ازدهر الحديث عن «التقليد الإسلامي» في الأكاديميات الغربية، خاصة الناطقة بالإنكليزية منها، بوصف ذلك بديلاً للمنظور الاستشراقي، الذي طالما قدّم تصورات خارجية عن الموضوع البحثي الذي أنتجه، أي «الشرق» عكست نزعات الهيمنة والتحكّم الاستعماري من جهة، وفرضت من جهة أخرى نمطاً من المعرفة، لا تأخذ المنظورات والآليات الداخلية لوعي وتفكير غير الغربيين بذواتهم وتراثهم، بهذا المعنى فإن إنتاج نظرية حول التقليد الإسلامي، محاولةٌ لإتاحة المجال لفهم كيف عرّف المسلمون ذاتهم تقاليدهم الدينية والفكرية والاجتماعية وعاشوها، بعيداً عن مصادرات السادة البيض، الذين جاءوا ليخضعوا العالم لشبكة كثيفة من المركبات السلطوية – المعرفية الاستعمارية.
بالنسبة للمتحمسين لهذا المنظور فإن إدوارد سعيد نفسه، الناقد الأبرز للمستشرقين، كان جاهلاً بالتراث والتقليد الإسلامي، ما جعله هو أيضاً يقع في فخ الاستشراق. وهي تهمة لا داعٍ لمناقشتها. فالكل، حسب ما راكمه التقليد السعيدي نفسه، معرّضون لاتهامات مشابهة، في مزاودة لا تنتهي. الأهم ملاحظة أن كل محاولة لصياغة نموذج نظري عن التقليد الإسلامي تُعنى أساساً، وبالدرجة الأولى، بتبيان مدى اختلافه بنيوياً عن فكر الغرب والرجل الأبيض والحداثة، أي أن جزءاً أساسياً من هوية ذلك التقليد يعرّف بنقيضه، أو باختلافه عمّا يحاربه نقّاد الاستشراق. لدرجة يشعر فيها المتابع أن الرجل الأبيض حاضر في كل حديث عن التقليد الإسلامي، أكثر من فقهاء الإسلام وعلمائه أنفسهم.
يدفع هذا للتفكير بالمعنى السياسي والأيديولوجي لإسهامات نقّاد الاستشراق وأنصار التقليد الإسلامي المعاصرين. وهو معنى غير ثانوي بقدر ما هو تأسيسي في فكرهم، فرغم تأكيدهم الدائم على انشغالاتهم البحثية المحضة، يبدو أن شغلهم الشاغل، نوعٌ من تصفية الحسابات، ليس مع المستشرقين القدامى وحسب، فنقد المعارف التي خلّفها جيل مضى من الباحثين أمر طبيعي، لكن أساساً مع أفكار ومفاهيم أساسية في «العقل الغربي» نفسه. الهدف غالباً هو نقد كل ادعاءات العقلانية والتنوير والإنسانية والتحديث، وهي معركة ليست جديدة في الفكر الغربي ذاته، بل يمكن تتبع جذورها في القرون الثلاثة الأخيرة على الأقل، وبالتالي يبدو أنه تم توريط «التقليد الإسلامي» بمعارك غربية داخلية، تسعى إلى إعادة تأويله وصياغته دوماً، بما يتناسب مع طروحاتها وجدالاتها المعاصرة. الأمر الذي يشبه تماماً ما كان يفعله المستشرقون في ما مضى، فقد كان «الشرق» دوماً مجال تأويل لاستدعاء ما اعتُبر ناقصاً أو غائباً أو مُختلفاً عليه غربياً، مثل الروحانية أو العاطفة أو الانفكاك من قمعية العقلانية. في كل الأحوال ربما يكون «التقليد الإسلامي» نفسه، إن كان الحديث عن شيء كهذا ممكناً، بريئاً من معارك نقّاد الاستشراق المعاصرين، فما هي أهم هذه المعارك؟ وإلى أين يقود تتبع جذورها؟
شبح بيرك
يمكن اعتبار المفكر الإيرلندي إدموند بيرك، الذي عاش في القرن الثامن عشر، مثالاً ممتازاً عن جذور معركة نقد الاستشراق الحالية، فهو من كتب واحداً من أهم وأعمق الانتقادات للثورة الفرنسية وقيمها. كما أنه من أفضل من تحدثوا عن أهمية «التقليد» في وجه ميتافيزيقا التنوير، واستعادة بيرك قد تجعلنا لا نرى كثيراً من الجديد والابتكار لدى أنصار «التقليد الإسلامي».
