يفضي بك الزقاق إلى المستوصف العتيق الوحيد الذي كان في حيك، تمرّ خلف سوره فتقف مشدوها أمام شجرات الأوكالبتوس الثلاث الفارعات ‘ الوحيدات كراهبات’، اشتدت خضرتها فسبغت عليها جمالا، عبق الذكرى ينثال من ذراها..ماتزال منتصبة سامقة..تتذكر ‘باحسين’ عميد المستوصف، الممرض الثخين الذي كان سكان حيك ‘أنزا’ يلوذون به عند كل ملمة..هو ذا الزقاق الحميم الغالي على نفسك، تذرعه الآن في وقت مبكر من يوم السبت 15-12-2012، والناس لا حركة لهم،لعلهم نيام، تمنعهم برودة الصباح من الخروج.. تستعيد صبيحة بعيدة أواخر الستينيات قبل ولوجك بقليل مدرسة المختار السوسي..كانت أمك تصحبك فيها عند ‘باحسين’ الذي صار اسمه مرادفا للمستوصف مرتبطا به..تدلف إلى بهوه، وتنتظر أمك دورها،بعد حين ستدخل غرفة ‘العميد’، وتصف له الإلتهاب الذي أصاب مثانتك، ثم يشير إلى الحاوية التي تحوي حبوبا زرقاء تأخذ منها حفنة، ستخفف من حرقتك وتحيل لون بولك إلى أزرق كان يثير ضحك أصدقائك في الحي لما تتبولون في المرحاض العام.. كلما عدت إلى ‘أنزا’ بعد رحيلك عنها، لابد أن تعوج على هذا الزقاق الذي صار الآن معبّدا ،هادئا، تتوسطه جنينة صغيرة تفتنك فيها زهرات الزنبق وشجيرات الليمون والزيتون والموز. تترك الزقاق وراءك قاصدا البحر الذي أضحى أنيقا بهيا، عادت إليه طهارته الأولى وعذريته التي افتقدها خلال ثلاثة عقود ونيف، بعد أن امتدت على طوله دور الصفيح التي حجبت وجهه الأزرق الفتان .. أمواجه الخافتة الكسلى تداعب الشط في هذا الصباح الصرد، والشمس التي طفقت تسطع حيية خفرة تبعث أشعتها فتلمع كاللجين على أمواجه، وهي تنشر دفئا يسري في الجسوم فيغريها بالحركة والإنتشار. تذكرك بشمس ‘ جاك بريل’ في أغنيته الشهيرة ‘أسماء باريس’ ترى رجلا أربعينيا يقتعد وابنه الصغير صخرة من صخور البحر ،وبصره يرنو إلى الأفق البعيد حيث باخرة ضخمة تمخر عباب الأطلسي تتجه إلى ميناء قصي.. الرجل وصغيره يذكرانك بأولى زياراتك للبحر صحبة أبيك، وأنت لمّا تزل طفلا غضا،..تلاله الرملية النقية الوهاجة تتراءى لك الآن من شاشة ذاكرتك ..وقوافل الشباب الهيبي كانت تنعم بركوب أمواجه أو الإستلقاء على رمله الرخص ..وكرفاناتهم التي حال لونها من فرط التجوال والشموس التي لفحتها. كان أمرا عاديا أن تراهم بقاماتهم الفارعة وشعورهم الطويلة المنسدلة على أكتافهم، وهم يختلطون بسكان حيك في سوقه الوحيد أو ‘المارشي’ كما كنتم تسمونه. كانت المرة الأولى التي ترى فيها البحر ..ولم تنس جزعك حين شاهدت موجه العتيّ الذي كان يهدر في تلك الصبيحة البعيدة من يوم الأحد ..خلته يسرع إليك ليلتهمك ،فلذت بالفرار تاركا أباك الذي كان يقتعد صخرة عالية يضحك من هلعك الطفولي هذا. تذرع الشاطئ الرملي الذي كان موجه ينسحب إلى الوراء هادئا، يكاد صوته لا يسمع، فيما نوارس بيضاء ورمادية تملأ رحبه، لمشيتها المتهادية وصوتها المتصاعد وقع دفين لا يمكن نسيانه البتة، تمضي في سيرك حتى تبلغ معمل السمك ‘كرارا’، لم يعد الآن سوى أطلال دارسة..لابد أن أيام عطلك الصيفية ما تزال بادية لك، قوية ذكراها موشومة.. بعد أن تنتهي السنة الدراسية، كنت تتسابق ومعك أبناء الحي لتقفوا في طابور طويل أمام هذه المعامل التي يعجّ بها حيك ..تنتظرون أن ينادي عليكم المسؤول عن التشغيل، وحتى يحين وقت ذاك النداء، كنتم تشوون ما حصلتم عليه من سمك السردين على قصدير صدئ، تغسلونه جيدا بماء البحر فتوقدون تحته نارا تتخذونها من أخشاب صناديق السمك المهترئة المستغنى عنها..لمذاق هذا السردين البلدي الطازج المشوي طعم آسر مابرح ثاويا في ذاكرتك.. كان السردين الوفير، أيامئذ، طعام الفقراء، يجلبونه بالمجان وبكميات كبيرة، فيعدونه مشويا أو مقليا أو يطحن مع حبات بصل وأرز فيصير كويرات في طجين شهيّ. تسعدون بعملكم الصيفي هذا، عمل قد يوفر لكم فضلا من مال يعينكم على اقتناء بعض من لوازم الدراسة..ينادى عليكم في وقت متأخر من النهار، بعيد أفول الشمس، تمرون بالساحة الرئيسة للمعمل حيث يسمع هدير آلات الصبر التي تصمّ آذانكم، ثم تدلفون إلى المكان المخصص لكم، تمسحون فيه علب السردين التي كان الفرن يلفظها ساخنة جدا ..حرارتها الشديدة تحرق أياديكم الغضّة.. لن تنسى نظرات المراقب القاسية والسيل العارم من الشتائم الذي كان ينهمر من فمه كالحمم، فيقذف به كل من تأخر أو تهاون في مسح العلب، كما لن تنسى يده الغليظة وهي تهوي على قفا صديقك ‘ع’، لمّا ضبط في سرواله علبتي سردين يخفيهما، رأيته يخرّ على أرض المعمل اللزجة من فرط وقع هذه الصفعة القاسية.. تتذكر الشهيد ‘محمد كرينة’، الفتى الإتحادي، ذا الجسم الضامر، المناضل الذي عذبته الأيادي القذرة حتى الموت، كان يكبركم بسنوات قليلة، وكان يشتغل بالمعمل ذاته طيلة أيام الصيف، ضمن فئة الكبار ذوي ‘التجربة.’ تعود من حيث أتيت، وأنت تحاذي مويجات البحر التي تنكسر وديعة، ترتطم بحصى الشاطئ فتحدث صليلا ترتاح له أذنك، يهفو بصرك نحو الأفق الشاسع الأزرق، فيلوح أمامك الشاطئ الأنزوي طويلا ممتدا ومتنوعا حتى فيلا الحاج، ثم تهجس في قرارة نفسك: ‘يا لغباء هؤلاء المسؤولين، حين لوثوا هذا الشاطئ وأفسدوه عندما اتخذوا من حي أنزا فضاء لإقامة معامل شتى، من السمك والغاز والمواد الكيماوية السامة حتى الإسمنت، أحالت لون سمائه رمادا دائما، تنفث فيه المداخن سمومها وروائحها الكريهة، ما جعل أبناء الأحياء الأخرى من مدينتك أكادير، ينعتون حيك ب ‘أنزا الخانزة’، وهو ما كان يسبب لك وللآخرين مثلك حرجا شديدا، لا يبدد من قسوته وزرايته إلاّ نبوغ العديد من شباب حيك في حقول دراسية شتى كالطب والهندسة والقانون واللغات، بله في كرة القدم والنضال السياسي اليساري الذي كانت ‘أنزا’ حاضنته وبؤرته…فأضحى هذا الحي رمزا للتحدي الطالع من رحم المعاناة.. يذكرك الزقاق بلحظات هاربة، تستعيدها الآن لمّا كنت تجتازه للسمر مع نفر من أصدقائك بمنزل ‘المختار’، حيث كنتم تجتمعون أواخر الثمانينيات تلعبون الورق حتى الهزيع الأخير من الليل، وقد يستبد بكم الجوع فتقصدون فرن ‘سليمان’ لتبتاعوا منه خبزات شديدة السخونة، من أول ‘رمية’ يخرجها خباز الفرن في هذا الوقت الذي يرين فيه جو من السكينة على الحي، تغمسونها في صحن مترع بزيت الزيتون البلدي الحرّ، مع أكواب شاي صحراوي كنت تعده بأناة وعناية ودراية.. أو قد تقرؤون كتابا مهربا أثار لغطا وضجيجا حول الملكية على عهد الحسن الثاني، حملته ‘هيلدة’ معها، عشيقة ‘المختار’،الألمانية الجميلة ذات العينين الزرقاويين والشعر الفاحم كأنه قطعة ليل، والقامة المتوسطة الميالة إلى الإمتلاء، ‘لا يشتكى منها قصر ولا طول’، لم تكن ‘هيلدة’ تشبه في شيء الصورة النمطية للألمانيات الشقراوات فارعات القامة الصلبات..كنتما تتحدثان أحيانا في مقهى ‘عند رشيد’ عن كافكا وموزيل وتوماس مان، وتعدك أن تحمل إليك بعضا من مِؤلفاتهم في زيارة أخرى إلى المغرب.. كانت ‘هيلدة’ ذات معرفة واسعة عميقة بالموسيقى الكلاسيكية، وكنت تقف مشدوها أمام سعة ثقافتها الموسيقية، فينتابك خجل مرده فداحة تغييب التربية الموسيقية والفنية بصفة عامة من مناهج التعليم التي تلقيتها.. تستريح في ‘المقهى الفلسطيني’ الذي شيده مهاجر من فلسطين على ربوة عالية، المكان جميل، يغوي بالجلوس، والمدى أمامك شاسع، يسرح نظرك بعيدا، هو ذا الشاطئ الذي كان مقفرا في ما مضى، قبل أن تعبد الطريق ويشيد المقهى.. تتذكر ‘ع’.. ذات ليلة شتائية، التقيتما حين أغسى الليل، ذرعتما الشاطئ الذي كان موجه ينسحب هادئا وديعا تلك الليلة..اقتعدتما صخورا ملداء مستوية كما لو كانت سريرا قدّ من حجر..إلا أن ريحا خفيفة طفقت تهبّ، أدركتما أنها ريح شتوية، الريح التي تشي بسقوط المطر..في البدء ،كان المطر رذاذا خفيفا، تركتما البحر واحتميتما بالسور الواطئ لدار ‘حسن’، الفيلا الصغيرة المهجورة المنزوية، تقابل البحر وحدها، تدنو منه كما لو كانت تحرسه.. استمرّ الرذاذ فأضحى قطرا يهمي، ولم تكونا تشعران به وأنتما في حميّا عناق لذيذ..عناق تحت المطر..لكن هطوله الذي بدأ يشتدّ أفسد عليكما هذه اللحظة، فعدتما أدراجكما إلى الحي وقد بللكما المطر الذي صار عارضا سحّاحا. المغرب
استاذي العزيز تلك هي أنزا سليلة الاطلسي حيت الجمال والبساطة والاصالة ،فسيفساء إجتماعي عز نظيره، تكافل وتضامن وصور إجتماعية أقل مايمكن ان توصف به أنها سنم الرقى الانساني حيت التضحية والبذل تستحق أنزا أكثر ونتظر منك االاكثر لتأثيت للثقافة الانزوية التي كلما تمحصت فيها الا ونتبتني قشعريرة محشوة بحسرة.
واصل اتمنى لك التوفيق اشهد انك أعدت لي الدفء بعد شتاء تقافي بارد وجاف جثم على أنزا طويلا
تحية حارة لأستاذنا المقتدر محمد الفحايم على هذا النص القوي الشجي الذي قرأته بقلبي قبل لساني، كلماتك تختارها بعناية بالغة و لغتك الفصيحة زادت النص جمالا أخادا ، شكرا لأستاذنا الكبير ، و جزاك الله خيرا على ماعلمتنا
استاذي العزيز تلك هي أنزا سليلة الاطلسي حيت الجمال والبساطة والاصالة ،فسيفساء إجتماعي عز نظيره، تكافل وتضامن وصور إجتماعية أقل مايمكن ان توصف به أنها سنم الرقى الانساني حيت التضحية والبذل تستحق أنزا أكثر ونتظر منك االاكثر لتأثيت للثقافة الانزوية التي كلما تمحصت فيها الا ونتبتني قشعريرة محشوة بحسرة.
واصل اتمنى لك التوفيق اشهد انك أعدت لي الدفء بعد شتاء تقافي بارد وجاف جثم على أنزا طويلا
تحية حارة لأستاذنا المقتدر محمد الفحايم على هذا النص القوي الشجي الذي قرأته بقلبي قبل لساني، كلماتك تختارها بعناية بالغة و لغتك الفصيحة زادت النص جمالا أخادا ، شكرا لأستاذنا الكبير ، و جزاك الله خيرا على ماعلمتنا
أشكركما عزيزيّ مصطفى وعبد الصمد .. لكلماتكما الحميمة الصادقة وقع طيب عليّ ..كل المحبة والتقدير لكما ..محمد الفحايم