«الزائر الأخير»… قصيدة بشعر

حجم الخط
0

لا نقع في تهمة المبالغة إن قلنا أحياناً أن الشاعر يكتبُ قصيدةً تعادل شعره كلّه، ولا نسعى للتقليل من قيمة الباقي، لكنّ كلّما كانت القصيدة كونية ووجودية، ظّلت خالدة في الأدب وصارت جوازَ مرور تدخل إلى عوالم الشعر المختلفة الثقافة واللغات. و»الزائر الأخير» كانت كذلك، وهي للشاعر الراحل عبدالرزاق عبدالواحد الذي مرّت قبل عدة أيام الذكرى السادسة لرحيله.
وليس من الجديد إذا قلنا إن الشاعر ترك إرثاً كبيراً للأدب العربي، فهو للجميع وسـيظل حاضراً في الشعر الحديث، فهو الذي جعل لغته الشعرية تعشق العراق وبغداد، لم يكن الوحيد في هذا العشق، بل شاركه غيره لكنه مؤخراً طوع اللغة للعشق فقال:
فلم أرَ في بغداد مهما تبلّدت مواجعها
عيناً يهون إنذرافها
ولم أرَ فيها فضل نفس وإن ذوتْ
ينازعها في الضائقات انحرافها
فالشاعر عبدالرزاق، كغيره من الهائمين في حبّ بلادهم، مات ورحل بعيداً عنها. وكان الموت يشكل هاجساً خطيراً عنده وهذا الهاجس تسلل إلى إحدى قصائده فصارت قصيدة وجودية، لا نبالغ إن قلنا هي بمثابة شعر كبير؛ لذا وقفنا عندها في محاولة للكشف عن أسرارها.
«الزائر الأخير» يمكن أن نقول عنها إنها قصيدةٌ تبقى عالقة على أستار الأدب، ولم يتوقع الشاعر نفسه أن تأخذ هذا الصدى فقال: «أحياناً أكتب قصائد ولا أتخيل أنها ستأخذ هذا المدى، ومنها قصيدتي الزائر الأخير، التي أخذت وسام القصيدة الذهبية عام 1986 (التي نالها في مهرجان الشعر العالمي مهرجان ستروكا العالمي في فرنسا). ولسنا بصدد الحديث عن الأوسمة أو الجوائز فالأدب الإبداعي هو الجائزة ولا ننوي الحديث عن قصة القصيدة، بل لماذا هذه القصيدة؟ ولماذا  تستطيع البقاء في كلّ زمان ومكان؟ وصالحة في جميع الآداب بكلّ لغاته المتعددة؟ القصيدة رغم قصرها لكنها مشهد مرئي ويمكن تقسيمه إلى (تمهيد ومشهد سردي ومشهد حواري، ثم الاستعداد للرحيل في الأبيات الأخيرة) ولا نغفل عن العنوان «الزائر الأخير» العتبة الأولى للدخول إلى عالم الوجود في الشعر، وهو استعارة عن الموت فيقول في القصيدة:
دون ميعادِ
دون أن تُقلقَ أولادي
اطرق عليَّ الباب
أكونُ في مكتبي
في معظم الأحيان
أجلسْ قليلاً كأيّ زائرٍ
وسوف لا أسألُ
لا ماذا ولا من أين
وعندما تُبصرني مُغرورقَ العينين
خذْ من يدي الكتاب
اعدِهُ لو تسمح دون ضجة للرف حيث كان
وعندما نخرجُ لا توقظ ببيتي أحداً
لأن من أفجع ما تبصره العيون
وجوه أولادي حين يعلمون
التمهيد: في الأبيات الأولى يستخدم الشاعر الكاميرا؛ ليعرض للمتلقي ما يحدث أمامه على الورق فتظهر تساؤلات القصيدة متعددة وأولها ما هو الموت؟ وكيف نستقبله هذا الغامض؟ تعامل الشاعر معه على إنه إنسان ويمتلك كلّ الحواس العقل الإدراك الفهم، والقصيدة تحمل زمنين الأول الحاضر، والثاني الاستشراف المستقبلي (اطرق عليّ الباب) يخاطب الموت الجالس معه في لحظة الحاضر ويوصيه بالذي يفعله عندما يقبل على سرقته، عمر الشاعر حين يجوع الموت ويأتي (دون ميعادِ دون أن تقلق أولادي) تظهر وصية الشاعر، وطلب الهدوء من رفيقه الموت، ووعده بأنه سيكون في الانتظار، فهل يمكن أن نعد الإنتظار استسلاماً ذاتياً لما يعانيه الشاعر من اغتراب وصار الموت «أهون عليه من  خطية « كما وصفه السياب؟ لو عدنا بتمعن إلى المشهد  التمهيدي الذي رسمه الشاعر عبدالرزاق لموته وهو جالس في مكتبه بانتظار الزائر، الذي يقوده إلى الرحلة الثانية.

المشهد السردي

(أكون في مكتبي معظم الأحيان) إنه يسرد أو يصف لنا حالته للقادم، أو أين هو لكي لا يرتبك الزائر فيثير ضجة في البحث عنه، فيخاطبه مستعملاُ فعل الأمر، ويستمر الحوار، (اجلس قليلاً كأيّ زائر وسوف لا أسألك لا ماذا ولا أين). الشاعر يعزف على أوتار الزمان (سوف) في البيت هي لحظة زمانية نقلت القصيدة من لحظة حاضر الشاعر، ووقت كتابة النص إلى المستقبل وآخر لحظة في حياته الموت، وكان الخيال هو المؤسس لها، كما أن الشاعر يطلب من صديقه اللحظة التي يسرق فيها روحه يقول (عندما تبصرني مغرورق العينين خذ من يدي الكتاب أعده لو تسمح دون ضجة للرف حيث كان) في هذا المشهد يدق ناقوس بدء الرحلة نحو المشهد الختامي، قد  يظن القارئ أن الشاعر دخل في مرحلة الندم والوداع فهبطت الدموع من عينيه، لكنها ليست كذلك، بل هي إعلان عن ولادة حياة جديدة وهذا منطلق الوجود الذي يبدأ به الإنسان منذ أول لحظة له في الدنيا، تبدأ بالدموع، وبالوقت ذاته يكون الشاعر في عمرين، الأول ثوان أو دقيقة هي مع البكاء، والعمر الثاني الذي يتمثل بشيخ كبير.

الاستعداد للرحيل

الأبيات السابقة من الفيلم الشعري الأخاذ، يبدأ من مخاطبة الشاعر لنفسه، وليس مثلما يعتقده المتلقي بسبب استعمال الشاعر لحرف العطف الواو، إنه يهمس لا يريد لمن كان يحاوره أن يسمعه لأنه حتى الهمس يخاف عليهم أن يسمعوه فينبهه بقوله: ( عندما نخرج لا توقظ ببيتي أحدا لأنَّ من أفجعِ ما تبصره العيون وجوه أولادي حين يعلمون) تثار مشاعر الأبوة وتعطي للمتلقي صورة عن وجوه الأولاد بموت آبائهم (أفجع ما تبصره العيون) فحتى بالموت يرى وجوه أولاده بلوحة الحزن، وهذا الذي تمرد عليه الشاعر. القصيدة القصيرة ما هي إلا مجموعة دروس في الحياة والوجود وتنبض بروح الإنسانية ولا تخلو من الوجود والبحث عنه، ولا نغفل عن كونها مشهداً في فيلم شعري صالح لكلّ وقت ومكان.

كاتبة من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية