يوِّلد الانفتاح في الأزمنة السردية من التاريخ تواريخ جديدة، ارتهانا بالمتخيل التاريخي ـ وهو مفهوم طرحه هايدن وايت في كتابه «ما وراء التاريخ» ـ وفيه تُمثَل الأحداث التاريخية في شكل حبكات سردية يمكن تمييزها مأساويا ورومانسيا وهجائيا. وذهب ديفيد هيرمان إلى أن في علاقة الخطاب التاريخي بالخطاب السردي إشكاليات تتعلق بخيالية السرد التاريخي، أي بالطبيعة الأدبية للتاريخ التي تقتضي معالجة وقائع ماضية واستحضارها ومدها بالحياة، عبر أدمجة التاريخ بالسرد، كي يطبخا على نار هادئة، دون خوف ولا تردد كما يقول جاك لوغوف. وبالشكل الذي يمنح الكاتب سعة تخييلية وهو يوجّه التاريخ توجيها يخدم أغراضه، معيدا كتابته حسب درجة ثقته بهذا التاريخ.
ومن الممكن للرواية أن تحكي ملابسات واقعة تاريخية غامضة أو سيرة شخصية عاشت في حقبة من حقب التاريخ وظلت الأسرار تطال كثيرا من مثابات حياتها. وعلى هذا الغموض يراهن السارد موظفا متخيله التاريخي في كتابة تاريخ تلك الحادثة، أو تلك الشخصية في نوع سردي هو (رواية التاريخ) تمييزا له عن نوع سردي عرفته الرواية منذ بواكير تجنيسها هو (الرواية التاريخية) التي تعيد ما رواه التاريخ عن شخصية، أو واقعة ما، فلا يعنيها الغموض ولا يهمها ما سكت عنه هذا التاريخ من ثم هي متقيدة أو بالأحرى خادمة للتاريخ المدون، غير هادفة إلى تدوين تاريخ جديد.
وفي كلا الحالين يكون السارد منطلقاً من التاريخ ومنتهياً به بوصفه سجلاً حافظاً لما جرى في ماضي الزمان فدُوّن وأُرشف حتى وصل إلينا كوثائق ورقية وآثار شاخصة ومحفوظات مخزونة، وفي إثناء ذلك تكون احتمالات النسيان والتناسي متوقعة ومسائل التغاضي والمغالاة ممكنة وواردة. وهو ما تلعب عليه (رواية التاريخ). أما الذاكرة الفردية والجمعية، المسلوبة والسعيدة، الممرنة وغير الممرنة فلا شأن لهذه الرواية به سوى في حدود التأرخة الشخصية لمن يروم كتابة سيرته الذاتية، أو يومياته، أو مذكراته، أو كتابة سيرة الغير ممن يعرفه الكاتب عن قرب، أو من توكل له مهمة تدوين المذكرات بالنيابة.
وقد تصلح الروايات أن تكون معجمات أو موسوعات أو كاتالوجات أو مختصرات متآلفة بعضها مع البعض الآخر من عناصر مشتركة من أنواعها، لكن ذلك يظل مهددا بتفكك حبكاتها وتكون احتمالية انشطار نسيج وحداتها كبيرا نسبيا. ولعل هذا هو السبب وراء تناقص أحجام كتابة الرواية وترشق حبكاتها مقارنة بما كانت عليه في القرن التاسع عشر، ما سمح بظهور أنواع، توهم بعض النقاد أن في هذه الأنواع أجناساً جديدة وهي ليست كذلك، لأن التاريخ السردي لم يثبت استقرارها أو امتلاكها قوالب خاصة بها، لتكون من ثم منضوية في جنس الرواية. وما ظهرت هذه الأنواع إلا بسبب النزوع نحو التكثيف كي يكون العمل السردي أكثر تماسكاً، وهو السبب نفسه الذي به غدت الرواية جنساً عابراً لأجناس السرد الأخرى بقالبها ذي الخصوصيات الأجناسية.
