطاني، بجميع تناقضاته ومشاكله في عصره، ولذلك نجد الكثير من الاتجاهات السياسية المتناقضة تتبنى رواياته كدليل على صحة الأفكار التي تنادي بها. وبالتالي نجد الشيوعيين الذين يعتبرونه رمزا لكفاح «البروليتاريا»، وفي الوقت نفسه نجد الكنيسة المسيحية تمجده لأسباب مناقضة تماما. ودارت نقاشات طويلة عن آراء ديكنز حول الدين وحقوق المرأة والطبقات الفقيرة. ومع ذلك لا يمكن التقليل من تأثير روايات ديكنز على طريقة وتسويق الأدب الروائي في العالم الغربي، وأثره في بعض أهم العادات الاجتماعية.
وهو الروائي الأفضل والأكثر شعبية في تاريخ الأدب الإنكليزي. وما هو جدير بالذكر أن شهرة تشارلز ديكنز في الولايات المتحدة الأمريكية فاقت تلك التي في بريطانيا، وما تزال رواياته تنشر بنجاح حتى الآن. وعلى الرغم من عدم إكماله تعليمه، استطاع أن ينشر خمس عشرة رواية، وخمس روايات قصيرة، والمئات من القصص القصيرة والمقالات وحتى بعض المسرحيات. واستخدم ديكنز أسلوبا جديدا في كتابة الرواية باللغة الإنكليزية، تميز بكتابة الأحداث بصيغة المضارع، وأصبح شائعا بعد ذلك، وكذلك استعمل لغة الطبقات الفقيرة من الجانب الشرقي من لندن. ولعل من أبرز سمات رواياته أن الكثير من الأحداث والشخصيات فيها، حقيقية عرفها الكاتب شخصيا حتى أن رواية «ديفيد كوبرفيلد» كانت من الناحية العملية قصة حياته هو، ووجود العدد الواضح من الأمهات السيئات في رواياته، قد يكون سببه رأي تشارلز ديكنز نفسه بوالدته.
ولم تقتصر شهرة الكاتب على بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، بل امتدت إلى بقية البلدان الأوروبية وروسيا، إذ أقر الكاتبان الروسيان دستويفسكي وتولستوي بتأثرهما الكبير به. واعترف بعض أشهر الأدباء البريطانيين مثل جورج اورويل بمكانة تشارلز ديكنز المرموقة في عالم الأدب الإنكليزي. وكمثال على الاهتمام به، أن أربعة كتب عن حياته نشرت في بريطانيا في النصف الأول من عام 2009.
ولد تشارلز ديكنز عام 1824 لعائلة فقيرة، فقد كان والده موظفا بسيطا في البحرية البريطانية. ولكن محاولات والده لتحسين أوضاعه المالية أدت إلى تراكم الديون التي قادته إلى السجن حسب القوانين البريطانية آنذاك. وحسب العادات المتبعة آنذاك سرعان ما سكنت العائلة معه في السجن باستثناء تشارلز، الذي عمل في مصنع لإنتاج صبغة الجزم السوداء، وشقيقته التي ولدت قبله بعامين، حيث استمرت في دراسة الموسيقى في إحدى المدارس الشهيرة نظرا لحصولها على منحة دراسية لذلك. ولم ينقذ العائلة سوى وفاة والدة الأب بعد عدة أشهر من دخوله السجن، حيث ورث منها مبلغ أربعمئة وخمسين باونا، كان السبيل الوحيد لإخراج الأب من السجن، وإعادة الصبي إلى المدرسة، على الرغم من معارضة الأم التي فضلت بقاءه في العمل، ما جعل تشارلز يحقد عليها طوال حياته. ولكن دراسته لم تستمر، حيث تركها وهو في سن الخامس عشرة، ليصبح موظفا بسيطا لدى أحد المحامين ثم أصبح صحافيا، وهنا اكتشف الفتى ضالته، حيث تعلم كيف يكتب بشكل مثير وطبيعة المواضيع التي تجذب القراء وكيفية جني المال الكثير.
أثار تشارلز ديكنز الآراء حول اتجاهاته الدينية والسياسية والفكرية، فقد انتقد الدولة والمجتمع البريطانيين لإهمالهما الطبقة الفقيرة، خاصة أطفال ونساء تلك الطبقة، ونجد ذلك واضحا في أعماله الأدبية. ولكن ذلك لم ينجه من انتقاد النقاد الحاليين ناسين أنه كان وليد عصره، واعتمد على إرضاء مجتمعه لدعم مركزه المالي والاجتماعي. ولكن الكاتب لم يكن ملاكا في مقاييس أي مجتمع، فذلك الصبي الفقير اكتشف مبكرا أن الكتابة كانت سبيله الوحيد إلى المجد ورافقت ذلك مهارته في التقرب من الأشخاص المفيدين له. ومع تعاظم مركزه في عالم الكتابة زاد غرورا، ليتحول إلى شخص نرجسي غير قابل للتسامح مع أي كان، لأتفه الأسباب، حتى أن ابنته وصفته بعد وفاته بأنه كان عديم الاهتمام بعائلته مهما حدث لها. ولا نستطيع إخفاء أن الإعجاب ليس فقط في قابليته على تأليف الروايات، بل كذلك في اختياره للمواضيع التي تثير القارئ وكيفية تقديمها له، وكان قد تعلم كل هذا أثناء عمله في الصحافة، ولذلك ابتدع طريقة بالغة الذكاء في تقديم رواياته إلى القراء، حيث قدم روايته الأولى «أوراق بيغويك» عام 1836 على شكل حلقات في مجلات شهرية. وبذلك كان القارئ ينتظر بشوق الحلقة المقبلة كلما انهى قراءة حلقة. وكان ديكنز ماهرا في معرفة آراء القراء، كي يغير أحداث الحلقات التالية لكسب تأييد أكبر من قبل القراء. وكرر هذا مع جميع رواياته التي كان اشهرها «أوليفر تويست» عام 1837، و»ترنيمة أعياد الميلاد» عام 1843، و»ديفيد كوبرفيلد» عام 1849، و»قصة مدينتين» عام 1859، و»توقعات عظيمة» عام 1860. وقد تكون روايته «أوليفر تويست» الأشهر له في العالم العربي، ولكن «ترنيمة أعياد الميلاد» كانت الأشهر في العالم الغربي. وأصبح ديكنز مزيجا من ظاهرة أدبية حقيقية ونجم اجتماعي، متفوقا في مكانته على أي نجم سينمائي في عصرنا الحالي.
وللمرة الأولى أصبح تشارلز ديكنز مستقلا ماليا باعتماده على رواياته، بينما كان ذلك غير معهود قبل ذلك. وأخذ الناشرون يقبلون عليه بعروضهم المالية المغرية، وكان يعرف كيف يضغط عليهم حتى أنه تخلى عنهم في إحدى المرات، ونشر رواية «ترنيمة اعياد الميلاد» على نفقته الخاصة.
وأصبح الإقبال على أعماله كبيرا إلى درجة أن المعجبين به في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا ينتظرون في ميناء نيويورك السفن التي تحمل الأعداد الجديدة من المجلة التي كانت تنشر حلقاته، وكانوا يسألون البحارة عن تفاصيل الحلقة الجديدة قبل شرائهم العدد الجديد. ولكن ماذا عن المعجبين من الطبقات الفقيرة؟ كان هؤلاء يعانون من مشكلتين، أولاهما عدم قدرتهم على شراء الصحف، وثانيتهما انتشار الأمية في أوساطهم، ولذلك كان الحل أن يجتمع عدد من المعجبين ويدفع كل منهم مبلغا تافها لأحد القراء كي يقرأ عليهم الحلقات.