سخر المفكر الإيرلندي، بتمكّن لا يمكن إنكاره، من فكرة حقوق كونية لإنسان كوني، ليس بدوره أكثر من تجريد ميتافيزيقي، يمكن أن تكون له نتائج قمعية خطيرة، عبر إرغام البشر المتعينين، في زمان ومكان وهوية معينة، على التمثّل بمثاله، وفرض «حقوقه» المفترضة عليهم، شاءوا أم أبوا، بغض النظر عن إرادتهم وسياقهم الثقافي والاجتماعي. بيرك لم يكن مجرد رجعي حاقد على الثورة الفرنسية، فهو أكد أن للبشر حقوقاً ومطالب مشروعة، بل دعم عدداً من مطالب التحركات الاستقلالية عن الإمبراطورية البريطانية، وعلى رأسها الثورة الأمريكية، إلا أنه لم يتصوّر حقوق البشر وحياتهم إلا ضمن تقليد معين، يجب الحفاظ عليه. لأن ترحيل الناس من تقاليدهم أكبر اعتداء ممكن على حياتهم واستمرارهم. وهكذا لا بد من الخلاص من الميتافيزيقيا القمعية للتنوير، والبحث عن تحسين أوضاع البشر في سياقات واضحة، وبالاتفاق مع ثقافاتهم المترسّخة. فالناس لا يتحركون في العدم، والتقاليد لم تنشأ إلا عبر تجربة تاريخية متراكمة طويلة، خلقت مؤسسات وقيماً لا يمكن الاستغناء عنها، وفي مواجهة ثورة الفرنسيين اعتبر بيرك أن نموذج «الثورة المجيدة» الإنكليزية، في القرن السابع عشر، لم يسع إلى إفناء التقاليد، بل على العكس، الثورة هي التي حافظت على التقاليد والقيم الإنكليزية الأكثر ترسّخاً ونبلاً. وهكذا يجب أن يتحرّك البشر، إن أرادوا الحفاظ على حق أو ردّ مظلمة.
توجد حالياً فئة من المفكرين والباحثين في الجامعات الغربية، إلى جانب ناشطين ومؤثرين في المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الثقافية والإعلامية، تشكّل ما يشبه نخبة عالمية، تأتي دوماً من المركز، أياً كانت أصولها. تحاول أن تفرض أساليب التفكير والتصرف الصحيّة، وتفرز المسلمين والعالمثالثيين الصالحين والأصيلين من نظرائهم الطالحين والمستلبين.
يمكن تتبع كل هذه الأفكار في عمل نقّاد الاستشراق المعاصرين، فما الاستشراق إلا تعميم لميتافيزيقيا التنوير بشكل من الأشكال، عبر فرض نماذج تدّعي الكونية، في البحث النظري والسياسة الاستعمارية، على البشر في العالم الإسلامي، الذين نُعتوا بالتخلّف أو الجهل أو التأخر، لمجرد أنهم لم يتطابقوا مع النماذج الكونية الميتافيزيقية للعقل الغربي الاستعماري، أما استعادة «التقليد الإسلامي» الذي عاشه البشر قروناً، ونظّم حياتهم في مختلف المجالات، فيحمل نبرة بيرك، المولّه بالتقاليد، بشكل واضح. كما أن تمجيد ذلك التقليد وإظهاره بهيئة مثالية، بل واعتباره متفوقاً على الدولة والحوكمة الحديثة، قد لا يكون أكثر من صدى لانزعاج المفكر الإيرلندي من نموذج الدولة/الأمة الفرنسية، بقوانينها وحقوقها وأسلوب حكمها، إلا أن بيرك، رغم مواقفه المؤيدة للمتمردين الأمريكيين وغيرهم، لم يكن ثائراً جذرياً ضد الاستعمار، بل كان نصيراً مخلصاً للتاج البريطاني وامبراطوريته الشاسعة، وهذا ليس تفصيلاً هامشياً بالتأكيد.
امبراطورية عشّاق التقاليد
قد يعتبر تلاميذ الدراسات بعد الكولونيالية اليوم، أن بيرك ليس أكثر من «رجل أبيض ميت». وهذا لن يكون ظالماً للغاية، فهو، من جانب معين، يمثّل النسخة الأكثر إتقاناً ومثالية للإدارة الاستعمارية البريطانية، التي اهتمت بتقاليد الشعوب الخاضعة لها وراعتها، بل كثيراً ما أعادت إنتاجها، وفرضتها عليهم بالقوة. فعلى المُستعمَرين، كي يخضعوا جيداً للتاج الامبراطوري، أن يطيعوا سادتهم وأشرافهم ومشايخهم المحليين، الذين غالباً ما أعاد الحكام الاستعماريون البريطانيون تمكينهم. فيما كان المستعمِرون الفرنسيون أكثر استعلاءً على التقاليد المحلية، وحاولوا أحياناً اجتثاثها. في الأمر نوعٌ من الصراع بين نموذجين متداخلين ومتنافسين من الاستعمار. لا يمكن القول إن النموذج الإمبراطوري انتهى في عصرنا، رغم أن كل الدول تقريباً تحتفل بأعياد استقلالها. ما يسميه البعض «امبراطورية العولمة» يُظهر عدداً من المشتركات مع الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، خاصة من ناحية «التمكين» للتقليد والثقافات والهويات، ومنحها «الاعتراف». وإن كان التمكين المعاصر أقل صلابة وأشد احتفاءً بالفردانية. بهذا المعنى فإن الحديث عن «تقليد إسلامي» بسمات معينة، وفرضه بسلطة الأكاديميات الغربية حتى على المسلمين، سواء كانوا من أنصار الإسلام السياسي، الذين قيل لهم إن «دولتهم مستحيلة» والإحالة طبعاً لوائل حلاق، أو من العلمانيين، الذين اعتُبروا مُستلبين للرجل الأبيض، وغير أصيلين بما فيه الكفاية، قد لا يكون أكثر من إعادة إنتاج لفعل الحكام الاستعماريين القدامى، ومستشاريهم من الباحثين.
لاحظ كثير من المفكرين، وعلى رأسهم السوري صادق جلال العظم، منذ صدور كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، أن هذا النمط من الأفكار والطروحات لم يكن لينتشر عالمياً، ويأخذ كل هذه المكانة، إلا لأنه ظاهرة من ظواهر العولمة. وإذا كانت العولمة قد تنشر معها كونياً مقاومة الإمبراطورية، فإن التحديد الفوقي لما هو إسلامي، وكيف يجب أن يفكر الناس في العالم الثالث بتراثهم، ليس بالتأكيد فعلاً مقاوماً.
سادتنا الجدد
توجد حالياً فئة من المفكرين والباحثين في الجامعات الغربية، إلى جانب ناشطين ومؤثرين في المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الثقافية والإعلامية، تشكّل ما يشبه نخبة عالمية، تأتي دوماً من المركز، أياً كانت أصولها. تحاول أن تفرض أساليب التفكير والتصرف الصحيّة، وتفرز المسلمين والعالمثالثيين الصالحين والأصيلين من نظرائهم الطالحين والمستلبين. قد يكون التنوير بالفعل قائماً على ميتافيزيقيا فُرضت بشكل استعماري، والدولة الحديثة مما خلّفه لنا «الرجل الأبيض». لكن كل هذا صار في النهاية جزءاً من حياة البشر وتفكيرهم في منطقتنا، تماماً كما هو جزء منهما لدى الغربيين. ومن العبثي افتراض أنه يمكن «تقشيرنا» لإزالة الرواسب التي علقت علينا من الاستعمار، لإعادتنا إلى أصالة تقليدنا المتفوق على القمعية الحداثية.
بهذا المعنى فإن نقد أنصار «التقليد الإسلامي» من حملة الجنسيات الغربية، قد يكون ضرورةً، وفعلاً مقاوماً للهيمنة، فمن حق البشر أن يفهموا تقليدهم، ويعيدوا إنتاجه، بما يتفق مع سياقات الصراع الأيديولوجي والسياسي في بلدانهم، وليس كما تفرضه أولويات السادة البيض الجدد.
كاتب سوري