الرَّقة، حاضرة وادي الفرات، وينبوعه الثرّ المعطاء، ومصيف هارون الرشيد، وملكه الزاهر، وسلطانه واسع الرقعة، الذي يفي إليه صيفاً بعيداً عن الصخب ومشاكل الخلافة، والطاعون.
وقد ارتبط اسمها بالصورة المشرقة للعصر العباسي، وخاصةً بالأيام التي كان يسميها الناس في زمنها، أيام العروس، وهي أيام هارون الرشيد.
وكشفت الحفريات في الرَّقة عن آثار تعود إلى العصر العباسي 750 – 1258 ومن أهمّ الآثار الباقية في المدينة: قصر البنات، باب بغداد، والجامع الكبير الذي بني في القرن الثامن الميلادي، وغيرها كثير. وتحتوي المدينة القديمة، أيضاً، على أضرحة عددٍ من رجال الدين المسلمين، وقد أنشئت الرَّقة عام 244 أو 242 قبل الميلاد، وفي عام 639 م فتحتها الجيوش العربية الإسلامية.
إنَّ أبناء الرَّقة المعاصرين يعتزّون بمجدها القديم، ويعلمون تماماً أنَّ الرَّقة القديمة قد زالت من الوجود بعد غزوات التتّار، ويعود أقدم بناء مسكون في الرَّقة الحاضرة، كما ورد في مقالة للدكتور عبد السلام العجيلي، القاص المعروف، وابن هذه المدينة: “لا يرجع إلى أبعد من عام 1305هـ ـ 1887م”. بمعنى أنَّ عمر الرَّقة كما يقول العجيلي: “يتجاوز قرناً ونيّفاً”. ولقد وصلت الرَّقة الحديثة في تطورها منذ إنشائها حتى الآن، وبطريقة عفوية، ودون تخطيط مسبق، إلى نتيجة يمكن أن تُعد مقبولة لأي بلدة حديثة.
ففي أقل من تسعين عاماً نبت في نقطة مقفرة على الفرات تجمّع بشري، يضمّ نحو أربعين ألفاً من السكان، هم سكان البلدة بالذات، ويقومون بخدمات مجموعات بشرية يقارب عدد أفرادها الثلاثمئة ألف، هم سكان المحافظة، أما عدد سكان الرَّقة اليوم بات يتجاوز 900 ألف إنسان، حسب الإحصائيات الحديثة.
سور وأبراج
تقوم الرّقة اليوم، إلى الشرق من حلب عاصمة بلاد الشام الاقتصادية على مسافة تبلغ مئة وثمانين كيلو متراً، وإلى الشمال الغربي من مدينة دير الزور أكبر مدينة عربية على الفرات، والتي تبعد عنها بمئة وأربعين كيلو متراً، وعند نقطة من هذا الطريق تُدعى “المَقَصْ” يتفرّع طريق طوله ستة كيلو مترات في اتجاه الشمال الشرقي ليتصل بجسر حديث البناء على الفرات، يؤدي مباشرةً إلى مدينة الرَّقة.
وتعتمد الرّقة على نهر الفرات العظيم الذي يقذفُ في كل نصف دقيقة من الزمن ما يكفي لاستهلاك مدينة كبيرة في كل يوم، لهذا قامت على ضفتيه زراعة كثيفة، يحتلُ القطن فيها مكان الصدارة، ويتلوه في الإنتاج القمح ـ ذهب المستقبل ـ والخضار بأنواعها.
وللرَّقة شهرةً عظيمةً بزراعة البطيخ الأحمر والأصفر، الذي كان يُصدّر إلى عاصمة العباسيين، إذ لا يزال العراقيون يُطلقون عليه اسم الرَّقي نسبةً إلى الرَّقة، وهو الذي يُدعى الحُبْحُب في الحجاز، والجُحّ في نجد، والجَبَس في حلب، والدِبْشِي في دير الزور والرَّقة، والدلاّع في كل أقطار المغرب العربي، مثلما كانت مشتهرة بزيتونها، وزيتها، وصابونها المعطر.