وإذا كان كل ما تقدم يصب في باب (التاريخ) فإن الأمر ليس كذلك مع توظيف (التأريخ) في السرد، إذ لا أدمجة في الزمان ولا سعة وإنما هي الذاكرة التي توجه الكاتب وهي وحدها المسؤولة عما يؤرخه. وما دور الكاتب إلا كدور المؤرخ، الذي لا تتعدى مهمته التصنيف والتبويب والجمع بتسلسلية عددية تتم أرشفتها كتابيا في شكل قصص قصيرة. وقد تعامل بول ريكور مع (التأريخ) بوصفه زمانا وتوقيتا وتقويما وأرشفة وحفظا وتوثيقا وتحقيبا وتمرحلا. وكتأكيد على التعالق بين الزمان والذاكرة، درس أبستمولوجيا التأريخ وعالج علاقته بالذاكرة كإشكالية فينومينولوجية. ونقل عن أرسطو تصويره للذاكرة آتية من الماضي، وأن المؤرخ حين يباشر تدوين تأريخ حقبة أو مرحلة ما، فإنه يبذل كل جهده من أجل إعمال الذاكرة وعندها تحصل المواجهة بين الذاكرة والتأريخ ويكون فعل إعمال الذاكرة (في لائحة القدرات والاستطاعات والإمكانات التي تخص مقولة: أنا اقدر أنا استطيع). واندفاع ريكور إلى دراسة (التأريخ) نابع من إدراكه روعة الذاكرة من ناحيتين: الأولى سعتها لأنها لا تستقبل صورا حسية فقط، وإنما ما تحويه أيضا من الصور والمفاهيم العقلانية. والثانية أن الذاكرة تعادل الكوجيتو. واستعمال الذاكرة على أنواع؛ فهناك الذاكرة الطبيعة والذاكرة المعوقة الحزينة، التي تبث الكآبة والذاكرة السعيدة والذاكرة الممرنة، وقد تكون فردية أو جماعية، لكن ريكور فضّل الذاكرة السعيدة ليس لأنها تدرك التأريخ بحساسية زمانية حسب، بل لأن الأزمان كلها تتجسد فيها.
وخلاصة موقف ريكور يدلل على أنه منحاز للتأريخ والذاكرة كتقويم روزنامي منه تتجسد عملية كتابة (التاريخ) منبثقة من اختزال مزدوج، هو اختزال التجربة الحية للذاكرة وكذلك اختزال التأمل النظري القائم منذ آلاف السنين حول نظام الزمان.
وهو ما يراد فعله عند كتابة التأريخ من خلال مراحل ثلاث:1 ـ مرحلة الأرشفة. 2 ـ مرحلة المحفوظات. 3 ـ مرحلة التعبير والتمثيل ويسميها ريكور المرحلة الأدبية أو التدوينية. وهو الذي يهمنا هنا نظرا لتلازمية الأدب والتأريخ مع الذاكرة تلازما يتجسد عبره نماء الأزمنة كلها داخل متوالية أفعال سعيدة بها يؤرخ الزمان بتقويم يسميه ريكور (الزمان الثالث) وهو زمان تأريخي تنتجه الذاكرة من خلال: إرجاع كل الأحداث إلى حدث مؤسس يحدد محور الزمن أولا، وإمكانية اجتياز الفترات الزمنية، حسب الاتجاهين المتعارضين للسابق واللاحق بالنسبة إلى تاريخ صفر، أو اللا تاريخ ثانيا، وتشكيل جدول وحدات يستخدم لتسمية الفترات المتواترة، وذلك باليوم والشهر والسنة ثالثا.
