الرواية العربية على خريطة العالم

بين آونة وأخرى يتم طرح موضوع الرواية العربية وموقعها الى خارطة الرواية في العالم. وما أن يُفتح هذا الموضوع للنقاش حتى تندلق الأسئلة المتعلقة بالأصالة والخصوصية والهوية والترجمة. كما تتفجر ثنائيات المحلية والعالمية. وهي البؤرة الأهم – بتصوري – في هذا الشأن. فالروائي لا يخترق آفاق العالمية ما لم يكتسب مشروعيته الروائيه ومقروئيته الجماهيرية داخل بيئته الثقافية ووسط محيطه الإجتماعي. كما حدث لنجيب محفوظ، الذي كان فوزه بمثابة الدليل على أهمية النجاح المحلي كممرٍ للعالمية، كما كان فوزه اليتيم دليلاً على ضآلة حضور الرواية العربية عالمياً.
إن الرواية العربية، التي تم تتويجها كديوان جديد للعرب، ليست استثناء أدبياً بمواصفات مختلفة عن الروايات التي تنتج في جميع أنحاء العالم. إنما هي جزء من سياق روائي إنساني أشمل يحمل مشتركات أدبية متجانسة ومتكاملة. سواء على مستوى القيمة الجمالية، أو المنظور الفلسفي. أو هذا هو ما يفترضه الخطاب الروائي ومفاعيله. بمعنى أن الروائي العربي ينتمي إلى سلالة ممتدة في التاريخ والجغرافيا، سواء ارتد إلى موروثه لينهل منه، أو اقتدى بالآخر الغربي. وفي هذا الصدد يمكن التدليل بحالة الطاهر بن جلون، الذي يكتب بلسان غير عربي، وبمرجعيات عربية. وهو ما يعني أن الروائي يمكن أن يحلق فوق أوهام الخصوصية من خلال التصاقه بمفاعيل الخطاب الروائي. أي بانفلاته المعلن عن قُطريته وانتمائه الروحي إلى عربيته.
ومن الطبيعي أن يحاول بعض الروائييين العرب إتباع طرائق السرد التجريبية، والأخذ بمقاييس الرواية الحديثة التي يصنّفها ميلان كونديرا ضمن المخترعات الأوروبية من واقع تفكير مركزوي النزعة. فيما ينصرف آخرون عن كل ما قيل أنه يشكل مرجعية تراثية أو بذرة غير مكتملة لفعلٍ روائي ذي خصوصية عربية مغايرة. وذلك من أجل التواصل مع الأبعاد المركبة للرواية العالمية. حيث تحولت الرواية إلى ظاهرة كونية. فهي مروية الفرد الذي يقتحم بها كل الآفاق والأراضي المحرمة. بمعنى أن الروائي العربي ليس ملزماً بارتياد فضاءات السرد كفرد من قبيلة صغيرة، إنما كعضو فاعل من سلالة إنسانية.
ولا شك أن غياب الروائي العربي عن منصات التتويج للجوائز العالمية يشير إلى حجم إسهامه البسيط في حقل الرواية. ويدل على أنه ما زال خارج المنافسة، وأبعد ما يكون عن تعاليات الخطاب الروائي. بمعنى أنه عاجز عن سرد ذاته ومجتمعه ولحظته. حيث لم تشكل الرواية العربية ظاهرة أدبية كتلك التي ابتدعها روائيو أمريكا اللاتينية، المتمثلة في الواقعية السحرية. ولم تتقدم – تجريبياً – باتجاه يوازيها بالرواية الحديثة في فرنسا. ولم تتحشد في سياق يمكن بموجبه مماهاتها بالروايات اليابانية أو ما يُعرف بالأنجلو أنديان وهكذا. وكأن الروائي العربي يكتب تحت وطأة ما يقرأ من الروايات العالمية. حيث يبدو الأثر الفرنسي واضحاً في جانب من المنجز. فيما يحضر النفس الملحمي الروسي في جانب آخر، بعد أن استفذت موجات تيار الوعي وهكذا. بل أن بعضهم يكتب على إيقاع ما تمليه مراكز الإستشراق. فهو يكتب ليحضر كروائي وحسب، بدون أفق أو منظور مدروس.
كل ذلك يفسر محاولات معظم الراوئيين العرب الإنقلاب على المحفوظية، والفرار من إلزامات الواقعية والإجتماعية والرومانسية. والتورط في موضوعات التحرُّر والعدالة والمساواة والتنمية. أي الكتابة من منطلقات أكثر حداثة وتجريبية للإلتحاق بالسياق العالمي. الذي يقدم باستمرار طرائق أحدث للسرد ونظريات تعبيرية أكثر مرونة وأسماء روائية ذات خصائص جاذبة ومحرضة. هذا بالنسبة للذين يقرون بالمديونية الثقافية للآخر، ويجدون عنده ما يمكن أن يمد الرواية العربية بالوصايا المعرفية والوسائل الفنية الكفيلة بتأهيلها كخطاب إنساني. أما بالنسبة للذين يعتقدون بكفاءة الرواية العربية، وأحقيتها بمكانة متقدمة على الخارطة العالمية، فيعتقدون أن الخلل يكمن في ازدراء الغرب للعرب الأمر الذي ينعكس تلقائياً في ضعف مشاريع الترجمة. وهو ما يمنع وصولها إلى القارىء حول العالم. بمعنى أن الأسباب خارج المدار الإبداعي.
