أقنعوني بأنّ الصلاة هي التي تُعبّد الطريق إلى السعادة، فواظبتُ على الصلوات الخمس في المساجد، وشعرتُ فعلًا براحةٍ نفسيّةٍ لا مثيل لها.
لكن عندما ينعق الغراب في أُذنيّ أتراجع مذعورًا عن الاختلاط بالناس، وأعجز عن النهوض من تحت البطّانيّة، وأهوي إلى الحضيض الأسفل، تراودني أفكارٌ إلحاديّةٌ مقيتة، وأصِلُ إلى مرحلة الكفر تقريبًا، ولا أتعافى من هذه العاصفة الروحيّة إلا بعد أن ينقشع الاكتئاب من تلقاء نفسه.
كما يجيء فجأةً يرحل فجأة، فأصحو من النوم آدميًّا طبيعيًّا، أتوضّأ وأرتدي ثيابًا أنيقة، وأُبَكِّرُ إلى الجامع لأصلّي صلاة الفجر، فأعود بقلبٍ فرحٍ وأذوق حلاوة السلام الداخليّ والطمأنينة.
أين ذهبَت الشياطين التي كانت تعيث فسادًا في عقلي خلال الأيّام الماضية؟ هل انتقلتْ إلى شخصٍ آخر كما أتمنّى في قرارة نفسي؟ من تجربتي الخاصّة أعرف أنّها لم تذهب إلى أيّ مكان، لكنّها تختبئ في زاويةٍ مظلمة من مخّي، لأنّها هي أيضًا تتعب مثلنا وتخلد إلى الراحة والنعاس!
عندما يأتي الضباب أكره نفسي، وأشعر بكراهيةٍ تجاه كلّ أحد، وأرغبُ في الاختفاء. حينها تسيطر عليّ الذكريات السلبيّة فقط؛ إذا وجَّه إليّ أحدهم إساءةً قبل أعوام فإنّها تعود إلى وعيي فجأةً وأستعرضها كفيلمٍ سينمائيّ، برفقة كلّ المشاعر التي انتابتني وقتها بكامل شدّتها. مثل الجائع الذي يتضوّر جوعًا فيتخيَّل الأطعمة الشهيّة، أتضوّر أنا من الحاجة إلى الألم النفسيّ، فأتذكّر المواقف والكلمات التي سبّبت لي الأذى على مدار سنوات عمري.
النتيجة التي خلصتُ إليها أنّ الصلاة مفيدة عندما تكون صحّتي النفسيّة جيّدة، لكن عندما تنهار دفاعاتي النفسيّة فإنّها لا تسعفني. يحتاج الوضوء ثمّ الصلاة منّي إلى جهدٍ بدنيّ لا أُطيقه، ومن جرّب هذه الحالة يدرك أنّ القيام بأدنى مجهود غير ممكن، فيغدو أداء الصلاة حينها أشقَّ من صعود الجبال.
وجدتُ في صندوق أبي دفترًا مجلّدًا بمخملٍ أحمر، دوَّن فيه ستّ حكايات شعبيّة سمعها من أفواه المعمّرين، كلّها تتحدّث عن مغامرات الإنس مع الجنّ، باستثناء واحدةٍ عاطفيّة، وهي التي قرَّت في نفسي، ونويتُ أن أكتب نصًّا مسرحيًّا مقتبسًا منها.
اعتكفتُ عشرة أيّام كانت كافية لإضافة مسرحيّة جديدة إلى رصيدي كمؤلّفٍ مسرحيّ. دافعي لكتابتها ليس طلبًا للمجد والشهرة أو المال، أو حتى حبًّا بالكتابة، فكلّ هذه الأغراض التي يسعى إليها غيري قد ماتت في نفسي ولم تعد تؤثّر فيّ، وإنّما كتبتها بدافعٍ وحيدٍ هو أن تشاركني بطولة المسرحيّة زميلتي الممثّلة نبات، وأن أعيش معها لحظات غرام متأجّجة، ولو كانت مجرّد تمثيلٍ ومشاعر مصطنعة.
نبات تُماثلني في العمر والطول، ريّانة العود، دعجاء العينين، جمالها من النوع الذي يروق في عيني، وباختصار هي ألطف كائنٍ قابلته في حياتي.
أعطيتُ النصّ المكتوب بخطّ يدي لمن يقوم بصفّه، وبعد أسبوع تسلّمت نسخةً مصفوفة بالكمبيوتر، واخترت «فتنة» عنوانًا لمسرحيّتي.
ذهبتُ إلى المؤسّسة العامّة للمسرح وقدّمتُ لهم مسرحيّتي آملًا أن يوافقوا على إنتاجها وعرضها.
وبعد فترةٍ اتّصلتُ برئيس المؤسّسة وسألته هل قرأ مسرحيّتي، فردّ عليّ باقتضابٍ طالبًا منّي الحضور إلى مكتبه.
مبنى المؤسّسة أثريّ، كان ملكًا لبنت الإمام، وعند قيام الثورة صادرته الدولة، وظلّ لفترةٍ مقرًّا لسفارة ألمانيا الشرقيّة، وبعد قيام الوحدتين اليمنيّة ثمّ الألمانيّة، خرج المستأجر الأوّل وجاءت مؤسّسة المسرح التي كان عليها هي أيضًا أن تدفع إيجارًا للدولة! للمبنى بوّابة خشبيّة عالية تليق بقلعة، يتوّجها قوسٌ حجريّ، صُمّمتْ بهذا الشكل لدخول الخيّالة وخروجهم، وفي الدرفة اليمنى بابٌ صغيرٌ يدلف منه الموظّفون.
صعدتُ الدرج ونبرة صوت منصور الشرشار ترنّ في أذنيّ، نبرةٌ مُشرّبة بالصفاقة.
دخلتُ مكتبه وسلّمتُ عليه فلم يردّ عليّ السلام، وتظاهر بقراءة ملفّ بين يديه. دنوتُ منه ووقفت بإزائه فلم يحفل بي، مددتُ يدي مصافحًا فلمحني بنظرةٍ خاطفة وخفض بصره وتجاهلني، أنزلتُ يدي الممدودة وأنا ما زلتُ محتفظًا بابتسامةٍ ساذجة.
قعدتُ وسألته:
– ما رأيك يا أستاذ في مسرحيّتي؟
رشقني بنظرة احتقار ولوى فمه مظهرًا اشمئزازه منّي:
– يعني ما لقيت غير شكسبير تسرق منه؟
امتقع وجهي وذبلت ابتسامتي:
– لا أفهم قصدك…
حدّق فيّ بوقاحة وكأنّه يودّ أن يركلني بنظراته:
– مسرحيّتك مسروقة من مسرحيّة «تاجر البندقيّة» لوليم شكسبير.
وقعتُ في حيرة من التّهمة، إذ لم يخطر ببالي قطّ ردّ كهذا. توقّعت أن يُخيّب أملي بقوله إنّ مسرحيّتي خرقةٌ باليةٌ لا تصلح للعرض، لكنّه فاجأني تمامًا.
– لم أقرأ «تاجر البندقيّة». ومسرحيّتي عن شابّ يبحث عن فتاةٍ يتزوّجها، فتقوده الأقدار إلى فتاة اسمها فتنة، يُعجب بذكائها، ولكي يكمل مهرها يُضطرّ إلى الاستدانة من تاجر، مع شرط جزائيّ بقطع لسانه إذا تأخّر عن السداد في الموعد المحدّد. بعد أن يتزوّج بمحبوبته ينسى الموعد، ثمّ يتذكّره فيعود إلى التاجر ليدفع الدين، فإذا بالأخير يطلب قطع لسانه عقوبةً له على تأخّره في السداد. جزاءٌ كاد يقع عليه لولا ذكاء فتنة التي أنقذته.
منصور الشرشار أسمر البشرة، وجهه حليق وشعره أجعد قصير، حاجباه متباعدان قصيران، أخنس الأنف، تجعّد الجلد على جانبَي فمه من فرط إدمانه على مضغ القات.
كان يرتدي صديريًّا أسود بكتفيّات وكأنّه يظنّ نفسه جنرالًا، وتحته قميصًا بكمّ قصير مقلّمًا بالأسود والأخضر، وفي الإصبع الوسطى لكلتا يديه خاتمان فضّيان عريضان قبيحان، بينما غرز في جيب القميص قلمين أحدهما أسود والآخر أخضر، وبهما كان يتلاعب بالتوجيهات التي كان يصدرها، إذ يمكنه أن يصدر الأمر نفسه لشخصين مختلفين، لكنّ ما كُتِب بالقلم الأخضر هو الذي يسري مفعوله.
ارتفع حاجباه فظهر جفناه الفوقيّان بلونٍ رماديّ:
– هذه هي حبكة نصّ مسرحيّة «تاجر البندقيّة» فلا تكذب أنّك لم تقرأها.
– صدّق أو لا تصدّق، مسرحيّتي مقتبسة من حكاية شعبيّة دوَّنها والدي بخطّ يده بعدما سمعها من معمّرين في قريتنا.
رفع ذراعه وأشار إليّ بسبّابته بحركة مسرحيّة تذكّرني بالممثّل الرديء الذي يُبالغ في أدائه:
– لا تحاول، أنت سارق… لو كان الأمر بيدي لسلّمتك للشرطة.
كنت مصدومًا من هجومه عليّ فلم أنطق بحرفٍ. فتح درجًا وأخرج مسرحيّتي، انتزع القلم الأسود من جيبه وكتب على الصفحة الأولى «المسرحيّة مسروقة» وأمضى بتوقيعه وختم بختم المؤسّسة ثمّ رماها باتّجاهي.
رفعت مسرحيّتي ولم أرفع عينيّ إليه والأسوأ أنّني لم أتخلَّ عن سلوكي المهذّب:
– شكرًا لك على قراءة المسرحيّة.
لم أسمع منه ردًّا، وخرجتُ مرتبكًا وروحي تنحدر مع دموعي من خدّيّ إلى أصابع قدميّ وتبلّل البلاط.
واحدة من أسوأ صفاتي أنّني أبالغ في التهذيب في تعاملي مع الناس إلى درجةٍ غير مقبولة. قد يتجاوزون حدودهم ويقلّلون أدبهم معي، ومع ذلك لا أقابل الإساءة بالإساءة. لا شكّ في أنّ هذا دليلٌ على ضعف شخصيّتي، وإلا لكنت رددتُ الصاع صاعين لذلك البالون المنفقع الذي اتّهمني بالسرقة الأدبيّة فيما لم أوجّه إليه كلمة نابية أو حتى أعبس في وجهه.
لقد قرّرتُ الانتقام منه بطريقتي الخاصّة. سأشكّل فرقة مسرحيّة، وأموّل عرض «فتنة» على حسابي الشخصيّ.
فصل من رواية السماء تدخن السجائر التي ستصدر قريبا عن دار نوفل- هاشيت أنطوان
روائي يمني