في سورة القيامة حديث مطول عن سفر الناس إلى العاجلة، وما ينتظرهم بدءا من رحلة الموت وصولا إلى الحشر وانتظار الحساب. في الآية 29 نقرأ قوله تعالى: (والتفَّتِ السّاق بالساق) ما يمكن أن يشدّ باحثا في اللغة هنا هو، استعمال حرف الجرّ وما يمكن أن يثيره من لبس خصوصا بالمقارنة مع تراكيب مشابهة في مواضع أخرى من النصّ القرآني، وما قاله المفسرون وهم يشرحون هذه الآية. وفي رأيي فإنّ كثيرا من الإشكالات اللغوية التي تثار بمناسبة هذا الاستعمال هي إشكالات مرتبطة بالتعامل بين حرف الجر، واسم العضو الجسدي المعاد والعالق بذلك الحرف.
القراءة النظامية لهذه الآية يمكن أن تربطها باستعمال مشابه في سورة أخرى هي سورة المائدة (45) في قوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). العبارات المقصودة هي (العين بالعين) و(الأنف بالأنف) و(السن بالسن) و(العين بالعين) وقد استعملت في سياق الحديث عن القصاص: أنّ من يقتصّ ينبغي أن يسلب المقتصّ منه من العضو الذي سلب منه قبلا؛ وفي هذا السياق أفاد، فحرف الجرّ معنى العوض. لكن ما يلاحظ في هذه الآية أنّ أعضاء الجسد مثلا لم تسمّ جميعا وهذا مفهوم لأنّ المسمّى ليس للحصر والقصر، بل التمثيل الذي يمكن أن ينطبق على الأعضاء الأخرى، التي لم تسمّ وهنا يمكن أن نقول قياسا (اللسان باللسان) و(الساق بالساق) وغيرهما من أعضاء البدن الأخرى.
ذكر بعض المفسرين الفعل المحذوف، أو المقدر الذي يقترن به حرف الجر فنجد في تفسير ابن كثير مثلا ما يلي: قوله تعالى (والجروح قصاص) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح»، فأضاف الأفعال المحذوفة التي يمكن أن تعلق بحرف الجرّ وتفيد معنى القصاص. غير أنّ هذه الأفعال المختلفة لا تناسب حرف الجر بقدر ما تناسب تسمية الحدث المناسب في القصاص: من فَقْءٍ للعين وجدع للأنف وقطع للسان وغيرها؛ في هذا السياق يكون حرف الجر مُلبسا، إذ لا يمكن أن نفهم كيف تفقأ العين بالعين خارج سياق استدلال عقلي مطوّل يستحضر عملية الاقتصاص بالحرمان من عضو هو موضوع حرمان سببّه هو لغيره. هذا الفهم البعيد إشاريّ أو اقتضائيّ لأنّ فيه إحالة على معنى العوض بما يفيد أن تمام الجملة هو (القصاص بجدع أنف المظلوم يكون بجدع أنف الظالم) فالجملة التي ينبغي استعمالها هي أطول من تلك التي حاول الشارح إثباتها إذ فيها معنى القصاص على ما يقتضيه روحه. فمعنى حرف الجر لا يفيد معناه التركيبي، الذي يفهم من علاقات الكلمات المذكورة (العلاقات النسقية الصريحة) بل من الكلمات غير المذكورة (العلاقات النسقية المضمرة). ومن جهة أخرى، فإنّ الباء العوضية (وهي التي تفيد العوض) لا يعني فيها العوض معنى الاستبدال، الذي يكون بين أشياء موجودة، بل بين أشياء كانت موجودة ثم عدمت فهو عَوَضُ عدمٍ وليس عوضَ وجودٍ.
لا يمكن لعبارة (الساق بالساق) الواردة في سورة القيامة أن تُفسَّر بالآليات نفسها التي فسرت بها عبارات مشابهة في التركيب ( العين بالعين..) وردت في سورة القصاص. فعلى الرغم من أن البنية التركيبية السطحية هي نفسها: (اسم عضو جسدي + باء الجر+ اسم عضو جسدي نفسه). الشائع في الاستعمال هو (الساق على الساق) فحرف الجر المناسب هو (على) الذي يفيد الاستعلاء؛ هو مناسب لفعل الالتفاف التي تقتضي أن تكون ساقٌ عليا ملتوية أو ملفوفة على ساق سفلى. من الناحية الإدراكية بني فعل الالتفاف حين يستعمل معه حرف الجر (على) على أن تكون الساق العليا هي مرجع الالتفاف فهو وصف للوضعية بالنظر إلى الساق الملتفَّة وليس إلى الساق التي عليها حدث الالتفاف. فوجه النظر الاستعلائية هي التي تستوجب حرف الجر على في هذا السياق.
ليس حرف الجر الباء في سياق الآية المذكورة بديلا من (على) ولذلك لا يفيد الاستعلاء، بل نراه مفيدا معنى نحويا هو القرب أو ما يسميه النحاة أدنى الملابسة التي يمثلون لها بـ(مررت بك) أي مررت قريبا منك كأني ألابسك. الفرق بين الاستعلاء والملابسة في فعل الالتفاف، أنّ يكمن في زاوية النظر التي يرى منهما الواصف الساقين. فكل التفاف يقتضي ملابسة فعلية ولكن ليس كل التفاف يقتضي استعلاء، ولاسيما في وضعية الساق الملتفة بالساق. أغلب المفسرين على أنّ (التفاف الساق بالساق) هي هيئة الميّت الذي أسلم الروح، وهي وضعية تختلف عن وضعية التفاف ساقي الحي الواحدة على الأخرى. حين تضع ساقا على ساق في المقهى، فذلك يقتضي أنّ إحدى الساقين مستعلية والثانية مستفلة؛ لكن التفاف ساق الميت على الأخرى لا استعلاء فيها ولا استفال، بل فيهما اقتراب بأن تلابس الساق أختها ولكأنّها تندمج فيها. استعمل حرف الجر الباء إذن في معنى أدنى الملابسة، وليس نيابة عن حرف الجر على المفيدة للاستعلاء.
لقد أثر عدم الانتباه إلى هذه القراءة في أن بحث المفسرون عن معنى الساقين فأخرجوا المعنى إخراجا رمزيا بأن اعتبروا إحدى الساقين رمزا للدنيا والثانية للآخرة. يقول بعض المفسرين : «حدثني محمد بن سعد، قال عن ابن عباس، قوله: (والتفت الساق بالساق) يقول: والتفت الدنيا بالآخرة، وذلك ساق الدنيا والآخرة، ألم تسمع أنه يقول: (إلى ربك يومئذ المساق). حدثني محمد بن عمرو عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (والتفت الساق بالساق) قال: التف أمر الدنيا بأمر الآخرة عند الموت (تفسير الطبري).
ما جعل المفسرين يميلون إلى التخريج الرمزي ليس أنّ حرف الجر الباء استعمل في غير أصل استعماله في هذا السياق؛ بل لأنّ الساق والتفافها بالأخرى ليس من علامات الموت، بل من علامات البأس والحياة والتفاف الساق بالساق عند الموت ليس شيئا مجربا، لذلك نقلوه إلى الاستعارة في معنى التقاء الدنيا بالآخرة والآجلة بالعاجلة لحظة استلام الروح من خالقها. المجاز ليس شيئا مستمدا من الحقيقة بل هو مهرب من الحقيقة غير الواضحة أو قل غير المجرّبة: هل الميت يمكن أن يترك ساقه ملتفة بعضها على الآخر؟ أم في الأمر معنى آخر غير واضح؟ الهروب إلى الرمز أو إلى المجاز قد يكون سببه غموض الفهم. وهذا يعني أنّ فهم المعنى الحقيقي يظل مشكلا وقد يكون سببه تخريج حرف الجر غير الأصل في تخريجه.
قد نجد في سياقات من التفسير الرمزي استعمالات أخرى من نوع: «حدثنا ابن حميد عن الضحاك، قال: اجتمع عليه أمران، الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه». ومن الممكن أن ينفتح التفسير على ما شاء الله من التخريجات الرمزية التي تبطن لدى المفسرين ميلا إلى إطلاق المعنى من قيده التركيبي؛ فكلما كان المعنى طلقا كان التفسير أكثر تعميما.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية