ليس المقصود بالرواية النسوية السمة الإبداعية التي تنجزها امرأة كاتبة تُوكل لها مهمة نصرة الصوت الأنثوي وتُلقى على عاتقها عملية تعزيز هذا الصوت، وتوكيد إمكانياته وقدراته، بل المقصود السمة الإبداعية التي تنجزها ذات كاتبة، رجلًا كانت أو امرأة انحيازا للصوت النسوي، ودعما لهويته وإثباتا لوجوده.
صحيح أن الذوات المؤنثة التي تنتج الرواية النسوية هي الأعلى نسبة من الذوات المذكرة؛ بيد أن ذلك أمر طبيعي، فالكتابة النسوية لا تقتضي من المرأة ما تقتضيه من الرجل، مهادنةً وانصياعا وإخباتا وإذعانا وما إلى ذلك من المقتضيات التي هي عزيزة الشأن على الذكورة، التي أمضت عصورا سحيقة، وهي تؤسس لصرح هيمنتها العتيد، حتى احتلت القمة بلا منازع أو منافس، فلماذا إذن تتنازل وتهادن؟ ثم أليس عسيرا لميزة اتخذت وسيلة للتغييب والإقصاء أعني الأنثوية، أن يُسمح لها من جديد بالنهوض والانبثاق؟ ألا يعني ذلك دعما ستنتزع المرأة به الشرعية التي ستكافئ بها أنوثتها، وتعلن عن نسويتها معادلا موضوعيا يوازي أو يضاهي الأبوية؟
يذهب بعضهم إلى عدِّ النسوية في الأساس مقترنة بالانثوية، كسمة مدارها الجسد بمفهومه البيولوجي، وموضوعها الجنوسة بمعناها النوعي
قد يذهب بعضهم إلى عدِّ النسوية في الأساس مقترنة بالانثوية، كسمة مدارها الجسد بمفهومه البيولوجي، وموضوعها الجنوسة بمعناها النوعي/ الجندري، وهذا ما يجعل أي مباركة للنسوية من قبل الرجل، إنما هي إعادة للوضع التقليدي في النظر للمرأة عموما، والكاتبة تحديدا، من منظار إتباعي سلفي، يرى المرأة معرضا أو فاترينة للاستهلاك، وليست إنتاجا دائما للقيم، وكيانا ابستمولوجيا يتصف بالوعي والاستقلال. ويقينا أن تأكيد هذه القيم وإثبات ذلك الكيان لن يعني انتفاء السبق عن الرجل تاريخيا وحسب، بل هو أبعد من ذلك كونه يرتهن باستشراف المستقبل الذي لن تكون الذكورة معه ممتلكة الهرم. هذا إن لم تكن أقل اقتدارا في امتلاك الحاضر أيضا. بذلك تظل النسوية في إطار الفهم الراديكالي الأبوي، متصفة بالدونية الجسدية والاستلابية الجنوسية، ليظل العار والمرض والتشويه والجنون والبشاعة والنكبة والاختلال والاستضعاف، معاني لصيقة بها، وهي أيضا معايير تقولب فحوى الجسد الأنثوي وتستضئله، مرة في التحريم للتابوات، ومرات في التكفير عن الخطايا، وبهذا تصبح النسوية قربانا تغيّب عبره الأنثوية لصالح الذكورية.
والنسوية عديلة الأنثى وقرينة كل الأفكار التي تُشيد بالمرأة وأنوثتها، وتأبى أن تشبهها بالرجل، بل تقرّ لها بالحدس والعاطفة، كما تقول سيمون دي بوفوار، وبذلك تغادر المرأة الرؤية السائدة التي تصفها بأنها صنيعة الرجل وتابعته، وأنّى له ذلك؟ أليس هو الذي زيّف تاريخها، وغيّب كيانها، وجعلها تكتب باسترجال مصورة بنات جنسها بالشكل الذي يرضي غروره، وليس بالشكل الذي تريده هي لبنات جنسها وتطمح إليه. والسبب هو الخشية الأبوية من أن تستعيد الأنثى دورها الأمومي الذي هو الأصل والمنبع والأرومة.
إن تساؤلات كثيرة يجدر طرحها حول النسوية، قبل الدخول إلى عالم الرواية من قبيل: متى ستكون للنسوية القدرة على اختراق حصون الذكورية، والإفادة من نقاط ضعفها؟ وهل ترتهن النسوية بتحرر المرأة تحررا كاملا لكي تستعيد وجودها الحقيقي؟ وهل صحيح أن فاعلية المؤنث ستتوكد فقط في أوقات تفكك المجتمعات؟ أيكون تحررها وقفا على فكرة النقض لفرضية تابعيتها للرجل؟ وكيف ينبغي أن تتعامل المرأة الكاتبة مع الجسد الأنثوي أتتركه حرا في غواياته، مستقلا عنها في مركزيته؟ أم تمسكه بقبضتها وتتسيد عليه؟ وبماذا ستتمشكل النزعة النسوية وهي تستنبش أغوار الجسد كتابيا؟ هل ستعبّر عنه بجرأة مخترقة بعنف سلطة الأبوية عبر كتابات لانمطية؟ أو ستظل قاصرة عن الاختراق والاعتراف، متورطة في تأييد السلطة الذكورية جارّة أذيال الخيبة؟ وما مشروع الكاتبات العربيات الذي فيه تتمظهر خصوصيتهن، وتتوكد هويتهن بلا نقص ولا إتباع؟
إن ما يجعل الأجابة عن تلك التساؤلات ليس بالأمر العسير هو الارتكان إلى عالم الكتابة التي بها يستطيع الكاتب أو الكاتبة ممارسة نوع من العنت الإبداعي الذي به يتملص من الحاضنة الأبوية، منتهكا مواضعاتها التسلطية الضاغطة بأنساقها المعلنة، التي هي عادة ما تغتصب النزعة الكتابية المناصرة للنسوية، وهنا ستتجسد إمكانياته /إمكانياتها في إنتاج كتابة روائية توسم بأنها نسوية، تتحدى الكبرياء الرجولي واضعة محله اعتداده/ اعتدادها النسوي. ويسهم النقد النسوي في ترسيخ مواضعات ذاك التملص وهذا الانتهاك والتحدي، ولن تكون مهمة هذا الترسيخ عويصة المنال، إذا ما صمّم الكتّاب والكاتبات على مصالحة الآخر/ الرجل، متكلمين عن الأنثى بخصوصية لغوية تمكنها من مصافحة جسدها أولا، مالكة مفاتيح مركزته آخرا. وعند ذاك ستستوي الذات النسوية فاعلة وواعية وشريكة بلا دونية، وبثقة ليس فيها استلحاق أو انسحاق. أما الفحولة فلن يكون أمامها إلا مغادرة ازدواجيتها، متخطية خطابها الثقافي البطريرياكي الذي يتعاطى الحديث عن المرأة من منظار دوني، ومتجهة نحو خطاب يناصر المرأة ولا يحتفي بها بنسبية، وإنما برؤية تقر لها بالمركزية، سواء في تطلعاتها المستقبلية أو في أداء أدوارها الراهنية. وهذا ما يسعى النقد النسوي إلى توكيده، وليس التبشير به فقط.
أسهمت عوامل الإقصاء والتهميش والمصادرة في مرحلة ما بعد الحداثة، على جعل الأنثوية سمة تكوينية تميز النسوية في تحدياتها التي تخوضها على شتّى الأصعدة
لقد أسهمت عوامل الإقصاء والتهميش والمصادرة مجتمعة في مرحلة ما بعد الحداثة، على جعل الأنثوية سمة تكوينية تميز النسوية في تحدياتها التي تخوضها على شتّى الأصعدة، مؤمنة بأن هذه السمة التي كانت يوما ما سببا في دونيتها وتبعيتها، هي التي ستكون سلاحها الثقافي الذي به تسترد قيمتها، متحصنة بهويتها الواضحة والجلية. وبهذا تحقق الرواية النسوية العربية بعضا من مبتغياتها، ومنها ألا تعطي الحق للرجل في التسيد، وأن تقاومه بشتى صور المقاومة، كالمقاومة المجتمعية بالنضال والكفاح، والمقاومة الذاتية بالإصرار والتحدي، والمقاومة الثقافية بالتميز في التأسيس والتجريب إلخ.
