ليس هدف الكتابة قول الحقيقة، ولا مطابقة الواقع، وإنما التحريض. ولكن، ما هو التحريض في حال الكتابة الروائية؟ وعن أي تحريض يمكن أن تتكلّم الرواية خارج المكان؟ أي مكان نعني؟ وأي خارج ؟ الخارج مجموعة من العناصر والوقائع والمعلومات والأحاسيس والسلوكات وما شابه ذلك. والرواية، نوع من الكتابة، تواجهه. الكتابةُ الروائية تُواجه الواقعَ المرويَّ، إذن، وليس الواقعَ المرئيّ، أو الواقع الواقعيّ الذي يراه مَنْ ليس روائياً.
الرواية في جوهرها معرفة قبل أن تصير فنّاً. إنها مخيّلة اللاممكن، لأن كلَّ ممكن مستهلك بطريقة عَيْشه. لذلك هي مضطرة إلى البحث عمّا، وعمّنْ، يزيدها وَعْياً وإدراكاً. وهي لا مكان ثابتاً لها، بل من الأفضل أن تغيِّر مكانها عندما يصير غير مُجدٍ. المكان الثابث هو مكان السلطة، فهي لا تستطيع أن تحيا في مكان لا قواعد لها فيه. لكن الرواية تحمل قواعدها معها، ويمكنها أن تتعايش مع أي مكان، طالما يؤمِّن لها حرية الإبداع. وهي عندما تترك المكان الخاوي معرفياً تُبْعَث من جديد. إنها تحيا من التلاقح والتمازج والاختلاف، وليس من التماثل، ولا من «تقديس المكان»، خاصة، عندما يكون هذا « التقديس» مغرضاً، واستغلالياً، كما هي الحال في «تقديس السلطة» المخاتل لأمكنة استبدادها.
نحن لا نتحدث عن رواية مُنْجَزَة، وإنما عن مفهوم جوهري فَعّال لدى من يمارس الكتابة الروائية. الكتابةُ الروائية أغنى من الواقع، لأنها تملأ فَراغات الحياة المهملة بأشياء مبتدعة من الواقع اللامرئي بالنسبة لمن لا يكتب. ولكن أين يكتب مَنْ يكتب؟ ما هو دور المكان في الرواية؟ واذا كنا نعيش في مكان، لماذا نكتب عن مكان آخر، أو منه؟ لماذا يضطر الكائن إلى النأْي عن المكان، إلى هجره، أو استبداله؟ ما هو السرّ الذي يربط الكائن بمكان محدد؟ أهو الميلاد، أم الثقافة، أم السلطة التي تريد ان تَحْصُرَ رعاياها، وتحاصِرَهم؟ وما هو دور الرواية في فضح أسرار الحياة، هذه؟
مخيّلة الكتابة الروائية المبدعة، وحدَها، قادرة على الإبحار في خضمّ هذا الوجود المفعم بالمشاعر والاعتبارات. وهي جديرة بأن تنقلنا من نقطة الصفر: «الكائن في مكانه»، إلى «المكان المرويّ» الذي قد لا يوجد في الواقع الجغرافيّ مكان مطابق له. «مكان الكتابة»، إذن، هو الإطار الفنّيّ لعملية الإنجاز الإبداعي، حيث يُعاد النظر بكل شيء. وأول شيء معنيٍّ بهذه الإعادة هو إشكالية الكتابة، نفسها، وبالخصوص، أمكنتها: «مكانها النفسي»، ومن ثم «المكان اللغوي»، وأخيراً «المكان الجغرافي».
مخيّلة الكتابة الروائية المبدعة، وحدَها، قادرة على الإبحار في خضمّ هذا الوجود المفعم بالمشاعر والاعتبارات.
المكان فلسفة، وهذه تقتضي لغة وأفكاراً. الأفكار بلا لغة لا وجود لها. الرواية إذن هي لغتها، وليست مكانهَا، ولا مكانَ كتابتِها. وحتى عندما يكون للمكان حضور فيها، فحضوره لغويّ، أو هو معروف فيها، بما هو غير معروف به خارجها: أي «المكان في مكانه»، لكن «المكان َ الروائيّ» ملتَبَس، ولو كان محدداً بوضوح. وهو، أياً كان شأنه، لن يغيِّر من ماهيتها شيئاً كثيراً، لأن ماهية الرواية هي تصوّرها للعالَم، أو بمعنى أدقّ: هي نظام تعبيرها الذي يساعدنا على إدراك هذا التصوّر. الرواية متحركة والمكان ثابت. هي تنتقل، وهو يبقى في «مكانه»، ذلك ليس حكمَ قيمة، وإنما هو «التعبير عن الوجود» روائيّاً، وهو الذي يسمح لمن لم يكن له حضور في «فضاء الكتابة» بإدراك ما لم يكن معنيّاً به في لحظة إبداعها. خصوصية الفعل الروائي هذه، هي التي تجعل منه، اليوم، مصدراً أصيلاً لفهم الحياة، والتفاعل مع مشاكلها الكثيرة. وهي بتَحْريضها لطاقة القارئ لكي يتفاعل مع ما يُكْتَب، وليحس بنفسه مسؤولاً عن العالَم الذي يعيش فيه، تُعطي العمل الروائي بُعْداً ساحراً، وتُضفي عليه هالة من الجلال، جاعلة منه مشروعاً إنسانيّاً خطيراً، لأن نصف الكتابة للكاتب، ونصفَها الآخر للقارئ.
أخيراً، نحن لا نكتب عن الأمكنة، وإنما عن الفكر الذي يتحكّم فيها. لكن الكتابة الروائية ليست موقفاً فكرياً، وإن كانت أدواتها الأفكار. وهي ليست سياسة، وإن كانت تُعْني بالمواقف السياسية. الرواية امتزاج حميميّ بين لغتها وفن قولها وتصوّر كاتبها المبدع للعالم. وهي من أجل إيضاح ذلك، كله، تعتمد على أساليب خاصة بها، وفي كل مرة تتغيّر هذه، كلها، على الرغم منا، لأننا نكون قد تجاوزناها. نحن لا نُنَظِّر، إذن، لما كتبناه من قبل، وإنما لما سنكتبه منذ الان. هذا هو درس الكتابة الروائية: أن نتعلم باستمرار. إنه الأدراك الدائم لما نعيشه ونكتبه، في الوقت نفسه. وفي النهاية، مكانُ الكاتب نَصُّه. ونصُّه كيانُه.
٭ الشهادة المقدمة للملتقى الدولي السابع للإبداع الروائي العربي في القاهرة
٭ روائي سوري
الامتياز الأهم للرواية هو انه يمكن ان تجعلنا ان نعيد النظر في ما يبدو انه من المسلمات. والرواية في مثل هذه الحال اجابة، مثلما يمكن ان تكون سؤالاً في البدء.
يقول أحمد بن حنبل ( ثلاثة ليس لها أصول : المغازي والملاحم والتفسير).وأضيف إليها الرابعة وهي الرّواية..وإنْ كانت قريبة من الملاحم.يادكتورخليل النعيميّ أتفق مع حضرتك أنّ الكتابة الرّوائية أغنى من الواقع ؛ فهي سمولخلق واقع خاص بها لكنه واقع أفضل في كلّ الأحوال من واقعنا التقليديّ أوهكذا يبدو بسبب الألفة.فهي نوع من الاستبصارنحوالمستقبل ؛ فالعين كالأذن تعشق. إنما الذي
أوكّد عليه أنّ الرّواية تبتدأ وتنتهي بالإنسان الفرد وإلا لا رواية للمجموع هكذا.لأنّ الإنسان فيه المكان ( الحيز) والأفق ؛ وفيه الزمان النسبيّ والمطلق.كيف يتمّ الجمع بين الزمان والمكان والإنسان ؟ بالإبداع وبشيء آخر أسمّيه الرّؤية التي يرى بها الرّوائيّ المبدع مالا يراه غيره من حافات الهاوية المثيرة في الحدث.مع التقدير.