الرواية العربية والبدايات

لم يحمل لسان الرواية العربية جينات ثقافته. ولا يمكن أن تجد أي أثر في الرواية للعقل العربي، حتى إن محاولات التأصيل اغترابية تماما، مثل عباءة مستعارة. لقد وجدت الرواية العربية نفسها بدون واقع ملموس تتكلم عنه. ويكفي بهذا الخصوص أن نعلم أن قائد الجيوش العربية عام 1948 كان الجنرال اللينبي، وأن مرشد الثورة عام 1918 هو الجاسوس الإنكليزي لورنس، مؤلف «المصنع» الممنوع من النشر حتى عام 1955 بسبب حساسية المعلومات.
لقد كان موضوع الرواية العربية، مثل أسلوبها، موحى به. وكلما حان الوقت للكلام عن الذات والهوية نجد أنفسنا أمام فراغ أو فجوة. ولعل مشكلة إنكار الدور الريادي لجرجي زيدان، ومنح هذا الشرف لمحمد حسين هيكل مؤلف «زينب» دليل على رهان مثقفينا على الغرب. فأسلوب «زينب» كان إصلاحيا لكن موضوعها راديكالي. بعكس زيدان الذي اختار الأسلوب الراديكالي والموضوعات الإصلاحية. وأغرب ما في هذا الأمر أن البدايات التي تدين بوجودها للنثر العربي (الموروث – بلغة باحث متخصص مثل نجم عبد الله كاظم) هي بمعاييرنا ساقطة فنيا. وقاده ذلك ليقول عن «الرواية الإيقاظية» لسليمان فيضي، أنها لم تمتلك الوعي الفني الكافي، لأنها لم تتجاوز الموروث إلا بحدود. ولهذا الكلام معنى واحد أن رواياتنا غير ناجحة لأنها لا تزال تعيش بذاكرة قديمة. وهنا أجد نفسي مضطرا للإشارة لعدة ملاحظات أو قرائن:
1 ـ المشروع العربي سبق الرواية بالظهور.
2 ـ كان المشروع العربي جزءا من بنية السرد العربية. وكلاهما خرج من قاعدة ثقافية متأثرة بالغرب ومعادية عرقيا وثقافيا للشرق، الذي حمل لواءه العثمانيون.
3 ـ استيقظت الرواية العربية من سباتها مع مناداة أدباء العالم الثالث بالتحرر من تأثيرات الحلم الأمريكي وليس الأوروبي. ومشكلة البحث عن هوية بعد الاستقلال كانت موجهة بالأساس ضد توسع الأمريكيين، لا الأوروبيين. وكل برامج الزنوجة دارت في إطار فرانكوفوني تحرري، هدفه الأول هو إطلاق سراح العقل الأسود المهاجر من قيود العقل الأبيض المهاجر. كان الصراع بين موجتي هجرة، وليس بين طبقة السادة وطبقة العبيد، كما كنا نعتقد. وأعتقد أن الفرانكوفونية تآزرت مع هذه السياسة من تحت الطاولة، لأنها أول ضحية للنفوذ الأمريكي. وقد اكتسبت الرواية العربية شخصيتها بعد أن اشتد ساعد رواية أمريكا اللاتينية.
4 ـ ظهرت أول بوادر الرواية العربية بين الحربين. وهذا يعني أنها ولدت في ظل أعمق انكسار روحي يشهده العالم الحديث. وإذا كانت «زينب» رواية المرأة المكافحة في سبيل تحقيق ذاتها، فإن «أعمدة الحكمة السبعة» للورنس تكلمت بالنيابة عن المشروع العربي. وأضيف أن «زينب» هي إسقاط للذهن على الواقع، ولا يمكن أن تتعرف من خلالها على أحوال الريف ولا الفلاح المصري بالعكس من «أعمدة الحكمة» التي عايشت تشكيل الضمير العربي الحديث، وواكبت علاقة الإنسان مع بيئته. بتعبير آخر «زينب» رواية مكتوبة عن الواقع العربي من خارجه، كأنها تتأمله من فوق لتحت. بينما «أعمدة الحكمة» هي متابعة دؤوبة لدرب الآلام في منعطف القرن الماضي. وإذا كانت لغة «زينب» موشاة بالزخارف على طريقة الروكوكو، فإن لغة «أعمدة الحكمة» مثال نموذجي عن محاكاة الواقع النفسي لعلاقة البيئة بالأشخاص، ولذلك كانت لغته تحترق في أتون الأحداث، ولا ترفع صوت أفكار الكاتب فوق صوت شخصياته (وهذه هي إشكالية «زينب» وكل جيل الرواد ما عدا جرجي زيدان).

كانت الرواية هي العلامة المكتسبة التي دلت على تعميق خط تحرير مجتمعنا العربي من نفسه، والإيذان بدخول المجتمع العالمي (أو عصر الحداثة).

