لا تؤدي الزيادة السكانية إلى رفع معدلات الاستهلاك وحسب، وإنما تقود إلى الارتقاء بمستوى الابتكار أيضاً. وبالتالي، فهي كفيلةٌ بحلّ الكثير من المشكلات التي تتسبب بها، كما يخلص كتاب «الوفرة الخارقة: قصة النمو السكاني والابتكار والازدهار الإنساني فوق كوكبٍ معطاءٍ للأبد» لمؤلفيه ماريان توبي وجيل بولي والصادر في 655 صفحة عن «معهد كاتو» في الولايات المتحدة.
عقد المسؤولون الصينيون اجتماعاً في عام 1980 بغية مناقشة مسألة تحديد النسل، وكان سونغ جيان، الحاضر في الاجتماع المذكور، قد عاد لتوه من القارة العجوز، التي قرأ فيها كتابين مؤثرين، «حدود النمو» (الصادر عن معهد الأبحاث: نادي روما) و»خطة للبقاء» (الذي يستند إلى مقالٍ نشرته مجلة «ذي أيكولوجيست»). وقد خلص كلا الكتابين إلى أن الازدياد السكاني سيأتي على موارد الأرض بما يفضي إلى عواقب تشمل «تعطّل المجتمع البشري والتفكك النهائي لمنظومات دعم الحياة على كوكب الأرض».
أسهم سونغ في إقناع الحزب الشيوعي الصيني بفرض سياسة الطفل الواحد لمدة 35 سنة بلا هوادة، مع فرض عقوباتٍ مدمّرة على كل زوجين يتخطيان الحد المسموح به، وقد وصلت هذه العقوبات أحياناً إلى هدم المنازل. وتم حرمان الأطفال المخالفين من الخدمات العامة، أو تم إرسالهم للراغبين بتبنيهم خارج البلاد. وتم تقييد أي امرأة تحمل للمرة الثانية وإخضاعها للإجهاض المتأخر، كما أغرق بعض المسؤولين الأطفال الرضّع المخالفين في دلاء الماء.
تجسّد سياسة الطفل الواحد الصينية مثالاً متطرفاً لما دعاه ماريان توبي وجيل بولي، بمعاداة الإنسانية: الاعتقاد بأن الناس يشكّلون عبئاً على الكوكب، وبالتالي فإنه من الأفضل التخفيف من أعدادهم. ويتبنى قلةٌ من المختصين والناشطين البيئيين نسخاً متنافرةً من وجهة النظر هذه. إذ يستشهد المؤلفان بكريستوفر مينز الذي خلص إلى أن مرض الإيدز قدّم «الحل اللازم» للزيادة السكانية. بينما اكتفى آخرون، مثل نجمة الحزب الديمقراطي الأمريكي، الكساندريا أوكاسيو- كورتيز، بالتشكيك في أخلاقية فعلٍ من قبيل إنجاب الأطفال. وهي ليست وحدها في ذلك، فوفقاً لاستطلاع رأيٍ دولي، يتردد ما يزيد على 39% من الناس في إنجاب الأطفال لأسباب بيئية.
يعتقد توبي، الذي يعمل في معهد كاتو (وهو معهد أبحاث ليبرالي) وبولي (من جامعة بريغام يونغ) أنه ينبغي أن يتمتع الناس بالحرية لإنجاب العدد الذي يشاؤون من الأطفال، استناداً إلى حجةٍ يسوقانها ومفادها، أن الناس لا يستهلكون الغذاء وحسب، وإنما لديهم عقولٌ تنتج الأفكار أيضاً. وبالتالي، ستؤدي زيادة السكان إلى رفع مستوى الابتكار، الذي سيفضي بدوره إلى تكفّل الزيادة السكانية نفسها بحلّ الكثير من المشكلات التي قد تنجم عنها.
ليست هذه بالفكرة الجديدة، ففي عام 1980 جرى الرهان بشأنها بين الاقتصادي الراحل جوليان سيمون، وبول أيرليتش، الذي ما فتئ يحذّر من الزيادة السكانية، وكان الأخير على ثقةٍ بأن موارد العالم آيلةٌ إلى النفاد، وأن مجموعة من المواد (الكروم والنحاس والنيكل والقصدير والتنغستن) ستشهد ارتفاعاً في أسعارها خلال العقد التالي. أما سيمون، فاعتقد أن الذكاء الإنساني سينجح في العثور على موارد جديدة، وبالتالي فأسعار هذه العناصر ستنخفض، وفاز سيمون بالرهان حقاً.
