لا شكّ في أنّ الكتابة الروائيّة اشتباك مع التاريخ، وإن لم يكن موضوعها التاريخ، فقد تكون مساءلة له أو نفياً، أو محاولة للهروب منه، أو تقديم خريطة مغايرة له، وما ذلك إلاّ لأنّ جوهر الفنّ الروائيّ هو بحث الإنسان عن كنه التغيير في سبيل فكرة الحريّة، وسؤاله عن سبب التحوّلات وعن ضرورتها.
يتجلّى هذا الجوهر عادة في صياغة أسئلة طفليّة، لكنّها أسئلة الوجود العميقة، مثل: لماذا لم نبق كما نحن؟ ولماذا تغيّرت القيم التي جرى الناس عليها؟ والبلاد والأحبّة، والناس والمدينة، والسماء والأغاني! تلك هي هواجس الرواية التي عرفها لوكاتش وسمّاها الحنين إلى قيم مفقودة في عالم متدهور، وهذا الحنين إلى القيمة يستتبع الحنين إلى فضائها الزمكانيّ، ويستتبع أسئلة فلسفيّة أعمق عن أصل الشرّ ودونيّته، وطارئيّته، وعلاقته بالوعي أو بالواجب، كما عند حنّة أرندت، وعمّا إذا كانت الشرور في العالم اختياريّة أم أصيلة، وكيف تحوّل هذا العالم المبنيّ على أساس البحث عن الحقّ والخير والجمال إلى ديستوبيا تتنكّر لهذه القيم المطلقة، بل تتجاهلها. سيبقى الإنسان مركز هذا الجوهر بوصفه إشكاليّة، إذ يمكنه احتمال الديستوبيا ساعياً إلى الخلاص منها، لأنّها تتيح طرح الأسئلة فحسب، لكنّه يهرب من اليوتوبيا إذ تنتفي فيها فكرة الحرية والتفكير والسعي.
يمكن للموتى في رواية إبراهيم عبد المجيد الأخيرة، التي تحمل عنوان «السايكلوب»، والصادرة عن دار مسكلياني تونس 2019، أن يديروا حوارات واثقة عن هذين العالمين (اليوتوبيا) التي جاؤوا منها، و(الديستوبيا) التي نعيش نحن فيها، وعن البرزخ بينهما، وهو الحياة التي عاشوها، فانقضت مع سبعينيّات القرن العشرين. إنّهم مجموعة مختارة من الشخصيّات الروائيّة في نصوص سابقة للكاتب، أصابها الحنين إلى الحياة بأسئلتها المقلقة ورغبات بشرها غير وشيكة التحقّق من جهة: «إنّ الملائكة يدركون ما في أرواح الموتى من أشواق إلى الحياة!»، واشتاق مؤلّفهم إليهم من جهة أخرى، فاستعادهم بقوّة الفكرة وأدوات الخيال: «لا أحد يعرف قدرات الموتى»، فأخذوا يعودون من موتهم على امتداد الرواية، ليفاجَأوا بعالم مغاير تماماً لذلك الذي رحلوا عنه، إنّه ديستوبيا كريهة وفريدة، وسيتبيّن لنا، بوصفنا متلقّين، بقيامتهم، المفارقات بين العالم العربيّ في مفاصل حساسة منه في العصر الحديث إلى السبعينيّات، وبين ديستوبيّتنا التي نعيش فيها منذ مرحلة الثورات العربيّة، والحروب في تونس ومصر وسورية واليمن، لنقوم مع الشخصيّات بعمليّة قراءة لهذه التحوّلات التي عشناها، وكأنّنا نتعرّف إليها من جديد عبر هؤلاء الموتى الذين قاموا، وبدأوا يتلمّسون معالم عالمنا بعيون طازجة مقبلة من جنان الخلد، وقد نسيت الضغائن والاستبداد والأطماع البشريّة، ويصير هذا التحوّل أشبه بمنصّة ناقدة، إذ تأتي الشخصيّات من أزمنة أخرى لتنتقد الراهن: «أرض لا يطير فيها شعر النساء، كيف تطلب من رجالها أن يحلّقوا عالياً!»، و»تكفي هذه العمارات العالية التي رأيتها حولي، وقد كانت كلّ البيوت في أيّامنا صغيرة وجميلة. وهذه القاذورات! كانت البلديّة في الماضي تكنس الشوارع كلّ مساء. وهؤلاء الأطفال النائمون على الأرصفة؟ ألم يعد لهذه البلاد حكّام؟».
تشكّل الفانتازيا الحامل الفنيّ الملائم لنصّ الديستوبيا، وهنا يمكن الإجابة عن سؤال تودوروف حول ضرورة أن تكون عناصر الأثر الأدبيّ كلّها فانتازيّة: من مورفولوجيا القرون الوسطى، إلى الأشباح والمصائد وسراديب الموتى، أم أنّ بعضها يحقّق الغرض.
يستحثّ الكاتب سامح عبد الخالق كلاًّ من سعيد صابر الذي يقرّر كتابة الرواية بدلاً من سامح، الكاتب الحقيقيّ، ويارا، وصفاء الأولى، وصفاء الثانية، والبهيّ، وزين الشخصيّة المعلّقة بين خيال الكاتب وشاشة الكومبيوتر… فتعود تباعاً إلى ماض كان واعداً حين غادرته مع انتهاء الروايات التي ضمّت كلاًّ منها، لتقارنه بحاضرنا الديستوبيّ الذي تتمنّى فيه سعديّة المرأة الجميلة، مكتملة الأنوثة، والتوّاقة إلى الحياة، والتي تمارس فنون السحر، تتمنّى أن يظهر السايكلوب، الكائن الخرافي الأوديسيّ ذو العين الواحدة، فيبتلع هذا العالم بظلمه وقسوته ورجاله تحديداً، بوصفهم رمز السلطة، فتنتهي الديستوبيا.
يمكن القول إنّ اليأس هو الذي يصنع رواية الديستوبيا، اليأس من لا معقوليّة الواقع السياسيّ الاجتماعيّ، وإحساس كلّ من الفرد والجماعة بالعجز أمام التغيير، والانهزام، والضآلة، وسقوط الأحلام التاريخيّة، ولعلّ ذلك تأتّي في «السايكلوب» من فشل الثورة بعد نجاحها. تخالف عودة الشخصيّات إلى عالمها ما يقتضيه جوهر نظريّة الرواية، وهو استعادة المفقودات القيمية، ومعها الألفة والأمان، لكنّها في «السايكلوب» تبدو عودة نقيضة تسبب الاغتراب، وهذا وجه آخر للديستوبيا: «هذه بلاد لا أعرفها!»، وما الأعراض من لغة، وفيسبوك، وناشطين سياسيين إلاّ ممرّ لاغتراب الجوهر، وهو العنف، وغياب القيم الناجم عن ممارسات السلطة، والأخطر منه هو ذلك الناجم عن ممارسات البشر ضدّ بعضهم بعضا، إذ اغتربوا تماماً عن قيمهم التي عاشوا فيها أزمنة طويلة.
قيامة الشخصيّات:
تردّد سؤال منذ أيّام على (تويتر) يقول: إلى أين تذهب شخصيّات الرواية بعد انتهائها؟ إنّه ليس سؤلاً جديداً، هو أيضاً سؤال طفليّ عميق لطالما طرحناه عن أبطال القصص والحكايات والمسلسلات، بل كثيراً ما يطالب المتلقّون الروائيين بجزء تال للرواية يتتبّعون فيه سيرورة حياة الشخصيّات التي تعلّقوا بها، وهذا ما نسمّيه باستحكام الإيهام، الذي ينشأ عن براعة الكاتب، وتنشأ عنه تلك العلاقة الوثيقة بين الشخصيّة والمتلقّي. ولعلّ جزءاً من الإجابة عن هذا السؤال يمثّل توق المبدع ذاته إلى شخصيّاته التي خلقها وأطلقها لمصائرها، سواء أحبّ تلك المصائر أم كرهها، وقد حمّلها رؤيات متعدّدة للعالم، ومشاعر مرهفة أو قاسية… ولعلّه عشق إحداها على طريقة بجماليون أو صار صديقاً لأخرى، أو ضحيّة لها، فيبكي معها أو من أجلها، ويسأل عن مصيرها بعد أن أفلتت من قبضته، ويعتذر عن تقصيره تجاهها كما فعل إبراهيم عبد المجيد عبر قناع سامح عبد الخالق مع شخصيّة زين في الرواية: «في رواياتي شخصيّات غاضبة منّي، تستطيع أنت تعويضها عمّا لم أكتبه عنها».
ولعلّي أعود هنا إلى حنّا مينا في روايته (النجوم تحاكم القمر) 2004، إذ نصبت شخصيّاته محكمة تقاصصه فيها على المصائر التي اختارها لها. يمكن أن نقترح تسويغاً فنيّاً لاستعادة الروائيّ لشخصيّاته، وهو أنّ أسئلة كبرى تجاه التاريخ وتحوّلات الواقع طرأت وغدت أكبر من الشخصيّات وماضيها، وتحتاج هي وكاتبها لمساءلات جديدة، فيعاتبها وتعاتبه على هشاشة الخلق أو البراءة، التي حمّلها إيّاها في عالم كان يتّجه إلى ديستوبيا تستلزم أدوات أكثر صلابة وأوسع معرفة، كان على الشخصيّة أن تقايض بها روحها، وقد يستعيد شخصيّاته أيضاً لتساعده في تحمّل شهادته على هذه الديستوبيا التي لن يطيقها وحده! يبدو هذا الاستحضار من مستلزمات رواية الديستوبيا، حيث يتمسّك الكاتب بشخصيّات غائبة، على غرار استحضار الأرواح، لأنّ الشخصيّات التي حوله تنوء بحمل المعاناة. يستحضر الكاتب سامح عبد الخالق شخصيّات إبراهيم عبد المجيد لتحكي الأجزاء الغائبة من الحكايات، فتقابل مندوبه سعيد صابر وهو إحدى شخصيّات رواية «هنا القاهرة» 2014، الذي قرّر أن يكتب النصّ الذي كان غائباً عوضاً عن كاتبه، وتروي الشخصيّات أحوال مصر والعالم العربيّ، بعد تحوّلات كانت شاهدة عليها، وتعقد مقارناتها مع ما يحدث اليوم ثمّ تنسحب بقرار من كاتبها، وغالباً بقرار منها بعد خيبة أمل بالعودة إلى واقع الأسئلة والآمال البرزخيّ، الذي عاشت فيه حتّى السبعينيّات، مفضّلة العودة إلى قبورها، ومن ثمّ إلى يوتوبيّتها الخالدة حيث لا حروب ولا حتّى أسئلة.
تشكّل الفانتازيا الحامل الفنيّ الملائم لنصّ الديستوبيا، وهنا يمكن الإجابة عن سؤال تودوروف حول ضرورة أن تكون عناصر الأثر الأدبيّ كلّها فانتازيّة: من مورفولوجيا القرون الوسطى، إلى الأشباح والمصائد وسراديب الموتى، أم أنّ بعضها يحقّق الغرض. لا شكّ في أنّ الكليّة ليست ضرورة، إذ تكفي حالات فانتازيّة محدّدة كاستعادة الأموات من قبورهم أو من عالمهم الأخرويّ، ليتحقّق الإيهام في أنّنا في عالم بين عالمين، ولا سبيل لإنكارهما، والتردّد بينهما: «لقد خرجت صفاء فكيف لم ترها؟ أيقنت أنه يهذي وأنّ ما سمعته أوهام لتستمرّ الرواية». الحياة والتحوّل إلى شبح، وهم هنا أحياء لكن يستطيعون أن يكونوا أشباحاً لا يراها أحد، ويتلصّصون بعضهم على بعض، أم تراه يهذي وقد تسلّطت عليه هواجس الرعب؟».
يشكّل الفانتازيّ عنصراً رئيساً من عناصر الديستوبيا، ومن مظاهره التردّد بين عالمين: عالم الجريمة والانتقام، الذي يقوم به الموتى تجاه من ظلمهم من الأحياء، وعالم المشاعر الإنسانيّة المرهفة، كعلاقات الحبّ والجسد، واليوميّ من تفاصيل المرحلة ووقائعها. لقد عادت بعض الشخصيّات لتنتقم لمصيرها، وتجد قتلتها وتدينهم، أو تقتلهم كما فعل سامح بزوج يارا بطلة «الإسكندريّة في غيمة» 2013: «هل عرفت الآن حجم جريمتك؟ لقد انتهزت وجودي في السجن وخطفت حبيبتي». إنّ عالم العشّاق وممارسات الجسد مع الأحداث الوقائعيّة هي حوامل الفانتازيا أيضاً، وتشترك فيها عناصر ذات طبيعة رومانسيّة، تذكّر بأدب القرن الثامن عشر، وبشعراء المقابر والأفيون، مثلما تنتقل بنا إلى القرن الرابع عشر وحكايات الهروب من الطاعون في أزقّة فلورنسا، حيث حكايات الديكاميرون، وستظهر بعدها العوالم الإنسانيّة لتريحنا من لهاث ما فوق الطبيعيّ، إذ يفشل سامح الكاتب في استعادة ريم بطلة «أداجيو»: «إنّ الحبّ الحقيقيّ لا يعود من الروايات، لكن تكتبه الروايات».
سنجد عنصراً آخر يعزّز الديستوبيا بمروره ثمّ انسحابه، إنّه (العجيب) الكرنفاليّ متمثّلاً في عودة البهيّ أحد أبطال «لا أحد ينام في الإسكندريّة» 1996 ونسائه العاشقات.
