الخطاب الاستراتيجي الجديد لما بعد الحرب الباردة، ركز الانتباه على الشعور المتنامي بانعدام الأمن، نظرا لانخراط الدولة في الشؤون العسكرية الصناعية، والوضع الخطر للاقتصاد العالمي، ضمن مرحلة من التاريخ السياسي المعاصر، تم فيها تدجين العلاقات الدبلوماسية، بشكل جعل المؤسسات الدولية تُعتبر نتاجا لمصالح الدول الكبرى، وهي لا تلعب دورا ناجعا في منع نشوب الحروب والانتهاكات الانسانية.
وللتغطية على الغياب المفضوح لاستراتيجية أممية واضحة وموحدة، تُغلّب منظمة الأمم المتحدة الحديث عن تقديم مساعدات تسويفية، عوض الدفاع عن حقوق الإنسان، وإلى الآن لم تستطع الهياكل الأممية جمع المعلومات وتقديم المعطيات والتحليلات البينة، لكي تتخذ القرارات بشأن انتهاك حقوق الإنسان في بورما. وهناك من تجاهل التطهير العرقي في حق الأقلية المسلمة الأكثر اضطهادا في العالم، ومسؤولو الأمم المتحدة أحجموا عن التحرك لوقف المجازر، وهو عار وجريمة يجب أن يحاسب عليها كل المقصرين في حق ضحايا الروهينغا.
الكثير من العمليات العسكرية أطلقها الجيش البورمي ضد أقلية الروهينجا المسلمة، وهي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، حيث أُجبِر في 2017 حوالي 740 ألفا من الروهينجا على الفرار إلى بنغلاديش، خوفا من القتل والتعذيب والاختفاء القسري والمجازر، التي أشرف عليها جنرالات كبار في الجيش، ولم تتم إلى الآن محاكمتهم بتهمة «الإبادة». ومنذ ذلك الحين يتواصل سلوك العنف والإقصاء، وتستمر عمليات التطهير العرقي، وتعيق الحكومة البورمية وصول اللوازم الطبية والمساعدات الغذائية ومواد الإغاثة الإنسانية، ولا أحد يسائل جيش بورما أو يفرض عقوبات على حكومة هذا البلد.
يبدو أن حقوق الإنسان وجهة نظر بالنسبة المنظمات الدولية، وهي قابلة للمساومة والكيل بمكيالين
ربما لا توجد مصلحة لأمريكا هناك، وإلا كانت ستسارع بالتدخل العسكري، أو تدفع مجلس الأمن والوكالات الأممية التابعة، لفرض عقوبات ردعية على حكومة بورما، بمثل ما تفعل اليوم ضد إيران والصين، وغيرهما من الدول، إذ يتم فرض العقوبات الاقتصادية والمالية القصوى في أسرع وقت ممكن. يبدو أن حقوق الإنسان وجهة نظر بالنسبة إلى هؤلاء، وهي قابلة للمساومة والكيل بمكيالين.
ومن المؤسف أن تكتفي الأمم المتحدة «بالقلق العميق» إزاء ما تعتبره تقارير بشأن إطلاق النار في مخيمات للنازحين الروهينغا، ولا ترى أن عمليات جيش بورما «تصفية عرقية»، مخطط لها من البداية، بهدف واضح وهو تهجير أقلية الروهينجا من إقليم راخين (أراكان سابقا) غرب ميانمار، وغيره من الأقاليم، حتى يتسنى تشجيع أسر البوذيين على الاستيطان في هذه المناطق بدلا من المسلمين.
شهود العيان من المضطهدين أنفسهم، والصور، ومقاطع الفيديو التي توثق الانتهاكات، والتقارير الميدانية الصحافية، والمعلومات الاستخباراتية وتقارير منظمة العفو الدولية، لا تكفي كلها لتتحرك محكمة الجنايات بشكل جدي، وتطالب بمحاكمة مجرمي الحرب من الذين انتهكوا الأعراف الإنسانية، وبلا رحمة قتلوا وعذبوا وأبادوا وهجروا الآلاف، وتمادوا في السقوط الأخلاقي، فمنعوا دخول المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة، من حملات القمع والانتهاكات في إقليم أراكان المحاصر من قبل الجيش البورمي، والميليشيات البوذية.