وهنا تبزع كتابة الرواية النسوية العربية كأحد أشكال المقاومة التي بها تستطيع النسوية تحقيق التقوّيض للبطولة الذكورية رافضة مهادنة الأبوية، فلقد صار للمرأة جوهرها الخاص الذي يراوغ الذكورية لكنه لا يدعي الظفر بها، ويعلي من طاقة العنصر النسوي، لكنه لا يغرد خارج الحاضن الثقافي ذي الإطار الانفتاحي ما بعد الحداثي. فلقد صار للنسوية العربية كيانها الثقافي الذي يموضع الكتابة أداة للتحريض والاستنهاض والانتفاض والتأجيج، وهكذا لن تكون هدى شعراوي أو صبيحة الشيخ داود أو نوال السعداوي نماذج فريدة لن تتكرر أو تجارب لن تُجارى مستقبلا، بل ستغدو الكتابة النسوية هي الفضاء المشبع بالاستقلال والحيز الإبداعي الذي يعري الفحولة في سطوتها الثقافية، كي تتنازل عنها لصالح النسوية.
وتشهد الرواية النسوية العراقية تقدما واضحا أخذت فيه الكتابة الروائية تتخلى تدريجيا عن مواضعات كانت قد استقرت كمثابات دغماطية لا تقبل الجدل في العقود الثلاثة المنصرمة، لتتجاوزها باتجاه المناهضة والمواجهة والتعرية موازية شقيقاتها من الروايات النسوية العربية، التي قطعت أشواطا مهمة باتجاه التحرر من قيود الأبوية والنأي عنها، محاولة بناء منظومة ثقافية لعلها تتمكن من موازاة الأبوية التي طالما تمكنت من قبر هذه المحاولات وإجهاضها، لكن النسوية اليوم أقدر من قبل في إثبات جدية محاولاتها لسبيين:
الأول: المرحلة العولمية التي زالت فيها الحواجز وتماهت فيها الأعراق والأجناس والألوان في أدق تفاصيلها.
الثاني: الموقع المتقدم الذي استطاعت المرأة أن تتبوأه في عالم الكتابة الروائية العربية.
واليوم صار النقد الروائي يحسب لهذه الرواية أكثر من حساب، حتى إذا أحصى أدخلها في إحصاءاته، وإذا استقصى لم ينسها. وهذا لم يكن محض صدفة عابرة أو فذلكة زائلة، أو تصنع وقتي طارئ. وإنما هو خلاصة جهد وعطاء بذلت عبرهما هذه الرواية قصارى طاقتها من أجل أن تثبت أنها جنس سردي، لا يريد امحاء الآخر أو إلغاءه سلبا وظفرا؛ وإنما مقصده التمركز كتفا بكتف والمساواة شأنا بشأن والانفتاح روحا بروح، وبهذه المزايا استطاعت الرواية النسوية العراقية أن تثبت وجودها الأجناسي غير متوانية ولا مستمكنة ولا متعصبة أو موالية.
وإذا أردنا أن نحدد التأسيس الفني للكتابة الروائية النسوية في العراق فسنجده يعود إلى الربع الأخير من القرن الماضي، لكن العقدين الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين شهدا بروزا واضحا في تبني أجناسية هذه الرواية، لكن ما بال هذه الرواية اليوم؟ هل تُراها وصلت إلى نضجها الفني؟ لقد استطاعت الرواية النسوية في العراق أن تتقدم سرديا ونقديا إلى حد ما وهي تحاول أن تتجاوز مراحل النمو، ممتلكة بنيتها السردية المستقلة، التي يمكن التأشير إليها بالبنان وتحديد مناطق افتراقها وتمايزها عن البنية السردية الذكورية. وما زال أمام هذه الرواية الكثير من الأشواط التي ينبغي أن تقطعها كي تدخل منطقة النضج والثبات لأسباب كثيرة، منها أن المرأة الكاتبة ما زالت تهيمن عليها اللغة الذكورية، لذلك يغدو النزوع الأنثوي عندها متواريا بعض الشيء وقد يظل مقموعا، وإذا أرادت التجرد من هذه اللغة توجب عليها أن تبني قاعدة من التجديد والتجريب، متجردة من الاحتذاء والتنميط داخلة إلى منطقة التدشين والتوليد، مقاومة الصمت والانزواء والإقصاء والامحاء وهكذا تبزغ كينونتها غير مسكوت عنها، مضيفة إلى سجل السرد العربي المعاصر صفحة جديدة تدل بوضوح على تطوره وتقدمه.