وللمرة الأولى أصبح تشارلز ديكنز مستقلا ماليا باعتماده على رواياته، بينما كان ذلك غير معهود قبل ذلك. وأخذ الناشرون يقبلون عليه بعروضهم المالية المغرية، وكان يعرف كيف يضغط عليهم حتى أنه تخلى عنهم في إحدى المرات، ونشر رواية «ترنيمة اعياد الميلاد» على نفقته الخاصة. وكان ذلك ضربة تجارية فريدة من نوعها، حيث تحولت تلك الرواية بالذات إلى ظاهرة اجتماعية، إذ يعتبرها المؤرخون عاملا أساسيا في تنمية ظاهرة الاحتفال بأعياد الميلاد في منتصف القرن التاسع عشر، حتى أن المعايدة المعروفة في أعياد الميلاد Merry Christmas ماخوذة من تلك الرواية، التي أثرت كذلك على طريقة الغربيين في الاحتفال بتلك المناسبة، ولذلك، فليس غريبا أن فيلما أو مسلسلا تلفزيونيا مأخوذا من تلك الرواية يعرض كل سنة في فترة أعياد الميلاد. ولم يكن تشارلز ديكنز يجهل كيف يجعل نفسه نجم الجلسات والحفلات، واشتهر بمآدبه في منزله حيث كان يهتم بكل تفصيل وكان منها ما يثير الدهشة، حيث كان يوصي الضيوف بالقدوم في الساعة السابعة بالضبط، وإلا فانه سيكون باردا معهم، ويضيف إلى المأدبة عرضا مسرحيا من تأليفه وألعابا سحرية ممتعة، فقد كان ممثلا هاويا وعاشقا للاستعراض، واشترك في تمثيل بعض المسرحيات التي ألفها، وقدم عرضا مسرحيا للملكة «فكتوريا» التي كانت من أشد المعجبين به. وكانت من فعالياته التي استمتع بها وكسب منها الكثير من المال قراءة رواياته على المسرح، حتى أنه أصيب بسكتة دماغية خفيفة وهو على خشبة المسرح، ولكنه أصر على المواصلة. ومع ذلك فإن نرجسيته وثقته المفرطتين بنفسه، جعلته قاسي الفؤاد، ففي عام 1858 استلمت زوجته أسورة ثمينة مصحوبة برسالة غرامية من زوجها. ولكن الهدية والرسالة لم تكونا موجهتين لها، بل لعشيقته حيث أخطأ صاحب المحل وأرسل الهدية إلى عنوان تشارلز ديكنز، بدلا من عنوان العشيقة التي كانت تسكن في منزل خاص بها على حساب الكاتب الكبير. وكان ذلك سببا في خلاف عائلي أدى إلى انتقال الزوجة إلى مسكن آخر مع أكبر أبنائها، حيث حاول زوجها منع بقية أولادها من زيارتها، ورغم تكفله بتكاليف إقامتها بعد اثنتين وعشرين سنة من الزواج، أنجبت خلالها عشرة أولاد. وبلغت قسوته إلى درجة أنه حاول إدخال زوجته مستشفى للأمراض العقلية. وعندما رفض مدير المستشفى، استشاط الكاتب غضبا وانهال عليه بأقذر الأوصاف. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث قام بنشر مقال في أشهر الصحف البريطانية متهما زوجته بإهمال منزلها وأولادها.. ومع ذلك لم يطلقها، وقد علل المؤرخون أن الطلاق كان يعتبر فضيحة بالنسبة لرجل في مركزه، وكان ما عمله الكاتب الكبير لم يكن فاضحا بما فيه الكفاية. وعندما تزوج ابنه البكر رفض حضور الزفاف، لان والد زوجة الابن، الذي كان رئيس تحرير صحيفة، أيد موقف زوجة تشارلز ديكنز. وعندما توفي عام 1870 كانت ثروته كبيرة، حيث بلغت أكثر من سبعة ملايين باون بالمعايير الحالية، وكان أول اسم في وصيته هو اسم عشيقته التي كانت تصغره بسبعة وعشرين عاما.
أحد التساؤلات التي تثار دائما كان مدى تأثير روايات تشارلز ديكنز في نظرة المجتمع البريطاني تجاه الطبقات الفقيرة. وقد يكون الجواب أن التأثير كان طفيفا، حيث استمتع القراء بقراءة قصص الفقراء وكأنهم من كوكب آخر. وكانت في تلك الفترة رحلات سياحية للأغنياء في المناطق الفقيرة، لإمتاع الأغنياء. ولم يتوقف استغلال الطبقات الميسورة للفقراء من النواحي الاقتصادية والجنسية، وحتى من قبل بعض أشهر أدباء تلك الفترة، ما يناقض ما يعرف عن المجتمع البريطاني حول كونه محافظا جدا. ومن الواضح أن الواقع كان مختلفا جدا.
باحث ومؤرخ من العراق