تحتمل الرواية أن تكون شيئا من أشياء الواقع، تكشف عن رصيف يمكن أن يكون كرسيا فاخرا لفقير معدم، يتطلع منه إلى عالم المرفهين الذي لا يأبهون لمن هم عناصر الحدث في الرواية، كائنات ورقية في الواقع كما في الخيال، هل تعتبر الرواية حينها جزءا من الترف المطل من شرفة الثروة، أم تعتبر حينها نسيجا من التهكم على سذاجة الأغبياء الذين يمتلكون ناصية العالم؟
الرواية جرح الفقراء
إذ نعبر العالم، نكتب تاريخنا الذي لم يولد بعد، لأن موتنا هو الموعد الحقيقي للقاء ذواتنا مع التاريخ، الحضور في العالم ليس حضورا في التاريخ، ولهذا نقرأ الرواية، كي نفهم العلاقة بين التاريخ والحضور فيه، فالحيوات الورقية تمثل التشكيل الموضوعي خارج الواقع، والملامس للتاريخ باعتباره التخييل الواقعي ما بعد الراهن، فكل لحظة تمر تسقط في نهر الماضي، ثم تنبع كعلامة في مسار التاريخ، وبهذا تكون الرواية مناط الكينونة عند الفقراء، لأنهم دائمو التواصل مع العالم، باعتبارهم أداة التغيير المأمول، وجهاز التفكير الذي يجعل من العالم بؤرة الصراع مع الكائنات المتغولة، التي تتجاوز فكرة التاريخ باعتباره رواية إلى فكرة الطبيعة باعتبارها مصدر الثروة. إن التقابل بين التاريخ والطبيعة ينشئ الصراع بين الفقر باعتباره حالة التمسك بالعالم لإنقاذ عناصره من هجمة التغول، الذي يكون نتيجة استغلال الطبيعة لتضخيم الثروة، فتتشكل الحكاية أو «السردية» بتعبير فرانسوا ليوتار، المعبرة عن سيرورة تاريخية كرست بصمة الفعل المنجز، فهل تعتبر الرواية فعلا «ملحمة بورجوازية» وفقا لمعطيات هيغل؟
الرواية ملحمة المسار الوجودي
يرى لوكاتش أن هيغل «يعتبر الرواية شكلا فنيا بديلا للملحمة، في إطار التطور البورجوازي» ومن ثمة فهو يميز بين الملحمة في شعريتها، والرواية في نثريتها، لكن وجهة النظر هذه تطرح سؤالا عميقا في ما يتعلق بأطروحة الحكي أساسا، فربط الإبداع بطبقة يجعل العلاقة بين التصور المخيالي، وواقع الأطروحة الإبداعية تقوم على فئوية الإنتاجية النصية، وهو ما يتعارض في الصميم مع الجدل الإنتاجي المبهم في مصدريته للتخييل، الفئة عادة ما تكون ملهمة للفاعل الإبداعي في تخييل، ثم تثوير، ثم تصميم المنتج السردي، باعتباره فعالية مزدحمة بالوعي واللاوعي، بالنمط واللانمط، بالواقع واللاواقع، وهو ما يجعل النظرة الهيغيلية للرواية نتيجة لواقع المجتمع الألماني في تطوره التاريخي وطبقيته المتفاوتة في تفاعلها مع الأشياء، فالمظهر الجمالي، باعتباره مخمليا يتساوق وفكرة الترف الذهني، الذي تمارسه الطبقة البورجوازية باعتبارها تشكلا اجتماعيا يعكس وضعا مميزا.
إن اعتبار»الرواية ملحمة بورجوازية» يؤسس للانفصال الدال على طبقية التخييل هذا من جهة، ومن جهة أخرى يؤسس لانفصال بين كلية المجتمع وما يختلج بين مستوياته البشرية المعايِشة للألم والأمل المجتمعيين، وبالتالي، لا تصبح الرواية فعلا بورجوازيا خالصا إلا من حيث الافتراض القائم في لا فعالية المكون السوسيولوجي العام للمجتمع (الكادحين) وعليه فالرواية تتطور ضمن التصور التاريخي لجملة الفعل الاجتماعي، الصائر نحو تصميم الشكل الأقدر على كتابة أو تصوير أو عزف الإحساس الإنساني بمساريه الوجوديين القائمين بين الأمل واليأس.
تخييل المابعد/ الحكاية كاستمرار
يعنينا من الرواية كقراء وكمنتجين للتخييل المابعد – روائي تحديد طبيعتها، باعتبارها فعلا إنسانيا متجاوزا للواقع، لا من حيث تخييلها، لكن من كونها منظومة تساهم في تخييل الواقع، ومحاولاتها الدؤوبة في الإيهام بواقعية التخييل، وهذا سر جاذبيتها واستمرارها كجنس أدبي يحايث الواقع والهم الإنسانيين. بعد كل قراءة يتشكل عالم مواز للعالم الذي كرسته الرواية، وبالتالي، فهي تكرس استمرارها، باعتبارها عملا مفتوحا على اقتراحات القارئ، باعتباره مخبرا يتلصص على «الفراغات البيضاء» بتعبير أمبرتو إيكو، ويدون كل شاردة وواردة عن النص كحالة دالة لها تجلياتها القبلية في الواقع. يرى خورخي بورخس أن في عنوان «ألف ليلة وليلة» شيئا مهما جدا، «الشعور بأنه كتاب لا متناه» ذلك أن الحكاية ذات طبيعة نسجية، أي إن الفعل التخييلي الذي أنجزها لا يمكن أن يقف عند كلمة أو جملة تسجن الرؤية السردية في كتاب بدفتين، لا يعبر في الأخير سوى عن الشكل الذي يحفظ التطور المنطقي لعملية الحكي، أما الحكاية باعتبارها تسلسلا تخييليا فتتوالد إلى ما لا نهاية من الأحداث، تستمر في المعنى عن طريق «الفراغات البيضاء» وتأويل النص.