هكذا ينشأ التوتر الفريد من نوعه، الذي عبر عنه يورغن هابرماس بـأنه بين»المعنى الكوني» لحقوق الإنسان والشروط المحلية لتحقيقها، التي يجب أن تسري على كل الناس من دون استثناء، ولكن كيف يمكن التوصل إلى ذلك؟ يمكننا من جهة أن نتصور، أن الانتشار العالمي لحقوق الإنسان بصيغتيه الشمولية والكونية، يعني أن كل الدول القائمة تحولت إلى دول «قانون ديمقراطية»، ليس فقط اسميا، وأن لكل شخص الحق بأن يختار جنسيته، ولكننا بعيدون عن هذا الهدف كما يبدو. أما البديل فقد يكون في أن يتمتع كل شخص كمواطن في هذا العالم، بحقوق الإنسان فعليا وبشكل مباشر، وهذا هو بالضبط ما تشير إليه المادة 28 من إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، حيث تدعو إلى نظام عالمي «تتحقق فيه تماما كل الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان».
ولكن هذا الهدف، أي التوصل إلى حق لمواطني العالم ممأسس بشكل فعال «مازال بدوره بعيدا جدا عن التحقيق». وهو ما يجعل منظمة الأمم المتحدة تقتصر منذ ظهورها على إجراءات تنظيم مبدئية، مازالت إلى الآن بعيدة عن الدوافع الداعية إلى السلام، التي تدين لها المنظمة الدولية بنشوئها. وهي التي ارتبطت وظيفتها بتأمين السلام العالمي، والفرض السياسي لحقوق الإنسان، ودرء الكوارث الإنسانية والأخطار العالمية الكبرى، ومشاكل حماية البيئة والتركيز على قضايا الأمن بالمعنى الواسع للكلمة، وتحجيم الحروب الأهلية، و’الإجرام الرسمي» كالذي تقوم به حكومة بورما والكيان الصهيوني الغاصب. وتكشف لنا أزمة الجائحة العالمية أن مقولة الترابط والتشابك العالمي، مجرد سرديات وهمية فاقدة للمعنى. وغياب التضامن الدولي، وصمت مجلس الأمن، رغم المبادرات التي قُدمت من أجل التوصل إلى مقاربة أممية لمواجهة الخطر، أكبر دليل على أن مسار العولمة قد نتج عنه توحيد تقني اقتصادي، شمل كوكب الأرض بمكاسب متفاوتة، بيد أن العولمة الكونية لم تحرز تقدما في مجال التفاهم بين الشعوب، وأنتجت أزمات مالية متلاحقة، وأشعلت فتيل الحرب. وقد أفرزت المخاطر المحدقة بالأرض، بما فيها خطر التلوث البيئي، والأسلحة النووية، والاقتصاد غير المنظم مصيرا مشتركا بين البشر، غير أن البشرية لم تعِ هذه المخاطر، على نحو يؤكد فيه أمثال إدغار موران، أن هذا الفيروس جاء ليجعل هذا المصير «واضحا جليا بصورة فورية ومأساوية». فهل سنعي هذا في نهاية المطاف؟ خاصة ونحن نشهد اليوم غياب التضامن العالمي والمؤسسات المشتركة، الهادفة إلى اتخاذ تدابير تكون في حجم الوباء المستشري «أمم تنغلق على نفسها انغلاقا أنانيا».
وبالمحصلة لا يتضح ما إذا كان إعلان حقوق الإنسان الذي اتفق على نصه عدد قليل نسبيا من الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة سنة 1946، يمكن أن يجد في عالم اليوم المتعدد الحضارات والمتضارب المصالح، تفسيرا وتطبيقا متوافقا عليه بما فيه الكفاية، بشكل يعيد الاعتبار أخلاقيا للعلاقات الدولية، ويُنصف الإنسان بقطع النظر عن موقعه أو جماعته الأهلية أو انتماءاته العرقية.
كاتب تونسي