الرواية الناجية من ثورات الزمن الجديد

حجم الخط
1

ما نقرأه من ذاك الشعر المنتشر على الفيسبوك لا يعجبنا، نراه ارتجاليا ومبتدئا وأقل مما تسعى إليه ذائقتنا، لكنه مع ذلك لا يتوقّف عن لفت أنظارنا. ذاك لأنه يبدو فاعلا ومستمرا وملاقيا كل يوم مؤيدين جددا. في مقال في إحدى الصحف ذُكر أن المجموعة التي تتشكّل منها حلقة أدبية فيسبوكية واحدة، جاوز عددها الثلاثة آلاف. وهناك مجموعات أخرى لا تكاد تتأسس حتى تصير لها مواقعها وجوائزها ونقادها. النصوص الشعرية التي تُنشر على ما يسمى «الصفحات» تظهر مترافقة مع التعريف النقدي بها، أو مع قانونها أو دستورها. هذا النشاط الفائض في فتح باب جديد للكتابة تزامنه قلة المهتمين بالشعر الذي عرفناه واعتدناه، حيث يكاد حضور أمسياته يقتصر على من يمكن عدّهم على أصابع اليدين، ثم هناك الإقبال على القراءة، بالمعنى الذي عرفناه أيضا، وقد تراجع إلى حدّ أن عيسى، صاحب مكتبة نيسان، قال لي أن اثنتي عشرة مكتبة في منطقة رأس بيروت أقفلت، ولم يزد ذلك من الإقبال على مكتبته، التي هي في رأس بيروت أيضا، بل انخفض الشغل فيها إلى نحو عشرين في المئة.
لا يعجبنا الشعر الجديد الذي، كما ذكرت، أسرع إلى بناء مؤسساته المرافقة، لكننا نخاف أن ينتصر الزمن له، أن يتكرّس ويسود على حساب سابقه، ذاك أن الأمزجة، حين تعمّ، ليست في حاجة إلى حجة تتذرع بها. نخاف، مثلا، أن يُحفظ الشعر الذي ما زلنا نراه حيا في الأرشيف، وفي الدراسات الأكاديمية، كما علّق متخوّفا أدبيٌ في إحدى الصحف العربية. كان الشعر العربي قد توقّف عن أن يكون حاضرا في الأذهان، وفي التذاكر الشخصي والاجتماعي عند الجيل الذي تلا جيلنا. وها نحن، جماعة الأدب، مَن قضينا أوقاتا طويلة في حفظ الشعر والترنّم به، نبدو كأننا نملك إرثا غير قابل للاستعمال. ودائما أتذكّر ذلك السؤال، السابق لأوانه على كل حال حيث كنا آنذاك قد تخرجنا لتونا من الجامعة، قال لي صديقي حسن عبدالله آنذاك، مفاجئا إياي بطرافته: «ماذا تنوي أن تفعل بهذا الشعر الذي حفظته؟».
ولتغذية مخاوفه ينتبه واحدنا إلى أي حدّ يتعلق، هو شخصيا، بهاتفه المحمول. لا أحد منا يستغرق في قراءة كتاب مثلما يفعل حين يروح يقلّب تلك التطبيقات على شاشته الصغيرة. إنه هنا متعلّق بما يفعل، حتى ليخاف أن يأتي أحد أو يحدث شيء يخرجه من استغراقه، إنها متعة خالصة، وإن رافقها بعض إحساس بأن في أكثر ذلك مضيعة للوقت. لكننا في أحيان نجد في ذلك تثقّفا، أو أن من بين ما يسلّي وما يضحك وما يُشوّق وما يثير الفضول هناك شيء يستحق أن يُقرأ، بالمعنى الذي نعرفه للقراءة. لكن، مع ذلك أو من دونه، هل من شيء أكثر إمتاعا وأخذا للنفس من أن يتاح لنا التنقّل بين كل ما عددت أعلاه، أي التسلية والإضحاك والتشويق وإثارة الفضول وتلقي الرسائل الشخصية، ومعرفة ماذا جرى في البلد وفي العالم، لحظة بلحظة، هل من شيء أكثر إمتاعا من ذلك؟ لكنها المتعة التي لا نتوقف، رغم ذلك، عن إدانتها. أخاف مثلا، وأنا أقرأ تعليقات لكتّاب أحبّهم، بعدد كلمات لا يتعدى العشرين أو الثلاثين، أن أكتفي من تجاربهم بهذا القليل الذي قرأته. أخاف أن أقتنع بأن هذا القليل منهم، تلك الكلمات العشرون أو الثلاثون، تكفيني ولا حاجة بي لمعرفة المزيد. كما أخاف أن يُختصر الأدب ويُضيَّق إلى حدّ الاكتفاء باللمح به، على ما رأى البحتري، بين ميزات أخرى، معتبرا إياها ميزة الشعر.

الرواية تبدو، الآن، ناجية من هبّات التواصل الاجتماعي العاتية، بل ربما يخطر لواحدنا أن يقول بأنها تزدهر بسبب من هذه الهبّات وبتأثّر منها.

لا أعرف إن كانت الرواية مهدّدة هي الأخرى، هل يسود ذلك النوع الذي أطلقتْ عليه مجموعاتُه تسميةَ «القصة الومضة» فينصرف إليه القرّاء، ولا أقصد الكتَاب، كتاب الرواية، طالما أنهم، بالترافق مع انتشار الأدب الفيسبوكي، باتوا كثيرين، أضعاف ما كانوا عليه في الأزمنة التي سبقت. ربما زاد ما يصدر من روايات عربية عن الألف في كل عام. فلا تفتأ الرواية تضم إليها كتّابا جددا. ولا أقصد هنا الكتّاب الشباب الذين يصدرون كتابهم الأول، بل أيضا أولئك الذين استداروا نحو الرواية بعدما كانت صدرت لهم مجموعات شعرية عديدة. ثم، ولنضف إلى هؤلاء، أفراد في منتصف العمر دعتهم الرواية، وإن متأخرة، إلى أن يكونوا كتّابا روائيين. أي أن الرواية تبدو، الآن، ناجية من هبّات التواصل الاجتماعي العاتية، بل ربما يخطر لواحدنا أن يقول بأنها تزدهر بسبب من هذه الهبّات وبتأثّر منها. وإلا كيف لنا أن نفسّر ذلك التقدّم المتوازي بين التواصل الاجتماعي والرواية؟ أعرف أن من الممكن لهذا الافتراض أن يقود إلى ما لا يمكن حصره من النقاشات ووجهات النظر المتغايرة، سواء من قبل رافضي هذا الافتراض أو من جهة القابلين به، لكنه، بَدءا، مجرد ملاحظة جديرة بالانتباه.
تبدو الرواية ناجية حتى من دون أن تتنازل، في نظامها وبنائها، لصالح ذاك الميل الجديد إلى الخفّة والسرعة والاكتفاء بالأقلّ، ذلك الإغراء بالحرية الذي تتيحه الكتابة الفيسبوكية، والذي منه أن يكون المدوّن هو الكاتب وهو محرّر نصّه وهو ناشره في وقت واحد معا، ذلك الإغراء إذن لم يستدرج كتّاب الرواية إليه. لم نكن نعلم ماذا كان يعني ميلان كونديرا، التشيكي الفرنسي، حين قال إن على الرواية أن تستمر في الحفاظ على العناصر البنائية التي تكمل بها سلالتها. ظننا آنذاك أن ذلك من قبيل المحافظة والرجعية. الآن نعود إلى ذلك واضعينه في نطاف النبؤة المبكرة، بل ربما كانت الرواية قادرة على احتواء ما يتولّد عن هذا العالم الجديد وإدراجه في مجالات سردها، كدت أصفق بعد مشاهدتي لفيلم «هير» الذي بدأه سبايك جونز نصا مكتوبا.
النص، ثم الفيلم، يعالجان مسألة تتعلّق بمستقبلنا إزاء العالم الافتراضي وليس بحاضرنا فقط. ولم يكن ذلك بافتراض متخيّل، بل بنتيجة تتبع سياقي، علمي وإنساني معا، لما قد يصل بنا إليه ذلك التطوّر. ما أعجبني في هذا النص، أكرّر، ثم في الفيلم من بعده، هو قدرته، وهي قدرة الكتابة الباقية على احتواء ما يستجد في هذا العالم.
في ما خصني، ككاتب رواية، هو أن التهديد المستمر بأننا دُفعنا، هكذا فجأة، إلى أن نكون كتابا من الماضي، قد تأخر مع عمل سبايك جـــونز هذا، أو تأجــــّل. أعــــرف أن هذا لا يريحني من الشعور بوطأة ذلك التغيّر الكاسح الذي أركض متعثّرا وراءه، محاولا الالتحاق به، ولا أستطيع.
الصديق الروائي رشيد الضعيف قال مرة إن على باب الاجتهاد أن يُقفل في مجال التكنولوجيا هذا. ذلك من أجل أن يهدأ الراكضون قليلا، من أجل ألا يظل هاجما ذاك الذي لم يتوقّف عن إشعارنا بأن ما ننجزه قديم، وإن ما أُعطي لنا الآن لا يعدو كونه مهلة أخيرة.

٭ روائي لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام حيدر:

    هناك شاعر جاوز السبعين وهو بصدد نشر عمله الروائي الأول!! شيء معيب ومقرف حقاً.. ولا شيء يفسره سوى الجشع. وكان الله في عون الكتاب الحقيقيين الذين يتوجعون من مآل الحال الذي آلت اليه حرفة الكتابة، وضمنهم كاتب المقال الأستاذ داود الذي أمتعنا وآلمنا بمقاله هذا.

إشترك في قائمتنا البريدية