ويبدو لي أن هذا الرأي تنقصه دعائم المحاججة المنطقية. فالترجمة مجرد ضلع في مثلث يتكامل مع جودة الأثر الفني واستحقاق الجوائز العالمية. ومن يتنباه لا يفرق بين كفاءة الرواية ومدى انتشارها. فالمسألة لا تتعلق بأسواق التوزيع والبيع. إنما بإقناع القارىء العربي في المقام الأول بفرادتها واحتوائها على ما يجدر التعالق به. والدليل أن الجائزة العالمية للرواية العربية ( البوكر ). لم تقنع القارىء العربي بمعظم فائزيها، الذين يِفترض أن يكونوا من نخبة الروائيين. وما تُرجم منها لم تتردد له أي أصداء تُذكر عالمياً. لأنها لم تلامس إنسان العصر ووعيه ووجدانه. ولم تجد فيها الدوائر الثقافية العالمية ما يستحق الإحتفاء به. وهو الأمر الذي ينطبق على روايات كثيرة تمت ترجمتها والتسويق لها بدون أي مردود ثقافي لأنها ترجمات ترويجية لبضاعة كاسدة أصلها في سوقها. حيث يمكن التمثيل بظاهرة أحلام مستغانمي التي تراوح مكانها، في حيز الإستهلاك التجاري. ولم تسجل أي فتح في أطلس الرواية العالمية، على الرغم من كل تلك الترجمات العابرة للقارات.
إن الروايات الإيطالية والصينية والأسبانية والتركية التي تأتينا بعد أن تتم ترجمتها للعربية نجدها أكثر اكتمالاً وإغراءً من العربية. بل أن القارىء العربي لديه ميثاق قرائي مع روائيين عالميين أكثر من حرصه على متابعة أي روائي عربي. لولا بعض الأسماء التي تروج لحضورها من خلال لعبة تجارية وعلى فصيل معروف من القراء المأسورين بالجلبة الإعلامية. وهنا مفارقة لافتة، فالرواية الأجنبية تصل إلى القارىء بعد أن تفقد الكثير من جماليتها نتيجة الترجمة والترشيح والرقابة. ومع ذلك تُحدث أثرها في القارىء العربي. فيما تبدو الصلة بالرواية العربية المكتوبة باللغة التي نتحدث بها ضعيفة وواهنة. وهو ما يعني أن حجة الترجمة، وتعليقها كتعويذة سحرية للوصول إلى العالمية لم تعد مقنعة. فهناك خلل كبير في مضامين وجمالية الرواية. والحديث هنا عن مجمل المنجز باستثناءات قليلة.
العالم العربي يقع في واجهة الأحداث اليومية. وهو الموضوع الأثير في نشرات الأخبار العالمية. بالنظر إلى حوادث العنف والإرهاب. ولكن لا أحد في العالم يريد أن يفهم ما يجري إلا من خلال الإعلام. لأن الرواية عاجزة عن سرد الحدث ولو من الوجهة الموضوعية. ولأنها لا تحمل في طياتها أي رؤية ذات سياق فكري أو أدبي للأحداث. في الوقت الذي كانت فيه روايات الأفغاني خالد حسيني تقدم رؤية شفافة وعميقة وأخاذة للحدث الأفغاني. وتحظى بمقروئية عالمية واسعة.
وعلى الرغم من كل محاولات الناشرين التعريف بالرواية العربية إلا أنها باءت بالفشل. لأن الأثر الفني لمعظم الروايات التي تم دفعها إلى القارىء في جميع أنحاء العالم أقل من المتوقع. كما حدث عند ترجمة رواية رجاء الصانع ( بنات الرياض ) لأربعين لغة. بالإضافة إلى حفلات العلاقات العامة والحملات الإعلامية التي صاحبتها. إذ كانت كل تلك المتوالية كفيلة بإحداث هزة في المشهد الثقافي العالمي، ولفت الإنتباه إلى أهمية الرواية العربية. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث. ويكفي في هذا الصدد ما قاله روجر آلن المترجم المعروف لعدد من الروايات العربية إلى الإنجليزية وصاحب الدراسات النقدية. حيث اعتبرها نموذجاً للروايات الفضائحية الشرق أوسطية. التي تطرح العوالم السرية للمرأة العربية. وهو الأمر الذي يحرض الناشرين الغربيين على ترجمتها، وليس معياريتها الأدبية. وهو الرأي الذي تبنته أيضاً مالينا ويتروس التي قللت من أدبيتها، ووصفتها بالكتاب النسوي. وكذلك مارلين بوث، التي قامت بترجمة الرواية ذاتها وقدمت قائمة طويلة من التبريرات اللأدبية.
الترجمة فعل حضاري في المقام الأول. ولا يمكن أن تقنع أمة ما من الأمم بترجمة منتجك ما لم يقتنع بكفاءة منجزك. وهو الأمر الذي لا يريد بعض الروائيين العرب الإقتناع به. وليس صحيحاً أن الغرب بنزعته الإستشراقية يريد روايات عربية تتحدث عن الجواري والخصيان ولحظة البداوة المتخثرة لينقلها إلى لغته. فبعض روايات غسان كنفاني ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف – مثلاً – وغيرها من الروايات التي نقلت إلى لغات أخرى، يستجيب لها المخيال الإنساني. لأنها نتاج نظام معرفي ووسائط فنية عليا. وليست كتلك المنتجات المتوّلدة ضمن شروط السوق. ولأنها أنجزت نصابها الأدبي وسط حقل ما يسمى بالخصوصية العربية. الأمر الذي يؤهلها لأن تكون جزءاً من الموروث العالمي.

كاتب سعودي

محمد العباس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عمارالثويني:

    من أجمل وأثرى القراءات النقدية التي قرأتها منذ سنوات عن واقع الرواية العربية. وفي الحقيقة، فإن الكاتب المبدع محمد العباس الذي يملك ثقافة أدبية واسعة قد طرح الكثير من الاشكالات والملاحظات القيمة التي هي بحق بحاجة إلى تحليل ووقفة متأنية للنهوض ليس بالرواية العربية التي أرى أن لدينا الكثير من المبدعين فيها ولكن في هوية الثقافة العربية.

  2. يقول صالح الرزوق - سوريا:

    أعتقد أن باولو كويلو شقيق ابن جلون. الأول لاتيني أمريكي و الثاني لاتيني فرانكوفوني.
    و الذهن يعمل بشكل نشاط نفس تصوفي في منطقة عازلة بين الأجماس و عابرة للقوميات. إنه نشاط البشرية حين تدخل في منطقة التقاطعات.. منطقة تضع الإنسان بجوار أخيه الإنسان.
    في قصة البريء لكامو تجد أن الشرط الوجودي للسجين العربي لا يختلف بشيء عن قصص ناديا خوست السورية.
    و شكرا

  3. يقول فتح الله - الجزائر:

    مستوى الإنتاج الأدبي هو صورة حقيقية لواقع الثقافة في المجتمع, فلا يعقل أن يكون لأمة بلغت أدنى مستويات القراءة أن تنتج نصوصا تستحق القراءة. و الروايات القليلة التي عرفت نجاحا ما إنما هي استثناءات لا تمثل القاعدة.

إشترك في قائمتنا البريدية