السباع

الشعوب العربية الإسلامية شعوب غريبة، شعوب التكرار الذي لا يعلم أحداً، شعوب الدوران في الدوائر المغلقة، شعوب الأخطاء المتكررة وردود الفعل المتكررة والحلول الفاشلة المتكررة كذلك. في العموم تكرر البشرية أخطاءها دون أن يعلمها التاريخ دروسه البدهية، إلا أن المئتي سنة الأخيرة، على وجه التقريب، قد علمت شريحة كبيرة من البشر كيفية تعلم الدروس والعبر وكيفية الإسراع في خلق الحلول الناجعة وتثبيتها في المجتمع بالعقل والمنطق، إلا شريحتنا، تلك الشريحة الغريبة التي تجتر حياتها بذات تفاصيلها دون أن تتعلم درساً أو تعمل تغييراً حقيقياً في ظروف ومعطيات حياتها.
كل رمضان نختلف الاختلافات ذاتها، نختلف على البداية ونختلف على النهاية ونختلف على حرية الممارسة ونختلف على المعنى الحقيقي للعبادة، كل رمضان نكتب المقالات ذاتها عن الاختلاف في تحديد المواقيت وعن الخلاف حول الجهر بعدم الصيام وعن المخالفة الأخلاقية التي تحدث إبان هذا الشهر في كل مناحي الحياة، بداية من إهمال الوظائف والتراخي في تأدية الواجبات ونهاية بالمبالغة في المأكل والمشرب والملبس، حتى تحول رمضان من شهر زهد لشهر التخمة المَعِدِية والمظهرية. كل رمضان نسوق الحجج العلمية ذاتها، ونتناقش من المنطلقات الإنسانية ذاتها ونتجادل من الأسباب الأخلاقية ذاتها، لتصوم الأمة في أيام مختلفة ولتفطر في أيام مختلفة، وليتم القبض على بعض العمال المجهدين في الشوارع بتهمة المجاهرة بالإفطار، ولترتفع نسبة التخمة والنوم توازياً مع انخفاض درجات الصبر والرحمة والحلم، كل رمضان نقول الأقوال ذاتها، ونأتي بذات الأفعال ونختلف في ذات الاختلافات.
هذه السنة، كما كل سنة، اختلف العالم العربي الإسلامي حول بداية شهر رمضان ونهايته، إلا أن إعلان نهاية الشهر هذه السنة جاء محملاً بمزيد من الجدل؛ حيث أعلنت جهة فلكية في السعودية، ولأول مرة اختلافاً مع الحساب الفلكي المعتمد عادة، أنه سيتعذر رؤية الهلال يوم الثلاثاء بالعين المجردة حتى وإن ولد الهلال فلكياً يومها، وعليه فإن عيد الفطر سيكون الأربعاء، وبمثل ذلك قال الفلكي الكويتي عادل السعدون، في حين أن الفلكي الكويتي الشهير صالح العجيري قال بالثلاثاء كأول يوم للعيد وتبعه في رأيه عدد آخر من الدول العربية الإسلامية، لينقسم المعيدون على يومين، كما هي الحال في أوقات الأغلبية الغالبة من أعيادنا، وليأخذ النقاش بعداً طائفياً مريراً هذه السنة فاق حوارات السنوات السابقة.
والحكم بدهي في هذه الحالة، لدينا اليوم تكنولوجيا قادرة على أن تجزم بإمكانية رؤية الهلال بالعين المجردة من عدمها، كل المطلوب من المسلمين العرب، حيث تنتفي هذه المشكلة عند غالبية المسلمين غير العرب، أن يتفقواعلى ما إذا كانت نهاية الشهر الفضيل تتطلب رؤية الهلال بالعين المجردة أم الولادة الفلكية له، تفصيل دقيق بسيط لن يؤثر على حيواتنا الدنيوية ولن يغير من منظومة القيم والأخلاق ولن يمس المصالح ولن يبدل فكرة جذرية عقائدية مطلقاً، تفصيل منمنم يمكن فعلياً الوصول لاتفاق واحد حوله، ومن ثم إعطاء الفرصة للمسلمين لعيش ختام شهر رمضان المتمثل في الاحتفالية الجماعية كما يجب أن تكون: جماعياً.
إن الأغلبية العظمى من الممارسات الدينية العباداتية هي ممارسات جماعية: الصلاة والصيام والاحتفاء بالأعياد والزكاة والحج وغيرها، وما الاختلافات الفقهية على تفاصيل هذه الممارسات سوى نزعات لتفرقة صفوف المسلمين أكثر وتوزيعهم بصرامة على طوائفهم وتعزيز فكرة الفروق العقائدية بينهم. ما يمكن أن يوحد صف المسلمين هو توحيد ممارساتهم الدينية، وأسهل ما يمكن توحيده هو يوم يصومونه ويوم يفطرونه، «مش إعجاز يعني»، وإذا كانت الرغبة إثبات صحة طائفة فوق طائفة وتعزيز الفوقية لهذا الجانب فوق ذاك، فهناك العديد من القضايا والمسائل الأكثر عمقاً والأشد تعقيداً والتي تحتمل التخالف والاختلاف والجذب والشد حولها، حيث هي فعلاً محط نزاعات مريرة على مدى مئات السنوات، أما موضوع بداية الشهر الفضيل ونهايته، كما موضوع بداية ونهاية موسم الحج، كما موضوع بداية ونهاية شهر محرم، فكلها قضايا بسيطة اليوم يمكن أن يكون العلم في خدمتها، وكل المطلوب منكم أن تضعوا قاعدة متفقاً عليها، والعلم يقوم بالباقي. دعوا الناس تنسى خلافاتها العميقة الجذرية على الأقل في الأعياد، أعطوا الناس مهلة من الشعور بالفوقية وامتلاك الحق فوق الآخرين، فهذا شعور مرهق مكلف، وليشعروا ولو لمرة بأنهم كلهم في الصواب مسلمون، مرة واحدة، في مناسبة سعيدة واحدة، ثم اختلفوا ما شئتم، القضايا لا تنتهي وجيوب «السباع» لا تخلو.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للدكتورة ابتهال وللجميع
    وما علاقة من لايصومون بالصيام يقول الاخ عبد الله ويزيد عليها دعونا وشاننا اذا كان الامر كذلك فلماذا لا تدعنا وشاننا ناكل ونشرب متى ما نريد واين ما نريد وليتقبل الله صيامك وصلاتك وليعاقبنا الله على اختلافنا معك

  2. يقول عبد الكريم البيضاوي.:

    “.. فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..” من الآية 185 من سورة البقرة.
    مسلحين بهذه الآية يقف جل شيوخ الإسلام رافضين لأي تغيير . هناك شيخان من أستراليا معروفان يقولان بأن الصوم ليس بواجب حتى, بدورهما يستشهدان كذلك بهذه الآية من نفس السورة ” وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184).يطيقون ولايفعلون وتطوع.
    على أي إن اتفق المسلمون العرب على يوم واحد للبدء وللختم , فمن يضمن أنهم لن يتفقوا كذلك على أمور أخرى أكثر أهمية كقلب أنظم الحكم في أوطانهم. الأفضل أن تسود الفوضى المنظمة إلى أجل غير مسمى.

  3. يقول فادي / لبنان:

    كيف كان المسلمون يحددون بدء وانتهاء الصيام
    ايام الرسول عليه السلام ؟

  4. يقول ابن الجاحظ:

    قيل فى الأثر ” لا ينفع العطار و العقار ما أفسده الدهر ” …..عطل العقل و عمم الجهل و رضى الجميع بحالهم …….

  5. يقول المغربي-المغرب.:

    الموضوع لاعلاقة له بالإسلام والمسلمين. ..ولكنه يرتبط بإرادة التخلف والبلقنة التي يحرص الإستعمار وبيادقه على ترسيخها..فالنصوص والآثار واضحة في موضوع الرؤية والتعدد في اعتبار محصلتها. ..وليس هناك جديد يمكن الاعتماد عليه. .أو تغيير المرتكزات المعروفة من خلاله. ..مع التركيز على الخصوصية العربية في هذا المجال التي تحددها إرادة الحكام في استغلال شعائر الدين في ترسيخ سياسة البلقنة والتردي. ..ولا أعتقد أن أغلبية المسلمين في القارات الخمس…وفي الدول التي يشكلون اغلبيتها أو جزءا كبيرا من سكانها مثل ماليزيا وسنغافورة. ..واندونيسيا. …الخ تأثروا بهذا اللغط السنوي. ..أو تعطلت إرادة الإنتاج عندهم بسبب الصيام. ….وهو مايعني أن إرادة تشويه الدين المعتمدة استعماريا لاتجد صداها إلا عند العرب سواء بالتطرف…أو بالرغبة في تنفير الناس منه تحت مسميات جوفاء….سعى اليها المحنطون لارضاء من وضعوهم على الكراسي. …وشكرا للجميع.