إنّ هذا التجاور بين العالمين الواقعيّ وفوق الطبيعيّ وتزامنيّتهما هو ما يخلق الفانتازيا، ويضمن استمرار إيهام المتلقّي، وهذه الصنعة الفانتازيّة ليست ضرباً أدبيّاً، بل أسلوبا فرديّا حسب تودوروف، يتفرّد فيه صاحب «السايكلوب» هنا بمزج التهكّم «سيجدونها (مقبرتي) مفتوحة وسأتحمّل أنا كل مشكلات هذا البلد وإن كنت ميتاً»، بأكثر القضايا جديّة ووقائعيّة، مثل سرقة الآثار، والفساد السياسي، وقضايا الحشيش… ولعلّ ما يرويه بضمير (الأنا) الذي يلجأ الراوي إليه عادة في القصص الفانتازي وفقاً لتودوروف، يثبّت مصداقيّته إذ يمثّل المحكيّ معرفة مشتركة لدى أفراد البنية الاجتماعيّة الثقافيّة: الحكايات الشعبيّة وأبطالها، مثل بهيّة وياسين وأدهم الشرقاوي، والأساطير الإغريقيّة ومنها السايكلوب، وأساطير الشعوب كحكاية الحمار، والموسيقى العالميّة، والأغاني الشعبيّة، والأغاني السائدة في مراحل زمنيّة مخصوصة، والفضاء المتعلّق بعالم التكنولوجيا ووسائل التواصل عبر تويتر وفيسبوك، وكذلك مع الأسئلة الصعبة التي يسألها أبطال الروايات بلا تحفّظ: «وهل يوجد مدنيّ بخلفيّة دينيّة؟ سؤال لم يسأله أحد»، و»هي الثورة اللي كانوا بيتكلموا عليها راحت ليه؟ مش خلعوا الرئيس؟». يتكئ ذلك كلّه إلى ما هو إنسانيّ، فيستحكم الإيهام على أشدّه حين تنبني علاقات الحبّ بين البشر، أو بين الموتى والأحياء: «بيت بلا امرأة يعني بيتاً بلا سقف، تهبّ عليه الرياح بما تحمله من أتربة».
يمكن أن نعدّ «السايكلوب» شكلاً من أشكال الرواية التفاعليّة التي تستعمل الوسائل الرقميّة جزءاً أساسيّاً من بنيتها النصيّة، إذ لن تتمّ عمليّة التلقّي بلا معرفة بمنصّات التواصل الاجتماعيّ، من شكل وتصميم وأدوات اتصاليّة وصور، وطريقة الدخول والخروج إليها
ينقلنا إبراهيم عبد المجيد بحرفيّته المعهودة إلى الفانتازيّ عبر صناعة الصورة، وهذا ما يطلق عليه العوالم السيرياليّة، إذ يبدأ المشهد الأوّل من الرواية على الشكل الآتي: «أغمض عينيه وفتحهما أكثر من مرّة. ألقى بنظره إلى الأرض فرأى المقابر تمتدّ إلى مسافات بعيدة من كلّ ناحية. تمطّى فاردًا ذراعَيه وهو يشعر بأنّ جسده مضموم كأنّه نام مئة عامٍ. عاد ينظر إلى المقابر فأدرك أنّه خرج من واحدة منها. كيف خرج من المقبرة حقًّا؟ نظر إلى اسمه المنحوت على قطعة مربّعة من الحجر القديم. «هنا يرقد في سلام الأستاذ سعيد صابر. ولد عام 1945 وتُوفّي… ماذا سيحدث لو نزع الحجر؟ لقد عاد إلى الحياة. قفز في الهواء، ثمّ مدّ يديه متصوّرًا أنّ نَزْعَ الحجر من مكانه سيكون أمرًا صعبًا، لكنّه خرج بين يديه بسهولة. مشى به قليلاً، ثمّ ألقاه على الأرض وهو ينظر حوله في ارتباكٍ».
لا شكّ في أنّ قيامة سعيد صابر ستحيلنا إلى قيامة جريجور سامسا: «استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحوّل في فراشه إلى حشرة هائلة الحجم. كان مستلقياً على ظهره الجامد الذي كان مقسّماً إلى أجزاء صلبة تشبه الدروع، وعندما رفع رأسه قليلاً أمكنه أن يرى الجثّة المقبّبة بنيّة اللون مقسّمة إلى فصوص جامدة مستديرة. لم يكن غطاء الفراش مستقرّاً فوقها بعد في وضعه السابق، بل لقد كان على وشك أن ينزلق تماماً من فوقه… انزلق هابطاً مرّة أخرى إلى وضعه السابق، وتفكّر قائلاً في نفسه: إنّ هذا الاستيقاظ المبكّر يصيب المرء بالغباء التام». سنلاحظ بعد قيامة سعيد صابر السيرياليّة حواراً يوميّا ناقداً مع الكاتب سامح عبد الخالق حول الظواهر الفنيّة، ومن سيوكل إليه بكتابة الرواية: «ثمّ فكّر أنّ جميع الناس يكتبون الروايات الآن، فلماذا لا تكتبها شخصيّة من وهم؟».
ولعلّ التجاور بين العالمين الواقعيّ والسيرياليّ شبيه جداً بما فعله كافكا، إذ سنجد غريجور سامسا الحشرة يتأمّل في قدر الحليب، وحوله عائلته، والمرأة الغسّالة، وأخته الأثيرة تعزف على الكمان، والمستأجرون الثلاثة يستمعون… أمّا بخصوصنا نحن المتلقّين، فإنّنا ندخل ونخرج بارتياح بين العالمين الواقعيّ وفوق الطبيعيّ، لنعيش الفانتازيا بمفهومها العلميّ الصحيح، وليس بوصفها المفردة التي يستعملها جلّ النقّاد أو المشتغلون بالأدب على غير ما تعنيه.
الرواية التفاعليّة:
يمكن أن نعدّ «السايكلوب» شكلاً من أشكال الرواية التفاعليّة التي تستعمل الوسائل الرقميّة جزءاً أساسيّاً من بنيتها النصيّة، إذ لن تتمّ عمليّة التلقّي بلا معرفة بمنصّات التواصل الاجتماعيّ، من شكل وتصميم وأدوات اتصاليّة وصور، وطريقة الدخول والخروج إليها، وهذا لعب دوراً رئيساً في صناعة الديستوبيا، إذ كان سبباً من أسباب اغتراب الشخصيّة، ويعدّ إبراهيم عبد المجيد من روّاد هذا النوع من الكتابة الروائيّة الذي ظهر مع روايته «في كلّ أسبوع يوم جمعة» 2009، التي بنيت على شكل منتدى إلكتروني، وكان لها دور طليعيّ نتحدّث عنه في مقام آخر في أحداث ثورة 2011، وتابع ذلك في روايتيه «قطط العام الفائت» 2016، و»قبل أن أنسى أنّي كنت هنا» 2018، ولم يحمله هذا التطوير المستمرّ والشجاع لكلّ من رؤيته وأدواته، على التخلّي عن الشكل الكلاسيكيّ للرواية، وهو الذي قدّم لنا في ثلاثيّة الإسكندريّة روايات بنزوع ملحميّ فريدة في تقنيّات كشفها عن تاريخ العلاقات والهويّات، والهجرات وكنه حركة التاريخ: «لا أحد ينام في الإسكندريّة» 1996 و»طيور العنبر» 2000، و»الإسكندريّة في غيمة» 2013، ثمّ عاد إلى ذلك في «أداجيو» 2014، وحين كتب عن القاهرة منحنا خريطة سرديّة جماليّة للحياة الثقافيّة والتحوّلات السياسيّة وقصص الحبّ في «هنا القاهرة» 2014، لكن سنجد في هذه النصوص دائماً عناصر رومانسيّة أساسها العجيب. لابدّ في كلّ نصّ من هذه النصوص أن تصدّقه بسبب بنائه اللغويّ الوقائعيّ والتهكّميّ الممزوج بعناصر العجيب أو عناصر الفانتازيّ وصولاً إلى الديستوبيا، ذلك أنّ: «اللغة الأدبيّة لغة اتفاق، ولا يصحّ فيها اختبار الحقيقة»، كما يشير تودوروف، وقد استطاع إبراهيم عبد المجيد منذ نصوصه الأولى أن يشتغل على تقنيّاته، فالرواية كما أقول دائماً ليست حكايات وأفكاراً وحوارات وحسب، بل هي بناء، والبناء يقوم على الأساليب، والأسلوب يعني تقنيّات تحتاج إلى تطوير، لذلك يبرم عبد المجيد مع متلقّيه ميثاق قراءة محكم، بتعبير أمبرتو إيكو، عبر صناعة الصورة، بحيث نتجاوز معه اختبار الحقيقة إلى المتعة الخالصة، وتذكّروا معي «المسافات» 1983 و»الصيّاد واليمام» 1985 لنصل إلى حيث «السايكلوب» 2019.
٭ كاتبة وروائية من سوريا