والملاحظ أن الرَّقَة بنيت على شاكلة بغداد في أبوابها، وأسوارها، وفصولها، ومساحتها، ورحابها، وفي استعمال مادة البناء نفسها، وهي الطابوق، وكان سورها يتألف من سور مضاعف داخلي وخارجي بينهما فاصل، وحُفر حول الخارجي خندق، وكان عرض السور الخارجي يبلغ بين 4 و5 أمتار، وكان أساس السور الأثري الذي يحيط بالمدينة اليوم مبنياً من الحجر الكلسي، وشابهت بغداد في أبوابها، وبيوتها، وجعل للمدينة بابان، الأول، يُسمى باب بغداد ويقع في الزاوية الجنوبية الشرقية، لا يزال قائماً حتى اليوم، والثاني، وهو باب الجِنان وكان يقوم إلى جانب كل منهما برج مستدير نصف قطره 8 و7 أمتار، وظل اعتماد سكّان الرَّقة حتى فترة ما بين الحربين العالميتين على أطلالها في استخراج مادة الطابوق اللازم لبناء بيوتهم، ولها باب ثالث يقع في الجهة الشمالية، ما زال قائماً حتى اليوم، وأعيد ترميمه من جديد، ويسمى باب أورفة أو باب حرّان.
شبيهة بغداد
سميت الرَّقة في البداية، كالينيكوس، نسبةً إلى سلوقس الأول، مؤسّس المدينة، الذي كان يُعرف أيضاً بهذا الاسم، ويقول البعض أن الاسم يعود إلى الفيلسوف اليوناني كالينيكوس الذي توفي فيها، لكن هذا الاعتقاد خاطئ على الأغلب، في العصر البيزنطي، كانت المدينة مركزاً اقتصادياً، وعسكرياً، وفي عام 639 فتحتها الجيوش العربية الإسلامية وتحوّلت تسميتها إلى الرَّقة. وفي عام 772 بدأ الخليفة العباسي المنصور ببناء عاصمة صيفية للدولة العباسية بالقرب من الرَّقة، سميت الرافقة. بنيت المدينة الجديدة على شكل حدوة فرس على الطراز المعماري لبغداد، وسرعان ما اندمجت مع الرَّقة بين عامي 796 و808 حيث اتخذ الخليفة العبّاسي هارون الرشيد من الرَّقة عاصمة له، حيث صارت مركزاً علمياً، وثقافياً هاماً.
في الرَّقة، عاش وتعلّم الفلكي العربي الشهير، عالم الرياضيات البتَّاني 858-929 ولم تنجُ المدينة من جيوش المغول الجرّارة حين دمّروها في عام 1258 كما فعلوا ببغداد.
ومع أنَّ ألفاً ومئتي سنة مرّت بعد هارون الرشيد، فانَّ زائر الرَّقة هذه الأيام، يدخلها متصوراً إيّاها كما تصفها الأغاني، أو ألف ليلة فإذا اصطدم بالواقع توجّه إلى أهل البلدة متسائلاً، ومستنكراً، ومتهماً: ألستم أنتم الذين أحلتم هذه الجنة الوارفة الظلال إلى بيداء قاحلة؟
ماذا فعلتم بالأشجار التي كانت تظلّل المسافر من بغداد إلى الرَّقة، فلا تراه الشمس في رحلته؟
أين الهني والمري، وأين مرابع دير زكي، وأين نهر النيل الذي يتفرع من الفرات ويلتقي حول الرَّقة ليحيلها جزيرة محاطة بالماء؟
أين مصانع الصابون الرقّي المشهور في كل أنحاء العالم الإسلامي، وأفران الزجاج، والخزف التي تُزيّن بقاياها متاحف الدنيا؟ وكيف حولتم هذه الجزيرة الخضراء فيما بين النهرين، والتي يسكنها ثلاثة آلاف ألف إنسان إلى سهوب قفراء لا يتجاوزها ثلاثمائة ألف ساكن؟
إنها تُهَمٌّ ثقيلة هذه التي يتهمُنا بها زوّار الرَّقة، ومحبّوها، لكن ما يشفع لنا أنها تُهَمٌّ ظالمة، تُلقى على عاتقِ قوم أبرياء من تبعاتها، هم أبناء الرّقة المعاصرون .
فأبناء الرَّقة المعاصرون يعتزّون بمجد الرَّقة القديم، ويعلمون تماماً أن الرَّقة القديمة قد زالت من الوجود بعد غزوات التتّار.