قام توبي وبولي بتوسيع نطاق تحليل سيمون، فدرسا مجموعةً أوسع من البضائع والمواد على مدى فترة زمنيةٍ أطول (إذ تعود بعض معلوماتهما بتاريخها إلى عام 1850) كما استخدما قياساً مختلفاً للقيمة. فعوضاً عن الاعتماد على الأسعار بالدولار الأمريكي، ومن ثمّ تعديلها بما يتوافق مع التضخم، الأمر الذي يصعب إنجازه بدقةٍ عبر الحدود الجغرافية والحقب الزمنية المختلفة، تبنى الرجلان «الأسعار الزمنية» والسعر الزمني هو مقدار الوقت اللازم لتحصيل ما يكفي من المال اللازم لشراء شيء ما. فإذا كان شخصٌ ما يجني 10 دولارات في الساعة، والموزة تكلّف دولاراً واحداً، على سبيل المثال، فالسعر الزمني للموزة هو ست دقائق. وإن هذه الطريقة، فضلاً عن صلابتها، تفضي إلى بعض النتائج التي تدعو إلى التفاؤل، فإن متوسط السعر الزمني لسلّة من 50 مادة، بدءاً باليورانيوم والمطاط، وانتهاءً بالشاي والروبيان، قد هوى بنسبة قدرها 72% في شتى أرجاء العالم، خلال الفترة ما بين عامي 1980 و2018. وبالتالي، تؤول الموارد إلى المزيد من الوفرة (أي أنها تغدو متاحةً لأعدادٍ متزايدة من الناس) في ضوء ابتكار طرقٍ جديدةٍ للعثور عليها واستغلالها، بل شهد السعر الزمني للعديد من البضائع المصنعة هبوطاً أسرع، ففي عام 1997، كان العامل الكادح العادي في الولايات المتحدة يستغرق 828 ساعة لشراء جهاز تلفزيون مسطح الشاشة، لكن بحلول عام 2019 انخفض السعر إلى 4.6 ساعة.
يُستخلص من طريقة الأسعار الزمنية أن العالم يزداد ثراءً بوتيرةٍ سريعة (مع حالات التعثر الشاذة الناجمة عن الأوبئة أو الحروب). كما تميط هذه الطريقة اللثام عن مشهد طازجٍ لانعدام المساواة على المستوى العالمي. فوفقاً لحسابات المؤلفين، في عام 1960 كان على المواطن الهندي العادي أن يكد سبع ساعاتٍ ليضع الأرز على طاولة العائلة، بينما توجب على المواطن الأمريكي العادي أن يعمل ساعةً واحدةً ليشتري كميةً كافيةً من القمح. وانخفض الرقمان المذكوران بالنسبة لأحفادهما، الأول إلى 58 دقيقة والثاني إلى 7.5 دقيقة. وبالتالي، كان على الهندي أن يعمل مدة أطول بسبعة أضعاف ليشتري الطعام في عام 1960، وقد ارتفع الرقم إلى 7.7 بالنسبة لحفيده اليوم، ما يعني أن انعدام المساواة يمضي في مسارٍ تصاعدي. لكن يفيد تفسيرٌ آخر بأن الهندي قد جنى 362 دقيقة في اليوم، في حين أن الأمريكي جنى سبع تلك القيمة. يذهب المؤلفان إلى أن «عدم المساواة الزمنية بين الاثنين قد انخفض بشكل كبير وسريع. فحين يزداد توافر المواد الأساسية، يكون الفقراء هم المستفيدين الأساسيين».
يؤكد المؤلفان على أنه جرى الحط من قدر التقدم المنجز في الماضي، كما أن المستقبل قد يكون وردياً أكثر مما يتصوّر معظم الناس. غير أنهما يقرّان بأن الكثير من المشكلات قد تقع، وقد تقضي القيود المفروضة على حرية الرأي على أي أملٍ بالابتكار، وقد تحبط الحكومات قوى السوق بما يحد من الحوافز لتطوير أفكارٍ جديدة. خصص المؤلفان حيزاً صغيراً جداً لمناقشة التغيير المناخي، لكن مقترحهما الرئيسي في هذا الصدد يتمحور حول الحاجة لإجراء المزيد من الأبحاث لتوفير الطاقة النووية بأسعار أرخص، وطرقٍ أكثر أماناً، ولا شك في أنهما مصيبان تماماً.
تكتنف الكتاب بعض العيوب الصغيرة الأخرى، بما فيها ما ورد في عنوانه الفرعي، إذ لا يمكن لأي كوكب أن يكون معطاءً للأبد. لكن على وجه الإجمال، إنه كتابٌ يسهم في توسيع الآفاق ويبعث على التفاؤل ويحرّض على تبنّي وجهات النظر الإنسانية.
عن مجلة الإيكونوميست
خالص التقدير للمترجم على هذا الموضوع الذي يستحق الاهتمام؛ فعلًا كنت أبحث عن موضوع ( الأسعار الزمنيّة ) الآن وجدتها؛ لقد وجدتها؛ أيّها المترجم الحصيف.