كنت وأنا صغير، تستوقفني بعض الآيات المتصلة بالزمن، مثل: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا» (العنكبوت، 14) فأتعجب كيف يعيش شخص كل هذا العمر؟ وما كان يذهلني أكثر: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (السجدة، 5). وقوله تعإلى: «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (المعارج، 4). كان كل ذلك يزيد من حيرتي، فأبدأ أقارن زمان يومنا، فلا أكاد أتحمل المقارنة، ويسرح بي الخيال؟ أما ما كان يصيبني بحيرة لا نهاية لها فهو القول بالخلود: «خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ» (البقرة، 163).
الزمنية تجلِّ لتصور للزمن كما يتحقق في مختلف الأزمنة في الماضي والحاضر والمستقبل. وهي تتشكل في مختلف النصوص بصور متعددة. لكن القرآن الكريم يقدمها لنا بصورة مختلفة. فهي تبدأ مع الخلق وتمتد إلى الخلود. بداية محددة، ومستقبل لا نهائي. وهي تتجلى في الآية الكريمة: «كيف تكفرون بالله، وكنتم أمواتا، فأحياكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون؟» (البقرة، 28). إنها صورة لتعاقب الموت والحياة، لتنتهي في حياة مفتوحة على اللانهائي. ويمكننا اختزال هذه الزمنية القرآنية في مفهومين مركزيين من القرآن الكريم نفسه، هما الغيب والشهادة. ويفرض علينا تحليلها النظر إليها من خلال محورين: أفقي وعمودي. المحور الأفقي خطي يبدأ مع حياة يعقبها موت، فحياة أخرى. وهو يقع في عالمين متعاقبين: الدنيا والآخرة. يتصل الأول بعالم الشهادة، والثاني بالغيب.
أما المحور العمودي، فنقسمه إلى ثلاثة أقسام: يرتبط الأول بعالم الغيب وقد غدا متصلا بماض سحيق (قصة الخلق، وقصص الأنبياء والرسل والأمم والشعوب الغابرة). أما الثاني، فبعالم الشهادة، من خلال قصة بعث الرسول (ص) وما جرى له مع من بعثه الله إليهم من وثنيين وأهل كتاب. وفي القسم الثالث عودة مرة أخرى إلى عالم الغيب مع نهاية العالم الدنيوي، وما يظهر من أشراط الساعة، وهو ما كان يدخله المسلمون مفسرين ومؤرخين بالملاحم والفتن، ثم العالم الآخر.
اعتبرنا القسم الأول داخلا في نطاق عالم الغيب، من خلال سرد أخبار الأمم السالفة على الرسول (ص): «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (آل عمران، 44) ونجد هذا أيضا في سورتي هود، 49، ويوسف، 102. ما يدخل هنا في عالم الغيب هو ما يعمل علماء الآثار والتاريخ على استكشافه وتخمين ما وقع فيه من أحداث ووقائع. أما ما يخص قصة البعث، فقد دونه جامعو السيرة النبوية والمؤرخون والمفسرون. وما سيجري في المستقبل يدخل بدوره في عالم الغيب. ولعل ما اهتم به المؤرخون، وحاولوا تقديم مؤشرات عنه لنهاية العالم الدنيوي (قيام الساعة) فنجده مستمدا من النصية القرآنية، وهي تؤكد تلك النهاية: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا، فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ؟». (محمد، 18).
إذا كان المحور الأفقي خطيا، فإن المحور العمودي دائري. فكل المادة الحكائية المتصلة بخلق آدم، والنزول إلى الأرض، وتعاقب الأنبياء والرسل، فليس سوى «قصة واحدة» تتواتر أحداثها على نسق واحد: بعث أنبياء ورسل لهداية الناس وتوحيد رؤيتهم، واختلافهم وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين. وإن اختلفت المادة الحكائية حسب الأمم والشعوب والرسل والأنبياء، فإننا نجد أنفسنا بصدد التواتر السردي، على الصورة التي حللها جيرار جنيت (1972) وإن ضبطنا صورا أخرى مختلفة سنفصلها لاحقا. لذلك يمكننا استخلاص أن المادة الحكائية واحدة، لكن الخطابات التي تقدم إلينا من خلالها متعددة. ولما كانت القصة الواحدة تتقدم إلينا من خلال شذرات متفرقة في عدة سور (قصة موسى مثلا) نتبين أن كل بنية نصية خاصة تتضمن خطابا خاصا بها، وإن كانت القصة مشتركة. وهذه واحدة من بين الخصائص القرآنية التي دفعتنا إلى اعتبار النص متعاليا على الأجناس والأنواع.