لقد كان آخر العهد بالرَّقة كمدينة عامرة هو عام 773 هـ 1371 م حين أخلاها أهلها فجأةً أمام جراد جيوش تيمورلنك المنتشر، فتفرقوا بدداً في أرض الله الواسعة، وبذلك أُمحَت مدينة الرّقة من الوجود. ومحت منطقة بلاد ما بين النهرين من عداد المناطق المتحضّرة، واستحالت تلك الأرجاء المزدحمة بالسكان والعمران إلى صحراء مقفرة خلال خمسة قرون متتالية .
نعم لقد أُمحت مدينة الرّقة القديمة، بسكانها، وعمرانها، منذ خمسة قرون .في هذه القرون الخمسة، يبست الأشجار، وتهدّمت السدود على الفرات وروافده، وجفّت الأنهار!
قصور تاريخية
ومن أهم الأماكن الأثرية الهامة التي لا تزال تُواجه تحديات الزمن، المسجد الجامع الذي بناه أبو جعفر المنصور سنة 155 هـ 771م، وأنشأه من الطوب اللبن، ويُظن أنَّ الرشيد كان قد هدم أجزاءً كبيرةً من الجامع، وأعاد بناءه بالآجر شأنه في ذلك، شأن جميع المنشآت العمرانية التي تعود إلى زمن المنصور في بغداد، والبصرة، والكوفة.
وتضمُّ الرّقة الجامع الكبير، أو مسجد الحميدي، كما هو متعارف عليه، وهو أقدم وأكبر مساجد المدينة، ويعود إلى زمن السلطان العثماني عبد الحميد، لذلك أطلق عليه اسم الحميدي الكبير، بالإضافة إلى مجموعة من القصور التاريخية والأثرية المتفرّدة، ومنها: القصر العباسي في الرَّقة، قصر البنات ـ بيمارستان، ولعل جنود الأمير أو الخليفة كانوا يرابطون في هذه الأبراج أيام الجمع، وقت الصلاة، وكذلك أيام الأعياد، وفي كل صلاة، بالإضافة إلى باب بغداد وقصر هرقلة وقلعة جعبر ورصافة هشام بن عبد الملك ومجموعة من التلال الأثرية في حوض البليخ، كتل حمّام التركمان، تل أسود، صهلان، المفش، جدلة، خويرة، ممباقة، العبد، الطنبرة، حلاوة، موقع عناب السفينة، دبسي فرج، الشيخ حسن، أبي هريرة، تل المريبط، الذي كان نقطة الانطلاق لأول استيطان مدني منذ الألف التاسع قبل الميلاد، وتل البيعة الذي يُشير إلى أنَّ الرَّقة، الأم، كانت ترقد هنا، ناهيك باحتضان الرَّقة لمقام الصحابيين: عمار بن ياسر، وأويس القرني علامةً بارزة في ذاكرة المدينة، وقيمة لا تعدلها قيمة في ذاكرة أبنائها الذين كانوا يتبرّكون بها.
تعدّيات قائمة
وحفريات مدينة الرّقة، كانت من المشاريع التي تعقد عليها المديرية العامّة للآثار والمتاحف أكبر الآمال، لأن هذه المنطقة تضمُّ أكبر مجموعة من الأطلال الإسلامية بين كل مناطق الشرق الأدنى، ولأن التنقيب فيها كفيل بإظهار كثير من مخلّفات العصر العبّاسي، التي يقلّ وجودها في بلاد الشام، والتي يحتمل أن تحتوي على ما يشبع رغباتنا في معرفة فنون بناء، ونحت وتصوير ذلك الزمن، كما أنَّ المنطقة اليوم بحاجة إلى حملة واسعة من أعمال التنقيب، والكشف، والترميم، وهذه الأعمال الواسعة تتطلب أموالاً باهظة إضافةً إلى أنَّ الفوائد العلمية والمادية ستكون بالغة الأهمية، إذا ما عرفنا أنَّ البلدة الجديدة آخذةً في التوسّع داخل منطقة الآثار، وأنَّ المساكن الجديدة المتواضعة تزحف باتجاه سور الرافقة ما يؤدي إلى هدمه تماماً، أدركنا ضرورة التحرّك السريع لحماية تلك الروائع الأثرية.