وأعتقد أن خطة زيدان هي مثل خطة لورنس. فقد بدأ الاثنان من داخل البنية (ما يسميه زيدان «فذلكة» بمعنى استعادة أو ثرثرة) قبل الانتقال لتجريد الواقع (بواسطة الانتقاء والتحديد) ثم شخصنته (بواسطة الحوار وبناء الشخصيات). ومن الواضح أن لورنس هو من كتب عن «المناظر والأخلاق العربية» وليس هيكل كما ورد في عنوان روايته، حتى لو أنها سبقت لورنس بما يقل عن عشر سنوات بقليل. ولا تزال الرواية تعيد إنتاج ماضيها، وإنما تبدلت طريقة استجابة العقل للعاطفة: من أسلوب المناظرة مع الآخر (كما في «زينب» وروايات المنفلوطي التي جاءت بعدها) إلى أسلوب المناظرة مع الذات (كما في مشروع جرجي زيدان) وهو من المشاريع المظلومة. والعدل يقتضي تصحيح الصورة. أن نعترف بدور جرجي زيدان في الريادة، وتحرير ذاكرتنا من الأفكار الجاهزة. وبالمقابل أن نضع المنفلوطي في سياقه التاريخي ونقر بخدماته من ناحيتين.. كشف عيوب أخلاق التخلف.. وكشف مصادر مؤلف «زينب» فقد كان جريئا بما فيه الكفاية ليعترف بصوت مسموع أن سرديات التنوير هي تمصير وتعريب، وأن دورنا ينحصر بالدوبلاج، أو نقل الأفكار والأدوات.
لقد كانت الرواية هي العلامة المكتسبة التي دلت على تعميق خط تحرير مجتمعنا العربي من نفسه، والإيذان بدخول المجتمع العالمي (أو عصر الحداثة). إن روايات المنفلوطي ما هي إلا حلقة إضافية من اختراق أوروبا لقوانين عالمنا. فبعد البارود والمطبعة كان لا بد من استبدال القوالب العربية للخيال، بقوالب وصور فرنسية. وبالنظر لتاريخ نشاط المنفلوطي (توفي عام 1924) نستنتج أن مشروعه التلفيقي وئد يوم تأسس مشروع لورنس.
5 ـ العلاقة بين الرواية العربية ومصادرها علاقة جدل تاريخي. وهي جزء من ظاهرة صراع الأجيال، وليس نفي المصادر. وربما تبدو لنا الرواية المعاصرة مثل ولد يتيم، أو كائن غير مسمى يبحث لنفسه عن مكان وحدود لتجربته. ومثل هذه البنية مختلفة عن تجربة العقل اللاتيني الذي يقوم على فكرة المغالبة. ويمكن أن تفهم من ذلك أن المضمون في الرواية العربية تحرري، لكن الأساليب بعيدة عن ظواهر التكوين (جينيتيكوس) التي يميل لها العقل اللاتيني بطبيعته (وبالمعنى الذي تكلم عنه لوسيان غولدمان/ التكوينات الاجتماعية وليس الطبقات – صراع الأضداد وليس النزاع على مصادر الثروة). وبودي القول إن المشروع العربي الحديث، ولد مع سردياته، وهذا لا يلغي عروبة المشروع وشخصيته، بقدر ما يؤكد حقيقة لا يمكن التغاضي عنها. أما كل ما سبق ذلك من محاولات فقد جاءت للتعبير عن مصير هجرة الكفاءات والعقول، وتبرمها مما يفرض عليها من تعليمات محرومة من الحس التاريخي ومنطق التطور.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول شكيب كاظم:

    قرأت مقال (الرواية العربية والبدايات) للناقد والكاتب السوري – الذي أحترم منجزه- صالح الرزوق، وقد وجدته في مقاله هذا يخبط خبط عشواء، وما هكذا تقدم والأفكار،التي قد يستند عليها الآخرون، فالجنرال ادموند اللنبي ما كان قائدا للجيوش العربية، أثناء حرب تحرير فلسطين سنة ١٩٤٨،بل كان قائدا للفصائل البريطانية في جهات فلسطين أثناء الحرب العالمية الأولى، وما كان توماس إدوارد لورنس مرشد الثورة على العثمانيين سنة ١٩١٨،بل كان فردا في الرهط المرافق للأمير فيصل بن الحسين، ناعيا على الدارسين إنكار الدور الريادي لجرجي زيدان، في نشأة وتطور الرواية العربية، وتسجيل شرف الريادة لمحمد حسين هيكل صاحب رواية (زينب).
    اقول إن زيدان بأسلوبه الراديكالي- كما يصفه الأستاذ صالح-قد كتب الرواية المستقاة من التاريخ العربي الإسلامي، فهو أقرب إلى المؤرخ منه إلى الروائي، فضلا عن أنه ما ترك منقصة أو مثلبة إلا وألصقها بهذا التاريخ المسكين، ناهجا نهج المستشرقين المتعصبين الكارهين.

  2. يقول شكيب كاظم:

    ثم ماهي علاقة لورنس بالرواية العربية،كي نحشر كتابه ( أعمدة الحكمة السبعة) في هذا المشروع السردي؟ فهو أجنبي وكتابه في التاريخ، وليس رواية.
    وأخيراً ما شأن لورنس بوأد مشروع المنفلوطي بتقديم روايات أجنبية بتصرف؟ فلا يكاد يجمعهما جامع،فلكل شأنه ولا يكاد يساورني ريب أن لورنس حتى لم يسمع بالمنفلوطي،بله أن يءد مشروعه!

إشترك في قائمتنا البريدية