إن قصة الرسول (ص) مع قومه ليست سوى تأكيد لقصص كل الأنبياء والرسل مع أقوامهم (البعد الدائري). ولهذا السبب زخر القرآن الكريم، من خلال التواتر الزمني، بما يؤكد هذه النصية والزمنية. ومن هنا تأتي أهمية سرد وقائع عالم الغيب، الذي تحقق في الماضي: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ، مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ» (هود، 120). وليست هذه القصص، أيضا، سوى دعم لعلاقة الرسول بغيره من الرسل والأنبياء الذين بعثوا قبله، وما أنزل عليه تصديقا لهم. ونتبين من خلال ذلك أن قصة عالم الغيب في الماضي، أو في المستقبل ليست سوى قصة عالم الشهادة، وما يمكن أن يتولد عنه مع الزمن في ضوء الدعوى النصية الكبرى التي اختزلنا من خلالها الزمنية القرآنية.
تهدف الزمنية القرآنية إلى بلورة معنى للزمن الإنساني لتحقيق إنسانيته الموحدة له باعتباره إنسانا.
كاتب مغربي
الزمن في القرآن الكريم يسير وفق نظام خاص قائم على التعالي على الزمنية الإنسانية فلكيا أو نفسيا أو سرديا والإخضاع لا الخضوع، يقول تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:” وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ”[14] وسعة علم الله بالأشياء يجعل علمه محيطا بالزمن في ما مضى منه وفي ما هو آت.
“تهدف الزمنية القرآنية إلى بلورة معنى للزمن الإنساني لتحقيق إنسانيته الموحدة له باعتباره إنسانا.”
عسر الفهم والله العظيم.
هنيئا لك بهذه الوثوقية التي إعتقدنا أنها رحلت مع السادات ودعاته. اللهم قوي إيمانك تحت مظلة الإجماع فأنت متأكد أن أي نقاش جدي لأقوالك غير مسموح به. ولكن المونولوج جميل مع ذلك.
لقد قمت استاذي سعيد بقفزة بالقارئ من خلال مقالاتك الاخيرة من مجال لآخر تحياتي
قراءة رائعة
ما طرحه (د سعيد يقطين) بخصوص الزمن تحت عنوان (الزمنية القرآنية)، أحب إضافة له، لاحظت الموظف في النظام البيروقراطي، لديه إشكالية لربط الزمن مع مفهوم الإنتاج، بجودة وكفاءة وبلا غش أو فساد، على أرض الواقع،
ثم كيف يمكن الجمع مع مفهوم (حرية الرأي)، ومفهوم (كذب المنجمون ولو صدقوا)، من جانب آخر؟!
وفي نفس الموضوع نشرت (الجزيرة) في الرابط التالي
https://aja.me/hs9wt
تقرير رائع،
في سياق صفقة القرن الابراهيمية، التي بدأت خطة تنفيذها،
منذ وصول دلوعة أمه (دونالد ترامب)، إلى كرسي السلطة والحكم والعلم في الشهر الأول من عام 2017،
وأول رحلة له إلى السعودية (الإسلام) ثم الكيان الصهيوني (اليهودية) ثم الفاتيكان (المسيحية)،
من أجل تسريع عودة (المسيح/المهدي) المنتظر، مثل ما يؤمن بها جماعة دولة ولاية الفقيه في إيران، والجماعة التي تم تسليمهم كرسي السلطة في العراق وأفغانستان،
بعد ما حصل في 11/9/2001، ومن أجل ذلك تم تغيير نظام الحكم في العراق وأفغانستان،
الذي صادف كلاهما، رفض قبول شرط جورج بوش الإبن (من ليس معنا فهو ضدنا) في حربه ضد الإرهاب،
أو المعارضة لقبول نظرية المؤامرة، لتسويق مفاهيم سيادة الكيان الصهيوني، سبحان الله، وكيف كان ردة فعل دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، من أجل التعامل معها، واستيعابها، ومن ثم محاولة الاستفادة منها،
ثم هل هناك فرق بين دولة بنظامين، أو أكثر، عن دولة بلغتين أو أكثر، في نظام الأمم المتحدة البيروقراطي؟!
هو أول ما خطر لي عند قراءة عنوان (كندا ستمنح إقامات دائمة لتسعين ألف أجنبي ساهموا في مواجهة تبعات فيروس كورونا)، التعامل الإنساني، مع المهاجر من (البدون) بالذات، في دول مجلس التعاون بعد 2/8/1990،
فكيف بأهل البلد الأصليين،
إن كان في فلسطين أو دول قارة استراليا، أو أي دولة من دول قارتي أمريكا؟!
ومن هذه الزاوية كتبت، لماذا لا تكون دولة للجميع، يا (عمرو حمزاوي) بدل عنوان (فلسطين وإسرائيل… دولة علمانية للجميع)، لماذا يجب أن تكون اليد العليا للغة الإلحاد، وليس للغة الإيمان؟!
الإشكالية في كيانات سايكس وبيكو ونموذج مفهوم معنى الاقتصادية فيها (كيبوتسات الشيوعية الجنسية)، وأن يكون نسب الولد إلى الأم،
بسبب فلسفة الشك، بأن ليس هناك إلتزام أو ثقة، في عدم التعدّد، في علاقات أي حيوان مع آخر في أي غابة؟!
ولكن الأسرة الانسانية، خرجت من الغابة،
وتدوين لغة الحضارة، بدأت في وادي الرافدين، بواسطة اللغة الأبجدية (المسمارية/السومرية)،
وبعده، بألفي عام في وادي النيل، بدأ تدوين لغة الحضارة في وادي النيل باللغة الصورية (الهيروغليفية/الفرعونية)،
وبعدها بألفي عام، في بلاد ما بعد نهر السند في دول العرق الأصفر، بدأ تدوين لغة الحضارة، بلغة الأشكال (الماندرين التقليدية (تايوان)، الماندرين المبسطة (الصين)).
وليس بين ذلك أي شيء له علاقة بقارة أوربا، ونماذجها الاقتصادية، كلها، لا من قريب ولا من بعيد، بل له علاقة بقارة آسيا وأفريقيا،
وهو ما فات زاوية رؤية أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية (د توفيق قريرة) في ما نشره تحت عنوان (أبو ذر الغفاري ظاهرة لغوية)،
هو أن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى نهاية عصر التدوين اللغوي، وبداية عصر الترجمة اللغوية، في الدولة الإسلامية،
لم يكن هناك شيء اسمه وظيفة، في الدولة، التي بدأ صك عملتها الأولى، في سلطنة عُمان الحالية،
بل كان الأصل، هو مهنة التجارة أو الأعمال والمهن الحرة، أي ليس هناك تأمين أو تقاعد،
كما هو حال الوظيفة والتأمين والتقاعد، في دولة الحداثة لثقافة الأنا/المال الربوي أولاً،
عدم الانتباه، إلى السياق الزمني والمكاني وقانون التدوين اللغوي، يؤدي إلى انحراف في الفهم والتأويل،
وبالتالي التعبير بمنتج لغوي، مثل مقالك في جريدة القدس العربي،
سيكون خارج السياق العلمي أو اللغوي (أو التأويل وفق مفاهيم الشيوعية/الإشتراكية/اليسارية) على الأقل من وجهة نظري،
فإن كنت تدري يا فرنسي الثقافة/الإقامة/الولاء (د عمرو حمزاوي) أو (د توفيق قريرة) فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدرِ فالمصيبة أعظم،
لأن بدون عقلية الاستشهاد، التي عبر عنها (غسان كنفاني)، في حواره بخصوص الحوار مع عقلية كيبوتسات الشيوعية الجنسية،
لا يمكن أن تنتصر، في تسويق أي مشروع تجاري أو صناعي أو زراعي، بل وحتى في مشاريع الإدارة والحوكمة (الأتمتة)،
يا ممثل جمع تناقضات عقلية آل البيت من جهة، وعقلية شعب الرّب المُختار من جهة أخرى (نواف السامرائي).??
????
/كنت وأنا صغير، تستوقفني بعض الآيات المتصلة بالزمن، مثل: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا» (العنكبوت، 14) فأتعجب كيف يعيش شخص كل هذا العمر؟ وما كان يذهلني أكثر: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (السجدة، 5). وقوله تعإلى: «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (المعارج، 4). كان كل ذلك يزيد من حيرتي، فأبدأ أقارن زمان يومنا، فلا أكاد أتحمل المقارنة، ويسرح بي الخيال؟ أما ما كان يصيبني بحيرة لا نهاية لها فهو القول بالخلود: «خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ» (البقرة، 163)/.. اهـ
اقرأ فاتحة كتاب فراس السواح الشهير «مغامرة العقل الأولى» الذي صدرت طبعته الأولى قبل أكثر من خمسة وأربعين عاما، وسوف تجد (بدءا من الصفحة رقم 9) هذه التساؤلات وهذه الآيات بالحرف الواحد – ترى هل هو انتحال فاقع أم توارد أفكار بين ملحد و”مؤمن”.. ؟؟