إنَّ التعدّيات مستمرة منذ العهد العثماني على الآثار في مدينة الرّقة، وعلى سور الرافقة بصورةٍ خاصة، وحتى يومنا هذا، ولا يمكن اعتبار الطريقة المتبعة حالياً للمحافظة عليها ضامناً أكيداً للإبقاء عليها، مع العلم أن إهمال تلك الآثار جريمة يُحاسب عليها الضمير الحي، لذا كانت دراسة إنشاء شارع الكورنيش داخل السور، وخارجه تخفيفاً من التعديات عليه، كما أن الاهتمام بأشجار السرو حول السور من الداخل تزيد أيضاً في حمايته، وتبعث فيه حياةً جديدة في هذا الأثر الرائع، وتُشعر الأهالي بأنّ التراب لم يَعد مهملاً كما في أيام زمان.
الرقّة الحديثة
إنَّ الرَّقة اليوم، التي تنعم بالخيرات الوافرة، الغنية بزراعتها الكثيفة المتنوّعة، كانت تبدو في صورةٍ مشرقة ناصعة، وسبق وأن شيّدت فيها الأبنية الحديثة، وأقيم فيها العديد من الساحات العامّة، والحدائق التي يركن في إحداها تمثال هارون الرشيد، الخليفة العباسي، وفاءً لذكراه، بالإضافة لأسدين اثنين عُثر عليهما مع المكتشفات الأثرية الحديثة، في الرَّقة. إلا أنه، ومع اندلاع الثورة السورية، مع بداية عام 2013 وما لحق الرّقة وآثارها من دمار كلي ما نسبته أكثر من 80 في المئة من أبنيتها، فقد تغير الكثير من ملامح المدينة التي كانت محط أنظار الجميع، وبصورة خاصة، زوارها الكثر الذين لا يفتأون من التعرف عليها وزيارة المواقع الأثرية التي نالت نصيبها هي الأخرى من عبث العابثين، والتخريب والحرق!
وفي هذا الإطار لا يفوتنا أن نذكر الامتداد الجغرافي الواسع لأوّل وأكبر بحيرة اصطناعية في سوريا، حيث تمتد على مساحة 640 كيلو متراً مربعاً. ولا يتوقف تشكيل البحيرة عند حدود، باعتبارها خزاناً استراتيجياً للمياه، سواء للشرب، أم للري، بل وكذلك بالآفاق الكبيرة المتنوّعة منها، وما يتعلق بالبيئة والمناخ، وأخرى تكون بها مرتكزاً لقيام استثمارات في جميع المجالات.
وهي تلاصق في الغالب من هذا كله في ضفافها، امتدادات البادية السورية، ومناطق الاستقرار الرابعة المعروفة بكثرة جفافها، ما جعلها أساساً للتغيير، والتأثير على البيئة، والظروف المناخية للمنطقة، خاصةً على ضوء حجمها، وكميات المياه المتبخّرة، وإسهام ذلك بتعديل درجات الحرارة صيفاً، واستقطاب أمطار أكثر شتاءً للمناطق المحيطة بها، وامتداداتها، علاوة عن أن وجودها ساهم في تنفيذ مشروعات كبيرة، تمثلت بمحطة ضخ البابيري المغذية لمشاريع مسكنة غرب، وحتى سهول حلب المخطط استصلاحها بمياه الري، ومحطة ضخ مسكنة شرق، وقناة البليخ الرئيسية السفلى، التي تنقل المياه بالراحة من البحيرة عبر المأخذ القائم في أقصى شمال شرقها، نحو عشرات الآلاف من الهكتارات المستصلحة.
وإذا ما كان قيام البحيرة، والتشجير اللاحق قد أعطى تشكيلاً رائعاً تندمج فيه الطبيعة، مع المياه الصافية النقية، مع الأشجار، فهو بالمقابل، لفت الانتباه إلى الآفاق السياحية الكبيرة، والكثيرة لهذه الضفاف، خاصةً إذا ما أضيفت إليها المواقع والتلال الأثرية التي تحتضنها، وبالرغم من أهمية كل ذلك سياحياً، فقد بقيت المواقع الأثرية والبحيرة، ظلت بعيدة عن الاستثمار، في حال إذا علمنا، أنَّ ضفاف الرَّقة وحوائجها تعدُّ من أهم مناطق التطوير الكبرى في سوريا.