وإذ يجد ريكور في الزمان الثالث تسلسلا بوصفه هو زمان التقويم الروزنامي، الذي هو اقرب إلى القصد التأريخي الذي به نعرف كيف نرتب الأحداث بالنسبة إلى مجموعة من التواريخ والأسماء، وكيف ننظم سلسلة العصور وتقسيماتها، فإن العيب في هذا الزمان أنه لا يفصل بين الطبيعة والتأريخ. وممن استند ريكور في مرجعياته إليهم كرزستوف بوميان (1934) الفيلسوف البولندي وأستاذ التاريخ الاجتماعي والثقافي، مؤلف كتاب «نظام الزمان» ونقل عنه آراء تصب في فكرة الزمان ودراسة نظامه، ومنها أن الصدق هو في تصور الزمان المستقيم التراكمي الذي لا يعود إلى الوراء إلا ليحدد ثلاث ظواهر: الأولى هي الزيادة السكانية، والثانية زيادة الطاقة المتوفرة والثالثة زيادة عدد المعلومات المخزونة في الذاكرة الجماعية، لكن ريكور اعترض على بوميان من ناحية مقارنة صدق التأريخ بحيوية التاريخ، التي تجعل الأول معرّضا للشيخوخة ـ على حد وصفه ـ متسائلا: هل يمكن للتأريخ أن يعرف شيخوخة دون موت؟
وخلاصة موقف ريكور يدلل على أنه منحاز للتأريخ والذاكرة كتقويم روزنامي منه تتجسد عملية كتابة (التاريخ) منبثقة من اختزال مزدوج، هو اختزال التجربة الحية للذاكرة وكذلك اختزال التأمل النظري القائم منذ آلاف السنين حول نظام الزمان. أما المفاهيم التأريخية كالتحقيب والأرشيف والشهادات والحوليات والمحفوظات، فلا يراها ريكور تتعارض مع كتابة التاريخ بعدّه وريثا للذاكرة، وأنه وفق هذا التصور وُضعتْ التواريخ منذ هيرودت وتوسيديد، وكل تاريخ عبارة عن حبكات نصية مروية في شكل قصص مكتوبة ومؤرشفة كوثائق يتم تجميعها. وهي لا تحكي ما حصل حسب، وإنما أيضا ما يمكن أنه حصل وما قد يحصل ومن هنا تتشكل معرفتنا التاريخية.
وبعد هذا التصور الذي قدمه ريكور للذاكرة في صيغتيها الزمانيتين الأدبية (التاريخ) والتقويمية (التأريخ) نتساءل: أيا من الصيغتين أكثر قدرة على التداخل مع السرد؟ بمعنى هل يمكن للتخييل السردي أن يفيد المؤرخ؟ وهل يمكن للتاريخ أن يفيد الكاتب السارد؟ وكيف يمكن للكاتب أن يجعل ذاكرته متوافقة مع التقويم الروزنامي والزمان التاريخي؟ وإذا كان باستطاعة المؤرخ أن يحدد أحداث حياة الأفراد الشخصية فكيف إذن يضيف لهذه الأحداث ديمومة حياتية تخرجها من مقاييس التقويم المعتادة بالأيام والشهور والسنين لتكون غير قابلة للقياس؟ أو لنسأل بعكس ما تقدم: كيف باستطاعة الكاتب السارد أن يفيد من التخييل التاريخي، الذي يتيحه مفهوم التاريخ ليقوم بتجسيد حياة الأفراد الشخصية وتعاقب الأجيال المعاصرين والأسلاف والأخلاف؟
إذا كان بإمكان الروائي أن يكون مؤرخا بالمعنى العام للتاريخ، متحررا من مقاييس الأرشفة والتوقيت، مفيدا من التخييل بنوعيه السردي والتاريخي، فإن من الممكن إذن أن يصنع تآريخ (جمعا لتأريخ) بالمعنى الزماني للتحقيب والمواقتة الأرشيفية والتجييل العقدي والتمفصل المرحلي التي فيها التأريخ هو تاريخ الفانين عبر أدوارهم الموروثة من قبل فاعلين جدد في التاريخ.
كاتبة عراقية