  6. يقول عبد المجيد - المغرب:

    إذا كان الحديث عن توحيد رؤية هلال الصيام وهلال الإفطار هو بسبب الغيرة على وحدة المسلمين، فهذا جميل ومحمود، أما إذا كان ذلك فقط للمناكفة والمشاكسة فلا أعتقد أن هناك طائلا من وراء الحديث في موضوع ليس هو وحده ما يفرق المسلمين ولكن ما يفرق المسلمين هي أشياء كثيرة. والغريب هو أن من يدعون إلى توحيد رؤية الهلال ربما غيرة على وحدة المسلمين، هم أنفسهم الذين- من حيث يدرون أو لا يدرون- يريدون تقطيع أوصال وحدة المسلمين بالدعوة إلى التسامح مع المجاهرة بالإفطار في رمضان!
    لا حول ولا قوة إلا بالله!
    ملاحظة: استشهد أحد المعلقين هنا بالٱية الكريمة ‘ فمن شهد منكم الشهر فليصمه” ربما في معرض حديثه عن الرؤية البصرية للهلال في حين أن ( شهد) في الٱية يقصد بها الحضور والتواجد وليس الرؤية.

  7. يقول منير الصقري:

    أنا أتضايق من هذا الاختلاف الحاصل كل عام في تحديد رمضان والعيد وشهر ذي الحجة، وأسأل الله أن يتفق المسلمون، ولكن لماذا لا ننظر إلى هذا الاختلاف من باب اختلاف أمتي رحمة! أتمنى من الكاتبة أن تناقش قضايا الفساد وانعدام التوظيف وانتشار المحسوبية والاستبداد وقتل الناس ورميهم في النهر، فهذه المواضيع تهمنا وتفيدنا نحن الشباب وهي دليل على شجاعة الكاتب بدل الدوران في نفس المواضيع كل جمعة

  8. يقول عربي حر:

    تحية لقراء القدس العربي
    سيد منير الصفري
    تريد من المثقفين مواجهة الفساد والاستبداد
    أليست النخب عندنا العلمانية خصوصا هي من تشكل العمود الفقري للأنظمة.
    أليست نخبنا المحترمة هي من تتحكم في التعليم والاقتصاد والاعلام والفن وهي الراعي الأساسي للاستبداد العربي .
    ما بين شعوب تقاتل من أجل حريتها وانعتاقها فمنهم من قتل وهجر و عسكر متشبت بالسلطة يقف المثقف ويناقش رؤية الهلال وحق الإفطار
    هزلت

  9. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    أنا كذلك أرى أن الأمر ليس مهما كي ندور في حلقته المفرغة، لكن الحل عندي ربما لا يتماشى مع
    الرأي السائد، و هو أن نكتفي ب “.. فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..”. نقطة إلى السطر.
    .
    هناك جانب بيولوجي عند البشر و خصوصا النساء بسبب دوران القمر .. و أظن أنه من الحكمة أن نراعي
    هذا كذلك، و نبقي تحديد ظهور الشهر من عدمه جغرافيا فقط. و بهذا نقفل الموضوع لننتقل إلى مواضيع أخرى.
    .
    أرى أن الآية أعلاه تراعي تأثير القمر البيلولوجي ولذلك تحصر المسألة جغرافيا فقط.

  10. يقول إيدي-جنيف:

    هي فعلًا شعوب الدوران في الدوائر المغلقة, شعوب تلد أجدادها بحيث أن كل جيل يزايد على سابقه في المحافظة والأنغلاق على الدات, شعوب لا تدخل الحداثة إلّا فرادى وتستحيي أن تدخلها جماعة, أولًا لغياب مشروع جماعي, وثانياُ لأن الثقل الغالب يدفع نحو الألتحاق بالماضي والدوبان فيه.
    الدهنية العربية هي في الأغلب دهنية سلفية نوستالجية تغسل القديم بمياه التقادم ثم تطرحه بديلُا لا يُعلى عليه اليوم وغداَ.
    الحاضر العربي هو “ماضي الأيام الأتية” * .
    لا خروج عن المألوف والمعروف, يكفي الأعتصام بمنطقة الأمان إلى أن يكمل التاريخ دورته.

    * عنوان ديوان للمبدع الراحل أنسي الحاج

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية