الرواية بين سخرية الواقع والخيال

كنت عابرا شوارع المدينة، وعند محل أسفل إحدى العمارات، نظرت إلى وجه أحدهم، دون أن يعني لي شيئا، لكن بعد عدة خطوات سمعت صوتا يناديني، فإذا بالوجه المصادر من ذاكرتي قبل ثوانٍ هو لأحد الأصدقاء القريبين من قلبي، عدت أدراجي وضحكنا لما أخبرته أن قبل هنيهة لم يكن وجهه في مجال عين الواقع، لم أر فيه ولا جزئية تذكرني بكائن أعرفه، أدركت حينها أني كنت أعْبُر الواقع بواقع الخيال. أخبرت صديقي بعدها بخبر قراءتي لرواية مندمجا مع رؤى الكاتب، إلى درجة أنني في نهاية الرواية انفصلت عن الحكاية وقرأت النهاية بما ثبت في وعيي من البداية، إلى أن التقيت أحد الأصدقاء ممن قرأ الرواية نفسها، وأثناء حديثنا ورد ذكرها واختلفنا حول طبيعة الشخصية الرئيسة، ما اضطرني إلى إعادة قراءة النهاية، فأدركت أني وُجهت بأطروحة الكاتب، ورحت أقرأ بوعيه، وحاولت الجمع بين اللحظتين، لحظة واقع الخيال الذي تحركتُ به في المدينة وتجاوزي الخيال في الرواية مأسورا بمخطط «المكر الحكائي».

الرواية والواقع

إمكانية أن يكون الواقع رافدا أساسيا للرواية، ليس بمعنى أحداث الواقع، فذلك شيء مؤكد في انبثاق العالم الروائي، لكن القصد هو أن حدثا لحظيا مفاجئا يكون سببا في تفجير أحداث رواية لم تكن على البال ولا على الخاطر، يتأسس كعثرة عرقلت مسار الكاتب، لكنها كانت منتجة على مستوى الوعي والخيال. انطلاقا من هذه الرؤية يمكن القول، إن الرواية محايثة للواقع باعتباره أحد العناصر التي تدخل في تشكيل النسيج الروائي، إذ بمجرد مواجهة تلك اللحظة المفاجئة تُحال بطريقة لا واعية إلى الروائي، الذي يتحرك أيضا وفي لا وعيه ترصد قائم باقتناص أي فرصة، ربما تكون بقعة ضوء لإنارة بؤرة تخييلية، فالرواية تأخذ من هذا الزمن الفجائي للحدث اللامتوقع مشاهد لخرق أفق توقع القارئ باعتبارها «لحظة وعي جمالي» تشكلت على إثْرِ حركة غير متوقعة.
ما يحدث لحظة عثور الكاتب على عنصر المباغتة في «واقع الواقع» الذي وقع قرار تحويله إلى عنصر انطلاق عالم روائي بأحداثه وأمكنته وشخوصه، في هذه اللحظة بالذات ينخرط الكاتب في صراع مع الأشياء، أو مكونات العالم الروائي، فالوجود المكاني الواقعي يقفز به فجأة إلى الوجود المكاني الخيالي، ذلك الذي كنت أسير فيه غائبا عن الواقع، حتى لم أعد أرى ما هو قريب مني، ثم عند رجات الواقع، يعيد العالم الخيالي الكاتب إلى العالم الواقعي، وضمن هذه الانقذافات ينبثق المكان الروائي، الذي وإن كان واقعيا، فإن وروده في الرواية يعطيه بعدا سحريا ناتجا عن رؤيته في الحد الفاصل، بين عالم الواقع وعالم المتخيل، وهو ما يدهش القارئ الذي يرى الأمكنة الأليفة بصورة أخرى وهي تنقال باللغة وبسحر ما، لا يستطيع الوصول إليه سوى الروائي العالق بين الرواية والواقع.

واقع الواقع وواقع الخيال

كيف لحدث عابر، كما الذي سردته سابقا يجعلني أفكر في الرواية وليس شيئا آخر غيرها؟ التفكير في الرواية ليس بعيد عن التفكير في الواقع، لأن الرواية لا يُفكر فيها ولا تُكتَب إلا بمعطيات هذا الأخير، سوف لن يجلس الروائي ليحيك سدى حكاية غير موجودة تفاصيلها في الذهن، تلك التفاصيل التي وإن كانت غير مكتملة وفيها فراغات، إلا إنها تمثل طبيعة العمل الروائي الذي يكمله خيال الكاتب ويضيف إليه من العناصر ما يجعل الواقع فيه مشمولا بالخيال، لأن الكاتب حقيقة واقعية تتحرك في العالم برؤى متخيلة، تُسكب على الوقائع فتحيلها أحداثا منبثقة من وعي الكاتب الموزع بين لحظتين مندمجتين تقريبا، لحظة يرى فيها الأشياء كما هي، ولحظة أخرى مندمجة في الأولى تنفذ إلى عمق الشيء، فترى فيه ما لا يراه الآخرون، هو هذا المفصل الذي يهرب الوعي من مستوى لغة اليومي إلى مستوى لغة الفن، لأنه مرتبط بلحظة غرائبية، حتى بالنسبة للكاتب الذي يجهل مصدرها، فالرواية هي نتاج هذه العجائبية التي تلعب على محو المصادر وتوتير لحظة الفعالية الإنتاجية، وتبئير الوهج الذي يذيب المعقولات في رؤية الواقع حتى ليبدو كما الهالة السماوية، وهي تنقشع لزمن يقترب من العدم فقط لتعلن عن نفسها في كون يتسع لمليارات الحقائق الشبيهة في وجودها بالعدم، لأننا فقط لا نمتلك الإمكانية لإدراكها، فوهجها يوسع الكون ويضعه في مجال إدراكنا اللامعقول، أو السحري، تلك هي حكاية الرواية في مجال المتخيل والروائي الذي يجوب العالم الواقعي بذهن المخطوف.

الرواية باعتبارها سؤال وجودي

يستغرق العالم الكاتب إلى درجة أنه ينسى أشواقه الإبداعية، فمتطلبات الحياة تفرز ضغوطا تجعل من المبدع حالة من حالات الخضوع للاستهلاك والانتهاء عما هو سؤال الوجود، لا باعتبار طبيعته الفلسفية، لكن كونه جسرا يعبر بالعقل نحو استفهامات الفرق بين «القطِيعِيَةِ المُطيعة» و»الإنسانية المتمردة» وما بين الطاعة والتمرد تنخلق الأشكال الأشد استفهاما وإحراجا للعالم الذي أوقع الإنسان في ورطة الضياع والخراب. «الدادائية» و»جيل الضياع» كانا من أعمق الحركات الفنية والأدبية تعبيرا عن البنية الخراب التي أنتجها العقل التدميري، ومن هنا كانت «الرواية الجديدة» التي ظهرت في فرنسا «وليدة ارهاصات امتدت عبر نصف قرن من الزمن أو يزيد، إذ كان لنتائج الحرب العالمية الثانية، أثرها في تحول الفكر البشري» كما يرى مويسي بوسماحة.
إن الرواية تعبير فني عن الوجه الآخر للحياة، باعتبارها حركة تخييلية داخل الحركة الواقعية، مما يكفي كي لا تحدث قطيعة بين إنتاج الرواية والواقع، لأن لحظة النوم الطفولية تمثل التفسير القريب من تحايث الرواية والواقع، فالطفل تغزوه رغبة النوم على وقع «حكايات الجدة» فينساق خياله الصغير إلى التلاشي ضمن كلماتها الساحرة حتى يغلبه النوم، ليستفيق صباحا على أثر ما نام عليه، محاولا بعقله الصغير ربط حكاية الليلة السابقة بواقع الصبيحة الحالية، ومنه ينشد إلى الحياة وفق التخليق التخييلي للواقع، وهو ما يعطيه فسحا أكبر لفهم العالم بقدرات وعيه المتواضع، وهو ما يجب على المنظومات التعليمية أن لا تغفله بتجاهلها منطق الخيال المستمر مع الطفل منذ لحظة وعيه بوجوده.
أسئلة الطفل على وقع حكايا الجدة، تقدم عناصر المعادلة الوجودية المماحكة للواقع ضمن حكاية الإنسان باعتباره حركة تاريخية تنشد فهم الواقع لتغييره، ومن هنا كانت الماركسية في أحد جوانبها وعيا للحركة في التاريخ، «لا يكفي فهم العالم، يجب تغييره» فالطفل هو البداية، والجدة هي الذاكرة في نهاياتها التي تمد خياله الصغير بـ»الحكمة الوجودية» التي اعتصرها تاريخ من الألم والأمل، ولا تخرج كتابة الرواية عن فكرة إنتاج «القصة الوجودية» ضمن معايير «الوجود – في – العالم» أي ذلك الوجود الذي تُشكل التجربة أساسه الفاعل ومنظاره الفاحص.

السخرية المنتجة للرواية

«كثيرا ما سئلت عن الكيفية التي تأتي بها مسرحياتي. لا أدري» هكذا يطرح هارولد بنتر الفائز بجائزة نوبل 2005، هذه اللاأدرية الباهرة في إنتاجها للوضع الروائي في الذهن وفي الواقع، وهي نتاج سخرية من العالم نفسه الذي ينتج الرواية ولا يعرف مصدرها منه، فكأنه يدين نفسه من حيث لا يدري، لأن فقدان المعرفة بمصدر الرؤية (الإبداع) هو ضحك على ذقن العالم من حيث وضع الأصبع على الجرح، فالرواية هي الألم الصارخ من العالم والروائي لاشتراكهما في تخليق صورة فنية تدهش من حيث تغري بالتعرية للفهم. ولعلني أعود إلى وجه صديقي الذي أهملته في زحمة الواقع، لأنني كنت أمشي فيه بواقع الخيال، إذ لحظة اكتشافه بأنني لم أتبين ملامحه، ارتسمت في عمق تضاريس وجهه المتخفية علامات ساخرة، لم يكشفها وحدست بوجودها، كيف لم ترني ومررت محملقا في وجهي؟ لكن هذه السخرية مني تخفيها دهشة واندهاش وعناق وعلامات فرح تنطبع على وجهه توهم بقبوله رواية الحملقة في الوجه مع عدم إدراك صورته.
في إطار هذه التناقضات التي تشكلها الأعماق النفسية، تنبثق الشخوص في الرواية من خلال حركة الروائي في الواقع واستكناهه أعماق النفس، من خلال فرضيات يضعها، يصدقها أو يكذبها، ذلك ما تكشفه أطروحاته الفنية في العمل الروائي، الذي تتعثر خطواته بحجرات الوجود في الواقع، وكل مرة يتألم فيها أصبع رجله أو رجله بالكامل، تنخلق صورة أو صور تسائل كينونة الكاتب في أتون واقعه، ليُحرج بدوره بها الواقع، ومنها نستطيع القول بأن الرواية «رؤية للعالم».

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية