منذ سنوات كنت حضرت في الخرطوم، محاضرة لحيدر إبراهيم علي، أستاذ علم الاجتماع العظيم، تحدث فيها عن أشياء كثيرة كانت وما زالت تؤرق هاجس السودانيين، بل وازداد الهاجس ضراوة بتلك الحرب الأخيرة، التي لا طائل منها، والتي قضت فعلا على الأخضر واليابس وحولت شعبا يحب الاستقرار، والتأقلم مع كل أحوال بلاده، إلى شعب نازح، مرهق، باك وشاك، لا يعرف حتى كيف يفكر.
وفي زيارة أخيرة لي للقاهرة، التقيت بسودانيين كثيرين، منهم مبدعون كانوا حريصين تماما على الوجود الدائم في السودان وعدم مغادرته لأي سبب، وقد غادروا بالفعل، ويحاولون الإمساك بالحياة بعيدا عن منابع إبداعهم.
حيدر إبراهيم تحدث في تلك المحاضرة من ضمن ما تحدث عنه، ما أسماه بوهم الزمن الجميل، أي أن الناس كلما تقدموا في العمر، وخفت تهافتهم على الحياة، وربما قلّت حيلتهم في الاستمتاع بها، بعد اكتسابهم لكثير من العلل، يتحدثون عن الزمن الجميل الذي مضى. والحقيقة ليس هناك زمن جميل أبدا، إنما استعادة للذكريات القديمة، ليس إلا. ومحاولة صناعة زمن مواز قديم، ينتعش به الشخص.
أنا أختلف مع حيدر إبراهيم في هذا المعنى، فالذكريات المستعادة تبدو شخصية إلى أبعد حد وغالبا محصورة بين أفراد الأسرة والأصدقاء، لكن الجو المحيط بالإنسان، والذي تجدد بالفعل عبر السنوات، وغالبا إلى الأسوأ بالرغم من التطور الظاهر، يجعل من الممكن تسمية الزمن القديم، بالزمن الجميل. وهذا السياق ليس خاصا بالسودان، وإنما في كل الدنيا، ودائما ما نجد صورا لفنانين قدامى، كتب تحتها، صورة من الزمن الجميل، ونجد صورا لمدينة كانت هادئة وبلا زحام، وشوارعها تظللها الأشجار، وكتب عليها: من الزمن الجميل. وفي بلاد ساد فيها الهوس، وقمعت فيها النساء مثلا أفغانستان، نجد من يضع صورا للمرأة الأفغانية، وهي تشارك بأناقة في كل نشاطات بلادها الوطنية والاجتماعية في زمن ما قبل الهوس، وكالعادة كتب تحت الصور: من الزمن الجميل.
لقد عشنا في مدينة بورتسودان، أيام طفولتنا وبداية الشباب، وعشنا في مدينة الأبيض في إقليم كردفان زمنا، ذلك الذي بدأت فيه كتابة الشعر، وأستطيع أن أذكر مئة شيء مبهج، كان يشكل زمنا جميلا بالفعل، ولا يمكن التغاضي عنه خاصة حين تنظر لما يعيشه أبناؤك في هذا الزمن الذي لا أنكر تطوره على مستوى الاتصال والمعلوماتية وإمكانية العثور على إبرة في كومة من القش، لكن بالقطع ليس زمنا جميلا. وربما يكون جميلا للجيل الحالي، إن عاش زمنا مستقبليا أكثر رعبا منه.
الحياة كانت بسيطة وغير معقدة بالمرة، حين تجرح يدك أو ساقك، تذهب مباشرة للمستشفى المفتوح بلا حارس في العيادة الخارجية، ولا كومبيوتر يسجل الاسم والهوية، ويمررك بعشر محطات كلها تستجوبك، قبل أن يخيط أحدهم جرحك. ستجلس مباشرة على كرسي أمام آلات الجراحة البسيطة ويتولى ممرض مدرب خياطة الجرح، إنها مهمته وليست مهمة الطبيب الذي ينشغل بأشياء أكبر، أيضا عند الشعور بالمغص، ستعثر على ما يسكنه من دون إجراء فحوصات، وربما أشعة سونار حتى يسكن مغصك.
مجتمع أكبر
كانت الأحياء عبارة عن بيت كبير، مفتوح لجميع الأطفال والشباب، أي كبير في الحي، هو أب أو أخ للجميع، ويمكنه اتخاذ القرارات بشأن كل ما يخصهم، الأمهات يرعين أبناءهن وأبناء جاراتهن، وتستطيع أن تأكل وتشرب في أي بيت. ولو ابتعدت قليلا في المدينة، ستعثر على مجتمع أكبر، هو أيضا مجتمعك، كباره آباؤك، وصغاره أبناؤك، وهكذا. لا يوجد متحرشون إلا نادرا، وهؤلاء يعرفهم المجتمع، وينبذهم، ولا يوجد لصوص إلا في أضيق نطاق.
وقد ذكرت مرة حكاية الصورة التي التقطها لنا أنا وأخي فيصل، المصور محمد سليمان، وأوحت لي رؤيتها مؤخرا، حين زرت الأسرة في بورتسودان، بروايتي الأخيرة «فوتوغرافي – غليان الصور»، وأذكر أن محمد سليمان هذا، كان طويلا ونحيفا، ويحمل الكاميرا في يده دائما، وتجده في مباريات الأحياء التي تجري على الملاعب الترابية، يلتقط الصور للاعبين، ويأتي في اليوم التالي لتوزيعها مجانا، رافعا من الروح المعنوية للجميع.
كانت المكتبات أيضا جزءا مهما من أدوات الزمن الجميل، المكتبات التي لا علاقة لها بالدفاتر والأقلام ومواد القرطاسية، إنها كتب فقط، متاحة للشراء إن كان ثمة نقود، وللاستعارة مجانا، إن لم يكن القارئ يحمل نقودا. وقد شكلت تلك العلامات الجميلة فعلا محطات لأمثالنا من عشاق القراءة، وكنت أستلف من مكتبة عكاشة الصغيرة، القريبة من بيتنا، في وسط المدينة، كتبا في الأدب والتراث، وغيره، ولم أدفع يوما لأي كتاب. لقد كان عكاشة صامتا دائما، يده على خده، من دون شرود، يلتقط القراء المهتمين، يرشح لهم الكتب في كلمات قليلة، ولطالما فكرت في سؤاله عن ربحه من هذا السلوك، لكن مؤكد يحس بالبهجة أنه ساعد في تنمية عقول صغيرة.
الحروب الدائرة الآن، أكبر أدوات لقبح الحاضر، حروب في كل مكان، كل يحاول إراقة دم غيره، وغيره يحاول إراقة دمه، الموتى بالآلاف، والنازحين المرعوبين بمئات الآلاف، والحياة برمتها، أشبه بكابوس عليك أن تحياه مرغما، أو تموت فيه برحابة صدر. وهذا ما حدث بالفعل لأشخاص كثيرين أعرفهم ومنهم مبدعون صميميون مثل الشاعر كمال الجزولي، أحد أعمدة الكتاب والشعر والنضال في بلادي. وكذا مفكرين وشعراء وكتاب عديدين من بلاد قطعا تفتقد زمنها الجميل.
*كاتب من السودان