على قدر ما في الروايات من متعة وتشويق؛ على قدر ما تحمل في طياتها الأسلوبية ومتنها السردي؛ الكثير من المعطيات والإشارات الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية، بل إن السرد – قاطبة – بمثابة وثيقة أدبية تكشف عن نفسية مبدعها الفردي، والفضاء المجتمعي الذي خرجت منه، وتعبر عنه، وتتوجه إليه بوصفه دائرة التلقي الأولى لها.
وقد تناول هذه القضية الناقد الإنكليزي باترِيك بارندر في كتابه “الأمة والرواية: الرواية الإنكليزية من بداياتها حتى الوقت الحاضر”، حيث انحاز إلى هذا الدور التنويري قائلا: إن الروايات قصص عن الناس العاديين، وليس عن الملوك والأمراء، ولا يوجد روائيون للبلاط، أو ناثرون للبلاط، وهناك آثار ودلائل عديدة عن علاقة الرواية بالدولة والسلطة المدنية، لأن القصص النثرية تبقى عملا بعيدا عن أعين الآخرين. وكثيرا ما يصور الروائيون أجهزة الدولة تصويرا نقديا ساخرا، أو من وجهة نظر مناهضة. وهم قد يخاطبون الشعب، ولكن من النادر أن يأخذوا على أنفسهم الحديث نيابة عن الشعب. ويؤكد أن للروايات تأثيرات قوية في مفاهيمنا الخاصة بالمجتمع وبأنفسنا، على الرغم من عدم اعتمادها على سند رسمي، فقراؤها هم مصدر قوتها، لا أجهزة الدولة الثقافية، فاعتماد الروائي على تجربته المباشرة وتفاعله وخبراته مع الناس.
وتلك رؤية تخرج الرواية من دائرة التسلية إلى دائرة الاستنارة والانحياز للبسطاء والمهمشين والناس العاديين، هؤلاء الذين لا يجدون ملاذا للتعبير المقروء عنهم سوى في الروايات، حيث يعبر الروائي عن آلامهم، وآمالهم، وموقفهم من السلطة وأجهزة الدولة، فكأن الروائي أشبه بالكاميرا المتجولة، تسجل تفاعل الجمهور ومواقفه مع السلطة، وأيضا مختلف القضايا التي تشغل باله، وبعبارة موجزة، إن الرواية تعبر عن الإنسان العادي: موقفا، ورأيا، واتجاهات، ومشاعر. لذا، فإن بارندر يعيد تفسير مصطلح الرواية، ويقرنه بالحداثة، أي التجديد، معللا بأن دلالة كلمة Novel في اللغة اللاتينية تعني الأخبار. ومن ثم يقيم مقارنة بين الرواية والقصص الشعبية، موضحا أن أبطال القصص الشعبية وجنيّاتها لا يتغيرون أبدا، بغض النظر عن عدد المرات التي تروى فيها قصصهم. أما الرواية، فلا بد أن تكون جديدة، مثلما يجب أن تكون جريدة اليوم، مختلفة عن جريدة الأمس. والشخصيات في الرواية تعيش وتموت، وكل قصة تقدمها الرواية، لا بد أن تكون جديدة، وإن تشابهت مع نمط معروف من القصص.
وهذه رؤية مضافة إلى مفهوم الرواية، ويجب أن يعيها كل روائي، فقد تخلّص من مفهوم الحكّاء الشفاهي التقليدي، الذي عليه أن يعيد الحكاية مثلما سمعها عشرات المرات، دون تغيير فيها، ولكن مفهوم بارندر يتلاقى مع المقولة الفلسفية الشهيرة للفيلسوف اليوناني القديم هِرَقْليطُس، القائلة: لا يخطو رجل في النهر نفسه مرتين أبدا. والمقصود أن الوجود في تغير دائم، باعتبار التغير هو جوهر الكون، حيث نجد كل شيء في الوجود في صراع وتغيُّر دائمَين، فما من شيء إلا وهو في صراع مع الضدِّ المقابل له، وما من شيء إلا وهو في صيرورة متصلة وتحوِّل مستمر، ونهر الحياة يسيل على الدوام؛ فنحن لا ننزل فيه مرتين. ومن العبث أن نتشبث بالموجة؛ إذ لا تلبث أمواجٌ أخرى أن تجرفنا، ولا يلبث تيار الماء أن يتجدَّد تحت أقدامنا.
وبالنسبة إلى الرواية العربية فقد سلكت مسلكا مختلفا عن الرواية الأوروبية، حيث استطاعت أن تنهل ـ ولا تزال – من الإبداع الغربي، وسرعان ما أنضجت خصوصيتها، وصاغت عوالمها الروائية المعبرة عن حالة الإنسان العربي، وصولا إلى مرحلة التجديد والتميز، الذي جاء في أبعاد مختلفة، منها ما امتاح من الإرث السردي العربي، ومنها ما وظّف الأسطوري والفولكلور، ومنها ما اتخذ من التاريخ قناعا، ما أكسب الرواية العربية خصوصية، وجعلها في حالة تواصل مع التاريخ في شخصياته وأحداثه ووقائعه، ومع التراث السردي والشعري والصوفي، والفولكلور: السير والأغاني والفنون الشعبية، مما يشكل استمرارية لهذا الإرث الكبير، وإعادة إنتاج له.
يضاف إلى ذلك ما طرحته الرواية العربية من قضايا وقيم ومبادئ إنسانية مشتركة، جنبا إلى جنب مع تقديمها حال الإنسان العربي وخصوصية مجتمعه وثقافته، وإذا أحسن الروائيون العرب تقديم قضايا العروبة في رواياتهم، فإنهم بذلك يكونون خير سفراء في نشر الوعي العالمي بقضايا العرب، فشتان ما بين رواية يقرأها عشرات الآلاف أو ملايين، وكتاب نخبوي قد يقرأه قليل القليل.
ومن هنا نقرر، أن أي قراءة لنهضة الأدب العربي الحديث لا بد أن تتوقف بالفحص عند الرواية العربية، فنحن لدينا عصر أدبي نهضوي يختلف عن عصور الأدب العالمية، ومن المهم أن يكون السرد الوجه الآخر له، مما يتطلب أن تشمل الدراسات الأدبية كل المنتج الإبداعي العربي: شعرا ونثرا، سردا ومسرحا وفنونا، لتكتمل الصورة عن عصر النهضة، وندرك أننا لسنا تبعا للمركزية الغربية، وإنما أخذنا منها أفكارا ومذاهب وأشكالا، وهذا ضمن التلاقح الحضاري والتثاقف المعرفي، وقد نجح الأدب العربي الحديث من التحرر من وهم التبعية والإحساس بالاستلاب، من خلال الإبداعات الفذة التي أنتجها، وجعلت من مبدعيه نجوما وكتّابا للإنسانية.
وعلينا أن نضع في الحسبان أن الرواية العربية ما كانت لتقوى ويشتد عودها، إلا بوجود حركة تلق واسعة، وجمهور عربي ذوّاق للرواية، وأيضا وجود روائيين مبدعين، تفهموا ذائقة الجمهور وحاجاته، وصاغوها في نصوصهم الروائية، فلا بد من وضع قضية التلقي في الحسبان عند أي نقاش نقدي، علما بأن الإبداعات السابقة أوجدت جمهورا عريضا. كما أن هناك جناحا مهما من الإبداع الروائي، مكتوبا بغير العربية، وقد عبّر عن هموم الإنسان العربي وقضاياه، وأيضا عبّر عن مشكلات الأقليات غير العربية التي تعيش في التخوم أو في البلدان العربية، وتحمل الثقافة العربية والإسلامية، مع خصوصيتها الثقافية، وعلينا الالتفات إليه، كرافد أساسي لنهر الرواية العربية.
وختاما، نؤكد أن الرواية العربية عكست المركزية الثقافية العربية، من خلال لغتها وعوالمها السردية، وأبرز ما يميز الثقافة العربية: مرونتها وانفتاحها على الآخر الحضاري، واستنادها إلى رصيد تراثي ضخم، به كم كبير من الإبداعات السردية، وهو شعور وفكر، حبذا أن يعيه كل روائي عربي، ليتعامل مع الآخر الحضاري باعتزاز وندية وتفاخر، وهذا لن يتحقق إلا بقتل تراثنا اطلاعا وتذوقا وبحثا.