هل هــي نوع خاص يخــــترق جنس الـــــرواية وجسدها الشعبي الذي أصبـــح يتقـــبل كل الممارســـــات الثقافية ليجعل منها جزءاً من بنيته؟ وما معنى إذن الرواية الاستقصائية le roman d’investigation؟
الممارسة النقدية والتنظيرية شحيحة في هذا المجال، عالمياً. بعضهم لا يعتبرها نوعاً قائماً بذاته، ولكنه يدمجها في الرواية البوليسية، التي تعتمد أيضاً على عنصر التحري، لكن التحري في الرواية البوليسية له وظيفة البحث عن الحقيقة الإجرامية. في الرواية الاستقصائية له معنى آخر أكثر اتساعاً وأكثر أدبية، يبحث عن الحقيقة، لا لمعاقبة المجرم ولكن لإعادة صياغتها روائياً. هدف التحري والاستقصاء هو الكتابة الروائية، ولا يهم إذا غابت الحقيقة التي يبحث عنها الروائي، فالتخييل يمنحها فرصة ملء البياضات، ومجالاتها غير محدودة، حادثة بسيطة، مسار شخصية تاريخية أو ثقافية معروفة، ولها علاقة عميقة بالممارسة الواقعية للإنسانية التي أخفتها ظروف أو فعل إرادي لا يريد للحقيقة أن تتجلى. الحاسم في الرواية الاستقصائية ليس الكشف عن الملابسات، فالتحريات ليست إلا وسيلة لإنجاز أدبي يأتي لاحقاً بعد الانتهاء من فعل الركض والأسفار، وتتبع الحقيقة الغائبة.
ليس الأمر بسيطاً بالنسبة لكاتب لا يكتفي بالمتخيل العام، لكنه يبحث عن سنده الذي يقربه من الحقيقة. قد ينطلق البحث الميداني من جملة، أو من حادثة صغيرة، فتتفرع وتتسع لتصبح هدفاً يركض الروائي وراءه بهدف أدبي. الوصول إلى الحقيقة الأدبية ليس مثل الحقيقة الأمنية، فالأولى لها علاقة بالتاريخ كما استوعب في لحظة ما، وبالكتابة، أي بتحويل المادة التي لها طابع تاريخي إلى مادة أدبية التي كثيراً ما تكون أقوى من المادة الجزائية التي تنتهي في حدود العقاب. هكذا كان بالنسبة للأمير عبد القادر، عندما فكرت في كتابة رواية عنه. بدأ الأمر بسؤال إشكالي وصعب: لماذا لم نفلح في تحرير الأمير من ثقل التاريخ الرسمي، ونتعامل معه كإنسان من خلال رواية تقول رحلته وحياته الكبيرة حتى في التباسها وتناقضها؟ لكن عملاً مثل هذا بدا لي ضخماً، ومستحيلاً، أكبر من طاقة إنسان واحد، بالخصوص عندما نعرف التركة الثقافية التي خلفها الأمير وخلفها الباحثون في مساره الحياتي والثقافي.
قضيت في النهاية؛ في تحقيقي الأدبي في اختبار المادة التاريخية ومدى صلاحيتها أدبياً، أكثر من أربع سنوات متتالية، يئست فيها كثيراً، وفرحت أكثر كلما وجدت ما يصلح ما يغني النص ويمنحه معنى جديداً. أحاول أن أفهم المعلومات المتضاربة دون حكم مسبق، وفجأة بدا واضحاً داخل الركام التاريخي عنصر شديد الأهمية لم يوله المؤرخون أية أهمية: علاقة الأمير بمونسينيور ديبوش؟ بقدر ما كانت الوثائق كثيرة عن الأمير، كانت شحيحة عن مونسينيور. في عالم وقتها كان ينظر إلى هنتنختون كفاتح معرفي وحضاري، بينما كانت أطروحته لا تختلف عن أطروحة فوكوياما حول نهاية التاريخ التي أوقفت مآلات العالم في دائرة الرأسمالية المتوحشة والنموذج الحضاري الأمريكي.
كانت فكرة الحوار الديني والحضاري بين الأمير – مونسيور، هي محور البحث والتقصي، ومرتكزه. في الرواية قادتني التحريات التاريخية إلى سيرة مونسيور، الغائبة التي عثرت عليها في المكتبة الوطنية الجزائرية. كتاب مغلق كأنه كان ينتظر من يفتح ملازمه لأول مرة، ثم كتاب مونسينيور نفسه عن الأمير: «عبد القادر في قصر أمبواز»، حتى اكتملت مادة الرواية. فقد أصبح التاريخ جزئية صغيرة من معطى ثقافي شامل.
الشيء نفسه حدث لي مع مي زيادة؟ وأنا أعد محاضرة في السوربون، عن الأدب النسوي العربي، اصطدمت بجملة من مي زيادة تقول: أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني. شعرت فجأة كأن مي زيادة كانت تكلمني. في أول زيارة للقاهرة برفقة زوجتي الدكتورة زينب، سألني الدكتور نبيل المحيش، والدكتورة نانسي إبراهيم، ماذا عن مي زيادة، أما تزال فكرة زيارة قبرها قائمة؟ قلت طبعاً. قالا: لا بد أن يكون من وراء ذلك مشروع رواية؟ قلت: ربما. انتقلنا إلى المقبرة المسيحية المارونية في اليوم الموالي حيث قبر مي زيادة. شيء ما ظل عالقاً في الحلق: لا أفهم جيداً، كيف لامرأة بهذا التاريخ العظيم، لا يرافقها إلا ثلاثة أشخاص: أحمد لطفي السيد، خليل مطران، وأنطوان الجميل. تلمست قبرها يومها، وكأني كنت ألمس وجهاً من غيم، شعرت بمرارة في القلب، كان القبر بارداً ومعزولاً. لم يقل حارس المقبرة أكثر من كونها مارونية. لا معلومات لديه. عدت من القاهرة وأنا ممتلئ برغبة الكشف عن هذا الظلم. زاد إصراري. سافرت إلى فلسطين بدعوة من وزارة الثقافة، في إطار مؤتمر الرواية العربية في رام الله. انتابتني فكرة زيارة موقع ولادتها في الناصرة، لأرى مسقط رأسها، ولأفهم شيئاً كثيراً ما تكرر في كتاباتها. كانت دوماً تذكر الإسلام مقروناً بالمسيحية؟ هل هو إحساس الأقلية وهي في مصر على عكس وجودها في الناصرة حيث الأغلبية مسيحية؟ أم لذلك تفسير آخر. سألت أصدقائي ممن دعوني إلى فلسطين، هل يمكن زيارة الناصرة؟ قالوا إن الظرف الحالي غير مناسب، ويمكن أن يفسر الأمر على غير حقيقته. في العشاء طرحت الفكرة على مدير متحف درويش، الصديق الروائي سامح خضر. كان يعرف جيداً ما كان يكبر بداخلي. اقترح أن نتصل بصديقة صحفية في القدس. تحمست معنا للمشروع وسافرنا صباحاً نحو الناصرة، بعد أن نسّقنا مع رئيس بلديتها السابق، المثقف والرجل الكريم والبهي، الأستاذ رامز جرايسي، الفلسطيني الملتصق بأرضه بقوة. كان دليلنا الحقيقي في المدينة القديمة. زرت بيت مي، في المدينة القديمة. عندما وقفت في الشرفة، عرفت لماذا ظلت مي مرتبطة بالدينين. فقد واجهني الجامع الأبيض، وخلفه يبدو الجزء العلوي من الكنيسة العظيمة: بازليك البشارة، العظيمة. انتقلت بعدها إلى معرض بيروت وكان اللقاء بالصديق أورفلي، في الجامعة الأمريكية، الذي اقترح عليّ إقامة إبداعية في بيروت. وهو ما حدث بالفعل. سمحت لي الإقامة بإتمام تحقيقاتي بين بيت مي العائلي في مرتفعات شحتول الجميلة، وبزيارة مستشفى العصفورية الذي حشرت فيه ظلماً، ثم اللقاء مع مؤرخ العائلة في جونيه، الأستاذ غرغريوس زيادة، والاجتماع بالصديق الكبير، كريم مروة، ثم بالكاتب سعد مراد الذي كتب أول سيناريو عنها. كنت قد التقيت قبلها في البحرين، بالشاعر الكبير هنري زغيب مدير مركز التراث اللبناني، الذي جعل من مي رهاناً ثقافياً لبنانياً. اكتملت صورة التقصي والبحث واتضحت مساحة الكتابة. بمجرد عودتي إلى باريس، كانت رواية مي زيادة: ليالي إيزيس كوبيا، قد تشكلت بصورة نهائية.
الرواية الاستقصائية متعبة جداً في تحرياتها الطويلة، لكنها مدهشة، لأنها ممتلئة بالأفراح الحقيقية، والآلام والعطور الشهية، والروائح التي تقربنا من عصر بكامله. عالمها ينشأ من كل التفاصيل الخبيئة في تاريخ الإنسان.