في القراءة وتخييل الواقع
عادة ما نتخيل قارئ الرواية مرتاحا إلى مدفأة مقتعدا كرسيا هزازا، وعلى وجهه تتراقص إضاءة بلون الذهب، وخلفه رفوف تصطف على خشباتها كتب متنوعة، طبعا لا يمكن أن نغفل الأثاث أبنوسي الخشب الملمع والغامق في لونه، وهذا التخيل لفضاء القراءة، يوحي ببورجوازية اللحظة الانبثاقية للرواية، لكن يتطور الوضع التخييلي عندما نعرف أن قراء فيكتور هوغو كانوا يتسابقون إلى المرفأ الذي كانت عبره تتسلل أجزاء من روايته «البؤساء» التي كتبها أثناء فراره إلى بريطانيا، يتلقفونها كما لو كانت خبز يومهم، فكيف كانوا يقرأونها وهي رواية الظلم الاجتماعي وحكاية الفقر؟
اليوم نرى الرواية على شاشة، صفحات إلكترونية، روايات عدة تتزاحم في ذاكرة تكاد تكون بحجم رأس الأصبع أو الدبوس، والقارئ إما ماشيا، أو راكبا سيارة، أو أي وسيلة نقل، أو متكئا على جنبه، أو قائما، أو يحتويه فضاء مقهى عتيق، كل هذه الحالات لا تكاد تصف سوى روعة تصفح ورق أول رواية مسكتها يد، ثم بعدها صارت العادات التي يألفها الناس أثناء القراءة، بحيث يستلذ كل قارئ وضعا ما لتهجئة رواية، وضعا يزيد من توتر الخيال الذاتي المستقبل لخيال الورق. إن لحظة استقبال الرواية هي لحظة تخيل عالم يتحرك طبقا لإرادتين، إرادة الكاتب الذي أوجد العمل من عمق التجربة والاحتكاك بالعالم، والرؤية التي استطاع أن يفتكها من علاقته بالواقع، وإرادة القارئ الذي يحاول تقمص فضاء الكاتب لا ليوافقه لكن ليحاول الوقوف على كيفية إنجاز الروائي لعمله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليكشف عن اختلافه أثناء تلقي العمل الروائي، فالحكاية التي تبتعد كثيرا عن الأفكار في وعي الروائي المتخيل تقترب كثيرا إلى الأفكار في وعي القارئ، الذي يحولها إلى تجربة داخل العالم، وهو ما أعتبره فتحا في الكتابة الروائية، إذ تُعتبر التجربة من أهم مدخلالت الكتابة الروائية، كما تعتبر أيضا (التجربة) من أهم مخرجات القراءة الروائية، وهو ما قد يؤدي المعنى في الوضع الإنتاجي للرواية، باعتبارها منتجا شعبيا يتداوله الوعي كمهرجان للفرح الفردي بالمتخيل.
الرواية منجز شعبي
يذكر أورهان باموق الكاتب التركي الحاصل على جائزة نوبل للآداب 2006، في كلمته بمناسبة الفوز، أن سر الكاتب ليس الإلهام، وإنما هو عناده وصبره، ثم يضيف: «المثل التركي اللطيف ـ إن تحفر بئرا بإبرة ـ يبدو لي أنه قيل والكتاب في الذهن» الإصرار والصبر مهنة الشعوب العاملة من أجل تحقيق لحظة زهوها بالحياة وجدارتها بها، لا نبحث عما قد يوصلنا إليه العمل الذي نؤديه لحظة انهماكنا فيه، لكن الذي يهمنا حينذاك هو كيفية الأداء، ولهذا نغالب التعب وكل الصعاب، إنها لحظة الانهماك في الكتابة التي لا نشعر وقتها إلا بمسار الكلمات، وهي تشكل فسيفساء عالم جديد يخرج بنا عن نمط ما نعيش، إنها معجزة، في حقيقة الأمر، ينتج الروائي سردية صغرى بتعبير فرنسوا ليوتار، ليواجه صعاب الواقع التي تعيق مسار التحول والتغيير والحركة نحو النقطة الأعلى في سلم الوجودية، إنها حكاية الجماهير الشعبية وهي تناضل من أجل ترميم صورة الخبز، وهو يتدلى في جوف المعوزين، وتنتظر صورة جمالية لذلك، فتفاجئها الرواية كصفحات من ورق استطاعت أن تقبض على تلك اللحظات المبجلة في الوعي، وفي الواقع، لترى الجماهير ذاتها وهي تصنع متألمة الأمل الرابض بين زاوية ينتصفها بساط الشمس وكرسي قديم استرخت فوق لوحِهِ أجيال، ولو حكى أسطورته لرأينا كيف اقتعده أصحاب السلطة والمتواضعون من الشعب والمناضلون من أجل الحرية وأصحاب الدكاكين المنتظرون للزبائن والمتابعون لحركة الشارع من المقعدين. تلك حكاية الرواية في شعبيتها وهي تتابع الواقع في تجلياته الطيفية عبر شاشة المتخيل.
كاتب جزائري